الشيخ الوشمي والرحيل الموسوم بالنقاء!
بعد أزيد من نصف قرن في الإمامة والتعليم، ودعت منطقة الجواء وعيونها علمًا من أعلام النقاء، ورمزًا يصف طبيعة أهلها في الضيافة والذكاء، ولطيف المعشر والأحدوثة، وترك التكلّف وتقديم حسن الظن والعذر. وقد بكته أقلام، ورثته عقول، ولهجت بالدعاء له ألسن، ونبتت له في القلوب محبة حتى من دون لقاء أو سابق معرفة؛ فاللهم جِد على عبدك القادم إليك بخير وجميل وفادة؛ فأنت الكريم اللطيف الرؤوف الرحيم.
ذلكم هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن صالح بن سليمان بن ناصر الوشمي(1359-1444) الذي عاش مع القرآن المجيد حفظًا وتلاوة وتخلقًا وإمامة، حتى صار في مجتمعه الرجل النقي قلبه، الطاهر إزاره، اللطيف معشره، الباسم محياه، البعيد عن المراء طبعه، وأصبح القرآن وتجويده ليس مادة يدرسها لصغار الطلبة ولا يتركهم حتى يستيقن من ضبطهم، بل ركنًا ثابتًا في حياته وجدوله اليومي، ولذلك يتدارسه حتى مع الكبار من زائريه كمال قال نجل أخته د.سليمان العيدي.
ومن أثر القرآن عليه البر المشهود له مع والديه حتى أنه لا يكاد يغادر المنطقة دون استئذانهما، وبعد فراغه يعود عجلًا متلهفًا لخدمتهما كما يروي د.العيدي عن ابن عمه إبراهيم العيدي الذي تزامل مع الوشمي في دار التوحيد بالطائف، وإنه لدرس جدير بأن يشاع بين أجيال تتضايق من يسير الخدمة حتى وإن كانت قليلة العناء، بينما كان الوشمي يحمل إناء الوضوء لوالديه، ويتعمق في الخضوع لهما وخفض الجناح معهما ابتغاء رضاهما ورضا الرحمن من قبل.
ولأنه تعلّق بالقرآن صارت مكة والمدينة مزارًا دائمًا له؛ ففيهما نزل القرآن، ومنهما انتشر ضياؤه، ومن عمر قلبه بمحبة الوحيين المقدسين فسيجد للحرمين الشريفين طعمًا يفوق الحلاوة مذاقه، فهي ديار الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، وموطن الرعيل الأول رضوان الله عليهم. ولم يمنعه هذا الجهد التعبدي من المتاجرة في السوق إن في دكانه أو بالشراكة مع غيره.
كما امتدت سلسلة علاقاته واتسعت دائرة اهتمامه لتشمل أبناء أخته مريم، وجيرانه، وجماعة مسجده، ورواد مجلسه حتى أنه يرحب بهم من قلب صادق ولسان بعيد عن التصنع، ويتفقد غيبتهم حرصًا عليهم حسبما كتب يوسف اليوسفي مع أن علاقته بالوشمي متأخرة نوعًا ما، ولا عجب بعد ذلك حين يصفه علي المفلح بأنه حبيب الكل لنقاء سريرته وعذوبة منطقه.
ومن عنايته بجماعة المسجد التزامه بالصلاة بهم إمامًا نصف قرن دون تخلّف قدر وسعه، وإنها لوظيفة يصعب المداومة عليها، وينوء المخلص بهمّ الوفاء بمقتضاها، ويشق تركها على من يخاف الله ويرجوه، ولاريب نتيجة لذلك أن تغرس محبة الشيخ في قلوب طلابه ومأمويه كما كتب إبراهيم اللميلم وهو شاهد عيان، وهي الشهادة التي كررها عمرو العمرو واصفًا الشيخ الوشمي بالمحبوب من الكافة لروحه المرحة، وابتسامته الدائمة.
ولأجل ارتباطه بالقرآن الكريم غدا الكتاب العزيز هجيراه وموضع اهتمامه حتى وهو على فراش المرض الأخير، وأكرم به من اهتمام والله يجعلنا من أهل القرآن وخدامه والعاملين به. وأثرت آيات القرآن ومحكماته على سلوكه حتى مع العمالة وهم من أضعف فئات المجتمع، وكم تكشف التصرفات الصغيرة من الحقائق الكبيرة في النفوس والمجتمعات. ومن التصاق الناس بالشيخ الوشمي أن غدت كنيته ( أبو ناصر) علمًا عليه مع أنها مشتركة مع آخرين.
ويشير ماجد الوشمي في مقال وافٍ إلى سمة التوازن لدى الراحل في عبادته وحياته، وفي عمله وقوله، وإن التوازن لعلامة على شخصية متصالحة بعيدة عن هبات موسمية سريعة الزوال، وسليمة من الانجراف نحو أمر لدرجة الكلف الشديد به، وهي سمة عزيزة رفيعة، ومن البركة والخير للمجتمعات أن توجد في أهلها؛ كي تضبط إيقاع الحياة الغارق بين طرف وطرف، وما أسعد من يكون قدوة وللمتقين إمامًا.
أخيرًا فهذه شذرات تفاعلية عقب وفاة الشيخ وما تبعها من شهادات مجتمعه الجوائي القريب له، وهي تخبر عن رجل شغف قلبه بالقرآن حتى أضاءت به جوانب روحه، واستقامت عليه حياته العملية، وانصبغت آثاره على فعاله وطباعه ومعاملاته. وقد عاش مع الناس يخالطهم ويتداخل معهم، ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويشيع المعروف والبهجة بالكلمة والبسمة، ويدعو إلى الخيرية والتربية المستقيمة بهديه وسمته وصمته دون تكلّف القول المباشر، أو تنميق العبارات الجميلة، ولعله ممن صام تعبدًا وتورعًا وزهدًا عن أشياء كثيرة، ثمّ وجد محمدة ذلكم الصيام عندما لبى داعي مولاه يوم الأحد الفائت، واللهَ نسأل أن يكون الراحل من الجواء، الموسومة مسيرته بالنقاء، قد عانقت روحه الطيبة بسلام أبواب السماء.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الخميس 07 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444
الأول من شهر ديسمبر عام 2022م
