سير وأعلام عرض كتاب

محمد القشعمي وبدايات تنتظر!

Print Friendly, PDF & Email

محمد القشعمي وبدايات تنتظر!

بدايات وما قيل عنها هذا هو عنوان سيرة ذاتية أخاذة ألفها الأديب والمؤرخ الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي، وأصدرت دار الانتشار العربي الطبعة الثانية منها عام (2010م) في (293) صفحة مكونة من إهداء وواحد وثلاثين مقالة عن البدايات، ثمّ أربع مقالات ولقاء صحفي تحكي جميعها قصة البدايات والتفاعلات معها، يتلوها ثمانية عشر مقالة لكتّاب فيهم كبار ومشاهير تناولوا البدايات بالتحليل والقراءة، فملحق بمعاني خمس وخمسين كلمة شعبية واردة ضمن النص، ولو اختبرنا بها بعض الناشئة لما عرفوا أكثرها فيما يبدو.

ففي هذا النص البديع المباشر سرد متدفق اشتمل على تاريخ وأحداث وشخصيات، وتعريف بالزلفي وعقلها وقراها، ولغة دارجة وألفاظ قد يكون بعضها دارسًا، وأمثال شعبية مع تفسيراتها، وقصص قديمة، وأدوات وعادات وطبائع، وألعاب ومواسم، وشهادات سيقت على هيئة إشارة أو عبارة عسى أن يلتقطها القارئ، وشيء من الماضي كاد أن يندثر خبره لولا بقية من أهل المروءة والقلم والغيرة على التاريخ أمثال أستاذنا اليعربي أبو يعرب.

وفي البدايات تصريح أليم بقسوة التربية وعذابات الطفولة التي من حقها الوداد والتلّطف، ولا شك أن مبعثها حرص الأب بيد أن هذا مبلغ علمه واجتهاده أو أثر لبيئته المعزولة القاسية، واللافت الجميل أن هذه القسوة لم تجعل من الفتى عاقًا بأبيه، ولا ناقمًا على مجتمعة، ولا متأففًا من الصفة المشيخية التي ينتمي إليها والده خاصة أنه لاحظ في طفولته وجود نماذج أخرى لديها شفقة وحنان تجاه صغارها مع أنها من رحم البيئة التي ينتمي إليها والده.

كما تحفظ بدايات لنا عددًا من الوقائع مثل وفاة الملك عبدالعزيز، وموكب الملك سعود، وحال المدارس القديمة، وتفاعلات الناس مع شجون إخوانهم العرب في الجزائر ومصر وفلسطين والعراق وغيرها، وفيها توثيق بدقة عالية لصور مجتمعية كثيرة كما وقعت بألفاظها وتسلسلها، وبهذا الحفظ ترتبط الأجيال الحاضرة والقادمة بماضيها وقديمها بما فيه لتقبس من صوابه وتنجو من غلطه، وهذا الربط هدف أصيل عند كاتبنا.

كذلك تروي بدايات القشعمي حكايات مرعبة أو محزنة أو طريفة، فمن المرعب قصة الرجل الذي كاد أن يأكله “الحنشل” في الصحراء بعد أن سلبوه كل ما معه حتى ملابسه، ومن لؤمهم سؤالهم إياه عن مقارنة طعم لحمه بطعم لحم الحمار الذي أكلوه يوم أمس، فلم يكتف القوم الخبثاء بأسره، وسرقته، وتعريته، والشروع في إعداده للطبخ، بل صيروه مقارنًا بالحمار.

ومن حزينها حكاية النفر الذين سقطوا في البئر فمات نصفهم، وعاش نصفهم الآخر، ونطح الثور لأمه، وبعض العقوبات البدنية أو النفسية التي نالت الفتى في طفولته، ووجبات الطعام التي تقوم على عظام الإبل فقط أو الجراد، والجروح الكثيرة التي تعرض لها الفتى من الضرب أو المشي حافيًا أو السقوط، والقضاء الاضطراري للحاجة عدة مرات، وما يواجهه المسافرون على الجمال أو السيارات القديمة من صعوبات في الطريق الطويل سواء في رحلاتهم إلى الرياض أو إلى الحج في مكة، وللمؤلف رواية تستحق التقدير عن طريق الحج وطريقة القوافل على الجمال أو السيارات، والحمدلله على الأمن والتيسير.

أما طريفها فكثير كثير، ولاريب أن تقول السيدة والدة المؤلف لابنها بلهجتها العامية: ” واخزياه! كيف تكتب هذه الخرابيط؟ وكيف ترضى الصحيفة بنشرها؟”، فمن الطريف ولادة المرأة من كمها، ومدفع الشريف الذي يمتلكه والده المزواج المهندم، والرجل المبتلى بإشكال في مخارج الحروف تقلب حرف الكاف إلى تاء محدثة إرباكًا محرجًا مع نطق بعض الكلمات، ويدخل ضمنها كيفية حصولهم على الكهرباء خلسة من أسلاك ممدودة لبيت جارهم الوجيه فقط، وما جرى بعد ذلك.

أيضًا يذكر لنا القشعمي شهادته على بعض مواقف بيئته وعصره دون أن يتخذها سبيلًا لانتقاص المجتمع أو التهكم عليه؛ لأن الرجل المثقف البصير يعلم أنها سمة بشرية عامة تزيد عند قوم وتنقص لدى آخرين، ومنها كيفية استقبال الناس للسيارات والمذياع والمدارس ومكبرات الصوت، ونظرتهم نحو من لا يلبس شيئًا على رأسه أو من يرتدي أشكالًا معينة من الملابس، وموقفهم من السفر لبعض البلدان والأكل في الشارع أو المطاعم، وغيرها مما لا يستغرب وحقه أن يُروى دون أن يُستهجن الآباء والأجداد.

ومما يرد في البدايات حكاية الفتى مع القراءة والمكتبات والكتابة، وصلاحيات كبيرة البيت التي فقدت الآن مع انكفاء الأسر على نفسها، وندرة اللحم إلّا في عيد الأضحى، وتأخر معرفة القرى للشاي والسكر، وشراء خمس خبزات بربع ريال، ومخزن “العمة” الغاص بأكياس ممتلئة بالمال زمن الفقر، وعلاقة الزوجة بزوجها إذ لا تنادي اسمه، ولا تنظر في عينيه، ولا تأكل معه، وهو مسلك غريب مع تقدير ما فيه من حياء وتوقير إلّا أن الحب والوداد غابا عنه ومنه!

إن الأستاذ الكاتب محمد بن عبدالرزاق القشعمي الذي وثق تاريخنا الصحفي والثقافي والأدبي، وعرّفنا برجالات كثر بعضهم لولاه لغدا نسيًا منسيًا، وفيهم من لا تستسيغ بعض الأمزجة والأهواء ذكره أو الإشارة إليه، صار فينا ذاكرة وطنية رحبة، وإنه لجدير بمزيد من التكريم والاحتفاء من مؤسسات مجتمعه، مع إبراز مؤلفاته وأعماله ونشر مقالاته ومقابلاته، ونحن ننتظر ذلك وأكثر من مؤسساتنا المحلية والعربية المعنية بالثقافة والتاريخ والكتاب، بيد أننا معاشر القراء ننتظر منه إكمال هذه البدايات المتألقة بأحداث ما بعد الطفولة إلى يومه الحاضر بنفس المستوى من الصراحة والعذوبة والتدفق والتوثيق، ومن الله التوفيق حتى تصبح أكثر من سيرة، وأكثر من متعة ومعرفة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض 

ahmalassaf@

الأربعاء 14 من شهرِ محرم عام 1442

02 من شهر سبتمبر عام 2020م  

 

Please follow and like us:

One Comment

  1. نعم الكاتب والاديب والمورخ الاستاذ عبد الرزاق القشعمي . الكاتب الموهوب الذي وصل بين الماضي والحاضر كتب بواقعية ماعاشه لكل عصر ميزاته الحسنه ومعاناته وهذ من سنن الحياة . ولقد نقلها بامانة وشجاعة بصورة صحيحة وواقعية . ولك ايتها الام الكريمة انت ام لكاتب واديب ومورخ موهوب وقدير وناجح لم تكن كتاباته خرابيط ولكن واقع بحلوه ومره ولقدكتبه بواقعية ما عاشه هو وجيله . ولم ينتقي كتابة الصورة الرومانسية الخالية من اي كدر. وفقه الله لما يحبه ويرضاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)