سير وأعلام عرض كتاب

إبراهيم الشمسان: أبو أوس وصاحب القوس!

Print Friendly, PDF & Email

إبراهيم الشمسان: أبو أوس وصاحب القوس!

حمل حامل حاذق من مرسل كريم إليّ كتابًا عنوانه: أبو أوس إبراهيم الشمسان: كلمات وأبيات، شهادات وقراءات، أبحاث مهداة، إعداد: أبناء إبراهيم الشمسان، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1443=2022م). ويقع الكتاب في (552) صفحة، ويتكون من مقدمة فيها مختصر السيرة الذاتية لأبي أوس، ثمّ قسمين يحوي أولهما كلمات الأسرة فكلمات الأحباء، ثمّ أبيات تليها شهادات وأخيرًا قراءات، أما القسم الثاني ففيه أبحاث مهداة. ومن اللافت أن أول مقال وآخر بحث كتبتهما زوجه وزميلته أ.د.وسمية بنت عبدالمحسن المنصور، ومع سيطرة الصفة العلمية على البحث حسب طبيعته؛ إلّا أن المقال جاء مزيجًا متجانسًا من العلم والعقل والعاطفة.

وقد تزاحمت الفضائل في هذا الكتاب؛ ذلك أن أنجال أ.د.إبراهيم بن سليمان بن رشيد الشمسان الأربعة أشرفوا على جمعه وبيانه وإخراجه في صورة من صور البر العلمي والأبوي. ومنها كثرة المشاركين من الأقارب والزملاء والطلاب والقراء، واشتمال النصوص على مادة حقيقية علمية أو سيرية أو منهجية؛ فليست كلمات تجري على لسان أو قلم، وما أيسر أن تذروها الرياح فتُنسى؛ لأنها هباء منثور، أو قاع صفصف، لا يسندها برهان ولا رواية ولا واقع كما يكتب آخرون عن آخرين، وصفة غناء المادة تكاد أن تُرى جليّة في جميع المشاركات المدونة بلا مثنوية، وإن كان الاستثناء قاعدة نحوية معمولًا بها!

كذلك من حسنات هذا الكتاب تنوع مصادره؛ فبعض ما فيه منشور في الجزيرة الثقافية إبان رئاسة د.إبراهيم التركي لها، وبعضه ظهر في نشرة جسور التابعة لمركز حمد الجاسر الثقافي تحت إشراف د.عبدالله العريني، وثالثتها أعمال جاءت سراعًا لتشارك في الكتاب بعد أن فاتها عملان من أعمال الوفاء والتقدير لكرام بيننا يستحقون الثناء والتبجيل، وهي فضيلة تتسابق إليها سباقًا جميلًا ثقافية الجزيرة وجسور الجاسر. وأخيرًا فإن جمع شتات عمل في كتاب واحد صنيع حميد، يحفظ التاريخ، ويُبقي على ذكر أهل المروءة، وتلك منقبة إضافية لكتابنا الضخم الذي أعده أوس وديمة وبدر وبدور.

أما إذا أردنا استجلاء طرف مما ورد في الكتاب فسوف نجد إجماع كتّابه على أن أبا أوس مخلص للعلم في تلقيه، وفي فهمه ووعيه، وفي حفظه ونقله، وفي الذب عنه. وتجتمع فيه صفة الباحث العارف بمظان المسائل الصابر بجلد على التفتيش، وصفة العالم الذي يحقق ويحلل ويبدع، ويوافق على بينة، أو يعارض بدليل، وربما أتى برأي مستقل بعد نظر وتمحيص، وحاشاه أن يكون من أهل التقحم لغاية الجرأة على الأسلاف والموروث، أو ليُقال عنه حداثي مجدد كما يتوهم بعضهم. ومن نصحه وصدقه أن شهرة القول لا تبهره، وانغمار الرأي لا يجفله؛ فالحق المستقر في عقله هو رائده؛ يعرضه ولا يفرضه.

ومما لاحظته في منهجه مع الطلبة خاصة في الدراسات العليا ما يستحق الوقوف عنده؛ فهم لديه باحثون وأصحاب وليسوا طلابًا، وإنها لطريقة أسلافنا العظام، وسمة عالم غيور ومربٍّ شفيق، وليس أستاذًا يسبق اسمه الألف والدال وكثير كثير من العناء والعنت والغطلسة“! وإني لعمركم لأقرأ فأطرب، فهو لطلابه مثل الأب، لا يتعالى عليهم، ويحفظ لهم حقهم في المشاركة وإبداء الرأي، ولربما أدى عنهم بعض العمل الإجرائي لتيسير الإنجاز وتسريعه، ولا يأنف من الاعتراف بخطئه وصوابهم، بل يكتب اعترافه ولا يكتفي بإشهاره داخل قاعة يحدها جدران أربعة سميكة، ولا تعجبوا من صنيعه خاصة إذا علمتم أن أبا أوس يجعل طلابه يقدّمون له بعض كتبه؛ فأيّ جلال وأيّ سمو وأيّ تفرد!

كما وجدت في الرجل الكبير خلالًا تعز عند من لا يبلغ مبلغه من العلم؛ فهو الذي يؤلف الكتب الضخمة، والرسائل العلمية المتينة، ويستغرق ثلث قرن لتأليف معجم، ويشارك في إعداد موسوعات، ويشرف على رسائل علمية ويناقشها، ومع ذلك يكتب مقالات علمية في صحافة لا قبل لها ولا عهد بمثل علم أبي أوس ولغته، وليس هذا فقط وإنما يشارك في الوسائل التقنية الحديثة بكنيته الشهيرة، وله في منتديات اللغة وتويتر حسابات تشهد له بأنه فارس في قلاع العلم الحصينة، وفي ميادينه المفتوحة، وقليل من يجرؤ فيفعل.

وفي الجانب الخلقي وقفت على خبر لا يُطوى مثله، ويسعدنا وجود عشره، فعالِمنا لا يأبه بالألقاب، ويحمل الوفاء بجنانه ولسانه وشؤون عينيه حتى لأستاذ من السودان العزيز درسه في المرحلة المتوسطة وحبّب إليه اللغة، فجعل الشمسان إهداء رسالة الماجستير له، وقد نصب أبو أوس في البحث عن أستاذه حتى عثر على ذريته الباقية فأحسن إليهم إكرامًا لأبيهم الثاوية عظامه في ثرى بلاده، وصفة الوفاء لازمة له مع أساتيذه وطلابه، ومع ربوع أسرته في المذنب بالقصيم التي كتب عنها غير مرة.

ولا يتردد علمنا الضخم في التواصل بتهنئة أو مواساة أو هدية مالية أو عينية حتى وهو من غير أولي الثراء؛ بيد أنه ثري بما في أمشاجه الأصيلة وقلبه الكبير، وإلّا فما الذي جرأه على بيع أرض يملكها لينجد أناسًا تتكفل بهم بلادهم الغنية؟! وإنه ليبادر طلابه بالخدمة وجميل الحث والعتاب، ولا يأنف من التغاضي وحسن الظن، ولا يجد في نفسه غضاضة من ظهورهم والإشادة بهم، وقد قابلتُ أناسًا عيونهم وآذانهم في جنة مما تسمع وترى عن غيرهم؛ لكنّ قلوبهم في نار مستعر أوراها والعياذ بالله، وما أتعسهم.

ومن خبره علاقته العلمية والتربوية العميقة ببنيه، وإكرامه لأصدقائهم حتى لو أمضى وقته في جمع صغيرات والذهاب بهن لما يدخل السرور إلى قلوبهن. ومن شأنه الحوار الدائم مع الأبناء وهي لغة بيتية آمنة الأثر ومفقودة في بيوت كثيرة مع الأسف، ومن حواره معهم نقاشات جميلة حول التسمية وشؤون لغوية وأدبية صنعت من أضلاع البيت الأربعة أدباء وكتّابًا، والله ينفع بهم ويحميهم، والحمدلله أن كان اسم نجله الأكبر أوس، ولم يأخذ اسم الأعشى ميمون بن قيس؛ فحينها ربما لم يكن أ.د.أوس!

إن أبا أوس أحد كبار حراس العربية في زماننا، وممن زاده الله كرامة بعلمها وعملها وتوريث ذلك لأجيال في داره ودرسه وكتبه ومداخلاته، وسيبقى ذلكم الجهد والجهاد طوال العمر، فهو كما قال صهره د.جاسر الحربش مثل الغيث الموسمي المبارك، ولن نحتاج إلى استسقاء مع وجود مآثره وظهور بركاته. وهو ابن المجتمع المشارك فيه دون انزواء أو تعلل بانشغال حتى قالت عنه شقيقته سارة: هو الأخ الوطن! وهو قريب من عامة الناس، جاد في حياته العلمية، سريع التجاوب مع من رام فائدة أو تصحيحًا خلافًا لآخرين يتثاقلون وما أثقلهم!

وإن أبا أوس وهو الرجل الكريمة منابته، النبيلة طبائعه، الغزيرة علومه، المنتشرة آثاره، لقامة يشرئب لها جيله فمن بعدهم في زمن لم يعد لعلوم العربية مكان إن في السوق أو في النفوس ضمن سياق الضعف العام والهزائم الداخلية، فهو وآخرون من الحفظة الحماة المجددين، ولمثله تُعطى القوس بأمان وثقة وهو باريها، ولمثله تُعطى القوس ولن يبيعها كما فعل الشماخ صاحب تلك القوس العذراء! وما أسعد من حظي بساعة من نهار يجلس فيها بين يدي هذا العالم المعجمي ناهلًا من السمت، ومن العلم، ومن كمال السجايا، وجمال المنطق في العقل واللسان، ومن دفء شمسين، وعزة شموس!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الخميس 16 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

 10 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)