سير وأعلام عرض كتاب

تاليران: الكاهن والوزير ورجل الدولة!

Print Friendly, PDF & Email

تاليران: الكاهن والوزير ورجل الدولة!

سيكون اسمي عرضة لجميع التفسيرات، وفعلًا احتار كتّاب سيرة “شارل موريس تاليران” (1754-1838م) في أمره حتى صعب عليهم تصنيفه، ومع اختلافهم حوله فقد اتفق أكثرهم بأن فرنسا لم تعرف في تاريخها منذ القرن التاسع عشر رجلًا بمثل دهائه، وأما هو فيعلن أنه يستمتع بشرف المبالغة فيما يقال عنه مدحًا وقدحًا، ويثق بأن الأجيال اللاحقة ستصدر حكمًا أكثر تحررًا واستقلالًا من معاصريه بسبب الحياد والانصاف، وربما يحسنون تقدير عقله الذي آل إلى نهاية قبيحة كما سيأتي.

ويكاد يجمع من دوّن عنه على أن نهجه يمثل الحكمة المغطاة بالمفاسد، وأنه قادر على تعطير الزبالة، فحياته محاطة بالموبقات، وهو في تصرفاته إما يتآمر أو يتاجر، ولا تبدو على وجهه علامات التأثر حتى لو ركل من الخلف؛ لأنه ليس من النوع الذي يدهشه شيء أو يصدمه حدث أيًا كان بما وهب من هدوء أعصاب وفتور ملامح، وما أكثر ما ثارت حوله العواصف الحاصبة فلم تصب منه بينما اقتلعت الآخرين، وحتى لو لامسه شيء من هواء الرياح العاتية وغبارها فلن تتحرك منه شعره!

كانت الأسر العريقة في فرنسا تُعدُّ أنجالها لخدمة الملك والاقتراب إليه من خلال البلاط أو الجيش أو الكنيسة، وتعبر تلك الأسر عن ولائها للحكم بولوج هذه الميادين والمشاركة الكثيفة فيها، ولأن تاليران أصيب في طفولته المبكرة بحادث تضررت منه ساقه وكاحله، وأهمل أهله علاج الحادث وضعف قدمه الذي ولد به، لم يجدوا له عملًا مناسبًا إلّا في الكنيسة بعد تعليم ديني، دون أن يخطر عليهم أن طفلهم المستضعف بسبب عاهته سيتجاوز عظمة كرادلة سابقين مثل “ريشيليو” وتلميذه “مازارين”.

فلم ترق للطفل والفتى والشاب هذه الطريقة، واكتشفت أمه فساده المبكر بملاحظة أعماله الموزعة بين القمار والفتيات، فكرهت أن يغدو ابنها من رجال الكنيسة وهو في هذا الوضع المنحط، بينما اضطر هو للاستمرار وإن وصف نفسه بالكاهن الشرير، إلى أن حانت له الفرصة فتخلى عن صفته الدينية، ومع ذلك لم تصدر عنه كلمة سيئة تجاه الدين أو نحو الكنيسة أو رجالها، وكان شغوفًا بالكتب الدينية، ويعدّ نفسه واحدًا من أبناء الكنيسة ولو كان عاقًا بسلوكه المتهتك الماجن، والتهم التي رمي بها كالماسونية والإلحاد.

حاول تاليران تعويض عرج قدمه بلذتين أولهما جسدية من خلال الطعام والنساء، والثانية فكرية بالقراءة والتحليل، واغتنم أنه عاش في عصر الجمعيات والمفكرين الكبار مثل “فولتير ومونتسكيو وروسو” الذين يجتمع خلاصة فكرهم على مقاومة الانفراد بالسلطة ونفي الحق الإلهي، ومدافعة طغيان الكنيسة، ثمّ قضى في معهد ديني خمس سنوات من الصمت والقراءة؛ فالمكتبة الجيدة كما صرح فيما بعد تقدم كل الإسعافات اللازمة لشتى الأوضاع النفسية، وأنارت الكتب عقله دون أن تخضعه، وأعظمها لديه أكثرها ثورية، وبعد بناء معرفي وثقافي متين أصبحت خطبه تستقبل بعاصفة من التصفيق، وتنال كتاباته إعجاب القراء، أو العجز عن نقدها بما يسقطها، واشتهر بأنه خطيب مفوه وذو أسلوب قلمي رشيق، وخلب بطلاقة لسانه عقول الرجال، وسيطر على أفئدة النساء؛ فالأذن تعشق قبل العين كثيرًا.

كما ارتبط مع عدة نساء وعشيقات في آن واحد، وكنَّ وسيلته للدخول إلى الصالونات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الباريسي الذي تفرغت نساء طبقته المخملية للفضائح والمكائد والمؤامرات، فاكتشف تاليران أن المرأة تستطيع النجاح في المكان الذي يفشل فيه الرجل، وأن تحقيق الأهداف يمر بصالونات النساء ومخادعهن، فالطبخ السياسي يتم في المضاجع؛ لذلك لم يتوان عن بناء علاقات في ذات الوقت مع عدة شقيقات، ومع أم وابنتها، وما أقبح روائح الخيانة التي تفوح من قصص القوم حتى كثر فيهم اللقطاء وتقاسم النساء في أبشع امتهان تتعرض له المرأة حين تغدو سلعة للمتعة وسلمًا لبلوغ المآرب فقط دون قداسة الميثاق الغليظ للزوجية، وبلا درع أسري متين.

ومع ولعه بالنساء إلّا أنه يثمن صداقة الرجال الأذكياء، وله معارف من مختلف التيارات وعلاقات ودية معهم، ويرتاد مجالس الطبقة الراقية، وبعد زمن أصبح عنده مائدة تعاظمت شهرتها في الآفاق، ودأب على إقامة الولائم العامرة التي يستقطب لها علية القوم، وصار طباخه الماهر أحد أدواته الرئيسة في التأثير، ولم يهمل فئات المجتمع وطبقاته؛ فأوعز لمعاونيه أن يستكشفوا مطالب القاعدة الانتخابية حتى يعرف بأيّ لغة يخاطبها؛ لأنه يتوجه في مقترحاته دومًا للأغلبية استجابة لنصيحة رجل خبير قال له: يجب على رئيس الوزراء أن يدير الشؤون العامة بالحركة والاتصال الدائم بالمجتمع، فأيقن تاليران أن حياة رجل الدولة وتصرفاته يجب أن تكون طبقًا لمستوى مكانته.

من أعجب شأنه أنه يفعل الشيء ونقيضه، ولا يترك أثرًا يشي به، ويصعب احتسابه على فريق معين، ويقول لكل إنسان ما يتمنى سماعه، وشارك في حكومات متعاقبة أنهى أولها آخرها ومع ذلك لم يتعرض لمحاكمة في الوقت الذي أعدم فيه أقرانه أو سجنوا أو هربوا، بينما حضر هو حفل تتويج لويس السادس عشر، وتنصيب حكومة المديرين، وتتويج نابليون، ثمّ لويس الثامن عشر، وشارل العاشر، وأخيرًا لويس فيليب، وعمل قريبًا منهم في مناصب عديدة!

وأعجب من تأقلمه مع هذه الأنظمة المتغايرة المتناحرة شعوره بأن القدر اصطفاه لهذه المهمة! ففي حين وصفه الآخرون بأنه ممثل كبير على مسرح السياسة؛ لأنه يعرف متى يجب عليه الانتقال من نظام لغيره؛ ومن قارب غارق لآخر يبحر، رأى نفسه مسكونة بكيفية الحفاظ على فرنسا ومصالحها ومكانتها الدولية دون اعتبار للأشخاص والأسماء، وأثبت ذلك في حماية حدود بلاده الطبيعية حتى وهي مهزومة منكسرة تواجه في المفاوضات روسيا وبريطانيا وبروسيا وسائر أمم أوروبا الحانقة على نابليون، والمتضررة من حروبه وجرأته، وشارك بحيوية وإقدام في إرجاع بلاده إلى صوابها المفقود.

كما أنه عبقري المحادثة، عميق الكتابة، وبرهن من خلال محاضرتين على فكر تحليلي نادر، وإحداهما كانت بمثابة دليل عملي لاحتلال أفريقيا، وهو الاحتلال الفرنسي البغيض بمجازره وسرقاته وعدوانه. وعندما سأله نابليون عن سر هذا السحر في الحديث أجابه بأنه يقلد القائد الحربي الماهر فيختار ميدان معركته ولا يتحرك إلّا في منطقة يجيدها، ومن نباهة تاليران في لسانه وقلمه قوله: منح الإنسان الكلام للتمويه عما يفكر به، ولذلك فهو يمتلك قدرة فائقة على إخفاء أفكاره، ويرى أن الدبلوماسي البارع يكمل مهمة القائد العسكري في تحقيق النصر أو الحفاظ على المكتسبات، وطبق ذلك في مؤتمر فيينا (1814-1815م)، وإبان جولاته في دول أوروبا، وخلال سفارته في لندن التي يصفها بقلب السياسة الأوروبية.

وربما أنه استثمر في نجاحاته قدرته على التحليل واستشراف المستقبل، ومعرفته بخلافات المتحالفين ضد بلاده لينفذ منها فيما يخدم مشروعه، ولا يترك مناسبة إلّا يعتصرها لزيادة نفوذه أو ثروته، ولديه جلد في الصبر وانتظار الوقت الملائم للثأر من خصومه، وأظهر مثال على ذلك تعاضده مع نابليون ثمّ ثورته عليه، أو في عدائه مع وزير الأمن “فوشيه” ثمّ تحالفه معه سرًا وجهارًا بعد أن لطخ سمعة هذا الوزير زمنًا طويلًا.

مما قاله تاليران عن وزير الأمن إنه يتدخل في بداية أعماله بكل شيء يعنيه ويدخل ضمن اختصاصه، وعقب ذلك يتدخل فيما يعنيه وفيما لا يعنيه، ويصف مهمته بالقذارة، وأنه يمارسها فوق ذلك بقذارة إضافية، وحين أسرف “فوشيه” بهوس التوقيفات انتقده وزير الخارجية تاليران متهمًا إياه بإيقاف عقارب ساعة الأوبرا، علمًا أن وزير الأمن بادل زميله مشاعر العداء حتى تساءل أمام موظفيه: هل هناك مكان فارغ في سجن المعبد لأزجه فيه؟ ومن اللافت أن الرجلين ينتميان لمدرسة كنسية وتعليم ديني متشابه مع اختلاف اجتماعي وفكري.

وذات يوم اكتشف نابليون خيانة وزيره الأعرج له، ومع ذلك لم يستطع الاستغناء عنه لدهائه، وعلاقاته، وامتلاكه جلّ خيوط اللعبة السياسية، وحلو حديثه مع برودة أعصابه التي تتضح بعد أن أمطره نابليون بشتائم تاريخية علانية أمام الوزراء والحراس دون أن يجيب تاليران عنها أو يتأثر بها، وحين خرج قال لمن سمع هذا السب الفاحش: إنه لمن المؤسف أيها السادة أن يكون هذا الرجل العظيم على هذه الدرجة من التربية السيئة! ولما بلغه خبر موت نابليون بعد خلعه ونفيه علق لمن معه قائلًا باستخفاف: هذا خبر وليس حدثًا!

بينما تأثر بهذا الكاهن الوزير أناس كثر، منهم صحفي شاب اسمه “تيارس”؛ حتى غدا تلميذه النجيب، وأفاد من تصحيح تاليران لأساليبه في الكتابة والكلام، وتعاون معه في افتتاح صحيفة كانت لافتة في طرحها على صعيد الموضوعات، والمنهج، والعمق، وذات يوم سأله الشاب البريء: لماذا توجه أحاديثك صوب النساء وأنا أريد الحديث معك في السياسة؟ فأجابه الرجل ذو السبعين عامًا وأزيد: إن النساء هنّ السياسة يا بني! ويبدو أن الشاب الذكي فهم الرسالة فصار رئيسًا للجمهورية الفرنسية الثالثة.

وبعد حياة مليئة بالأحداث والتجارب، ركن تاليران إلى الراحة في خواتيم عمره مع آخر عشيقة تزوجها وانفرد بها في أحد قصوره -علمًا أن قصور تاليران أصبحت فيما بعد مقرًا للسفارة الأمريكية، أو للرئاسة الفرنسية- وأمضى وقته في القراءة والكتابة وإملاء المذكرات واستقبال الأصدقاء، وافتتح مدرسة لتعليم البنات وملجأ أيتام ومصلى، وكتب وصيته، ثمّ مرض وعاده في مرضه الملك ورجال الكنيسة قبل أن يطلق آخر شهقاته مفارقًا الحياة في اليوم السابع عشر من شهر مايو سنة 1838م، وبعد مراسم الجنازة تقرر تحنيطه فُوضع دماغه في آنية وبغفلة من المحنط “نيكار” حمل الخادم الدماغ وألقاه في مجاري الصرف الصحي، ليسبح مع القاذورات ويخالطها عقل رجل وصفه “بلزاك” بأنه سياسي عبقري سيخلده التاريخ، وخلع عليه “فيكتور هيغو” صفات عظماء الناس والشياطين.

حُفظت عن “تاليران” مقولات محكمة اغترفها من معين خبراته وقراءاته ومعالجاته للأحداث والبشر، ثمّ سبكها في جمل قابلة للتداول والنقل، وربما أستعرضها في مقالة أخرى حتى لا تطول هذه المقالة التي أكتبها عقب فراغي من قراءة كتاب عنوانه تاليران: الشيطان الأعرج “رمز الدهاء السياسي”، تأليف الدكتور خضر خضر، ونشرت المؤسسة الحديثة للكتاب في لبنان طبعته الأولى عام (2016م)، ويقع في (392) صفحة تضم مقدمة وأحد عشر فصلًا، ثمّ كلمات وحكم الأمير تاليران فلائحة بالمراجع.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 21 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441

14 من شهر مايو عام 2020م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. كاتبنا العزيز ..
    لعلك ترغب بأن أقيّد اعترافاتي هنا، وبالذات في هذه المقالة،
    منذ اللحظة التي قرأت فيها هذه المقالة سابقًا ، وأنا أملك الكثير من الإعجاب، حينها لم أكن أستطيع الكتابة ، لأن كبرياء الفشل يلازم الأبجدية، حينها قطعت وعدًا بأني سوف أعود ولو معي بضع كلمات أو أن أسرق بعض الحروف من هنا وهناك، لذا بكل سِعة الإعجاب أقول أن هذه المقالة منسوجة بفنتازيا درامية جميلة تبقي أنفاسك مشدودة معها و لا تكتفي منها بل ترغب بالمزيد المزيد بعمق نتنفس الهواء معها!!
    ، من أكثر المقالات التي أحببتها وطبعت في الذاكرة لأن أسلوب الكاتب فيها ممتع -وليس مستغربًا-وكأنه يحيك خيوط حكاية موجزة مشوقة عن تاليران: الكاهن والوزير ورجل الدولة والعاشق في آن وآحد !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)