سياسة واقتصاد

لا معنى للحياة بلا معنى!

Print Friendly, PDF & Email

لا معنى للحياة بلا معنى!

يحتفل الروس كلّ عام في التاسع من شهر مايو بانتصارهم على النازية الألمانية عام (1945م)، ويقيمون احتفالات عسكرية مهيبة في الساحة الحمراء بموسكو، مع أن الدولة التي انتصرت على النازية ليس لها وجود الآن بعد سنوات من تفكك الاتحاد السوفياتي الذي كان قوة عظمى تقارع الولايات المتحدة الأمريكية، وليس التشبث بالمعنى أمرًا غريبًا على جبلّة الإنسان وطبائع المجتمعات، فالمعنى يمنح للوجود قيمة، وقوة، وجمالًا، وعراقة.

أُعلن عن قيام الاتحاد السوفياتي في أواخر شهر ديسمبر من عام (1922م) بعد ثورة وحروب داخلية، وظلّ الاتحاد يتمدد حتى غدا في عام (1956م) كيانًا يضم خمس عشرة دولة تقع في اثنتي عشرة منطقة زمنية، ويوجد فيها خمسة أنواع مناخية، ثمّ تلاشى هذا الاتحاد في أواخر شهر ديسمبر عام (1991م)، قبل أن يكمل عامه السبعين.

استمر الاتحاد السوفياتي قطبًا يعادل القطب الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وتسابقت الدولتان في التسلح التقليدي والنووي، وفي حروب بينية باردة، أو ساخنة على أراضي الآخرين، مع منافسة فضائية واستخباراتية، واستقطاب نشط للمعسكر الشرقي أو الغربي وأحلافهما، وكم من مرة ومرة خشي العالم من اندلاع حرب كونية بينهما، وهو مالم يكن حتى في زمن حكم رجال الروس الأشداء، أو ذوي الجرأة لدرجة التهديد بالأحذية في قاعة الأمم المتحدة!

وحين تسلّم “ميخائيل غورباتشوف” مهامه المختلفة في زعامة الاتحاد السوفياتي منذ عام (1985م) لم يطرأ على بال المراقبين فضلًا عن المتفرجين أن هذا الرجل سيعلن عن تلاشي هذا الاتحاد الضخم، ولم يكن في خلد متشائم أو متفائل بأن ذلك سيحدث أصلًا، وأستثني من ذلك سكان دهاليز الكواليس، فلربما أن المستقبل يكشف شيئًا مما كان، وكيف ولماذا وغيرها من الاستفهامات، حتى لو روي عن “تشرشل” قوله: الاتحاد السوفياتي بلد من الألغاز الملفوفة بالأسرار المسربلة بالغموض!

بدأ “غورباتشوف” بإجراء إصلاحات اقتصادية وعامة، وألغى الرقابة على وسائل الإعلام، ودعا إلى إحداث تغييرات مجتمعية على رأسها زيادة النشاط السياسي للشعب، وأطلق على سياساته “البيريسترويكا” التي تعني إعادة البناء، وتخلى عن انتقاد الغرب والتلويح بتهديده، وطوى صفحة الحرب الباردة، وأنشأ برامج إصلاحية داخلية وخارجية، ترتكز على تحديث بناء الدولة، ومنح المزيد من الحريات السياسية، فنال على إثرها جائزة “نوبل” للسلام عام (1990).

ويبدو أن نشاط الرئيس الإصلاحي أوجد طبقة تجيد الانتقال من قارب يغرق إلى آخر يجري، فضلًا عن فئة مهمشة فيما مضى وجاءت إليها الفرصة لتظهر وتعلو، فهاجمت هذه المجموعات الجديدة بتنسيق أو بدونه النظام القديم بشراسة، وأحالت إليه ما أصاب البلاد من نكسات، وأبرزت عثراته وأخطائه الحقيقية أو الملصقة به بنوع من التشفي، حتى أن “غورباتشوف” نفسه قال فيما بعد بإن أفول الاتحاد السوفياتي نجم عن القمع، وكبت الحريات، وخنق الاقتصاد، والتسلط حتى في دقائق الأمور، وسيطرة الحزب الواحد على الحكم، وثبت الرجل على إيمانه بأن مشروعه في إشاعة الديموقراطية، وإلغاء المركزية، كان سينقذ الاتحاد الكبير لو تم تمامه.

لذلك اقتنص الرئيس الأمريكي “جورج بوش” الأب فرصة جلوس الماريشال “سيرغي أخرومييف” إلى جواره في قمة هلسنكي (1990م) أثناء مرافقته لوفد بلاده برئاسة “غورباتشوف”، وسأله عما يجري في موسكو بعد هجوم قوى “البيريسترويكا” على النظام القديم بحدّة؛ فأجابه الماريشال العقائدي المخلص لما آمن به: أنا مرتبك! فبعد تكريس حياتي لمبادئ الاتحاد السوفياتي يُقال لي بأن صنيعي كله خطأ!

ووصف “بوش” تلك اللحظة من حياة الماريشال بأنها عويصة؛ إذ وجد أن مبادئه التي بنى عليها حياته ونضاله صارت في موضع المساءلة بنكهة التجريم، وغدت هدفًا سائغًا في مرمى الخصوم. كما عرف القريبين من الماريشال أنه عدّ ما جرى لكيان الدولة كارثة شخصية، وهو شعور شاركه فيه بعض مواطنيه الذين أفصحوا عن ندمهم على زوال الاتحاد خاصة بعد أن فقدوا آمالهم السابقة، ولم يظفروا بالوعود الجذابة، وحرموا من عظمة الانتماء لقوة كبرى، ولربما أن الحنين تسرب إليهم لأيام ستالين مع جرائمه، أو أن أمثلهم طريقة تمنى لو كانت خطوات الإصلاح مبكرة، أو أن أيام “يوري أندروبوف” قد طالت لأنه رجل دولة مخضرم جدير بإدارة الأزمنة العصيبة، والمراحل المفصلية.

لأجل ذلك لم يحتمل “أخرومييف” ضياع القضية والأفكار التي آمن بها ودافع عنها، فقاد في التاسع عشر من شهر أغسطس عام (1991م) زملاءه الثابتين على رأيهم في “لجنة الدولة لحالة الطوارئ” للإطاحة بغورباتشوف في محاولة أخيرة للإبقاء على الاتحاد وحماية الكتلة الاشتراكية من الانهيار، فلما أيقن بالفشل والهزيمة انتحر تاركًا وراءه رسالة تنفي عن حياته المعنى، وكسب الموقف ولم يظفر خصماه “غورباتشوف” و “يلتسين” بشيء، فالأول فقد السلطة مباشرة، والثاني تنازل عنها لخلفه “فلاديمير بوتين” بعد سلسلة من الخيبات.

ويجدر بنا حين يحتفل الروس بيومهم بعد أن استعادوا شيئًا من الهيبة والتأثير، تجاوز المعرفة الثقافية إلى الإفادة من مصائر الأمم الأخرى، فما أغنى الحياة التي ترتبط بالمعاني السامية، والقيم النبيلة، وما أحرانا باغتنام أيّ جديد يناسب في حقيقته، وتوقيته، وطريقة تنفيذه وإدارته، مع حفظ الأصول والثوابت، فها هي العبر ماثلة أمامنا في الزمن الماضي والمعاصر، والله يجعلنا ممن قرأ الأوضاع بحصافة، وصنع المسار الذي يستجلب به القوة والمنعة والمكاسب في عاجل الأمر وآجله، لنخالف دعوى التاريخ الذي يكاد أن يصرخ بأسى: ما أكثر العارفين، وما أندر المستبصرين!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

السّبت 16 من شهرِ رمضان عام 1441

 09 من شهر مايو عام 2020م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)