عرض كتاب مواسم ومجتمع

الجوف: وادي النفاخ

Print Friendly, PDF & Email

الجوف: وادي النفاخ

أهو كتاب من ورق أم عشق انساب على الورق؟ وهل هو حبر يجري أم حبٌّ في الشرايين يسري؟ هكذا سألت نفسي وأمامي كتاب عنوانه: الجوف وادي النفاخ، تأليف: عبدالرحمن بن أحمد السديري، مراجعة د.خليل بن إبراهيم المعيقل، صدرت الطبعة الثانية منه عام (1426=2005م) عن مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، ويقع في (339) صفحة مكونة من مقدمتين، وثمانية فصول، ثمّ فهرس المصادر والمراجع وعددها (20) كتابًا عربيًا، و(31) تقريرًا حكوميًا، وأخيرًا (41) كتابًا أجنبيًا، فكشّاف الأعلام والأماكن التي تظهر أن خالد بن الوليد-رضي الله عنه-هو أكثر علم ورد اسمه في الكتاب، كما توضح أن العراق هي أكثر مكان مكتوب باستثناء الأماكن المتعلقة بالجوف؛ فمن الطبيعي أن ترد في الكتاب كثيرًا كثيرًا.

لن يغيب عن بصيرة قارئ هذا الكتاب أمور لافتة في غلافه وعنوانه وصفحاته الأولى، منها وفاء رجل الدولة للبلدة التي تولى إمارتها قريبًا من نصف قرن، واحتفائه بشيم العربي وعلى رأسها الكرم، وفخره بتراث المنطقة المرتبط بالإسلام وبما قبله من حضارات، وعنايته بعلم البلدان من خلال خريطة واضحة المعالم. أما الغوص في أعماق الصفحات فيدلنا على خصيصة علمية وحضارية للمؤلف ولمن استعان بهم، إذ رجع وسأل وبحث، ثمّ أصدر هذا الكتاب الذي تُرجم إلى اللغة الإنجليزية كي لا تظلّ المنطقة أسيرة لما قاله الرحالة الأجانب عنها، وتلك استقلالية حميدة، ينضاف إليها أن المؤلف لم يكبّل نفسه بما يقوله الأجانب؛ ففحص كلامهم، ولم يمنحه صفة التسليم أو الثقة العمياء كما يفعل بعضنا في كل فكرة وافدة يلوكها لسان أعجمي، أو تجاه أيّ رأي يرتدي شارة الغرب مع الأسف الممض. وإني لأكبر في الأمير المؤلف- ولا أستغرب منه- إيراد التاريخ الهجري وتقديمه؛ فبعض الأغرار يعتقد أن الاكتفاء بالتقويم الميلادي مئنة التطور، وليست والله الطريق هنالك!

فإذا استعرضنا الكتاب سنرى أن الفصل الأول يتحدث عن أهمية منطقة الجوف، ويأخذنا الفصل الثاني إلى منطقة الجوف في عصور ما قبل التاريخ، بينما يقف ثالث الفصول مع الجوف في عصور ما قبل الإسلام، أما الفصل الرابع فخاصٌّ عن تاريخ منطقة الجوف من ظهور الإسلام حتى بداية الدولة السعودية الأولى مع تفصيل روايات دخول الإسلام فيها، حتى يصل الكتاب بقارئه إلى الفصل الخامس الذي يدرس التاريخ الحديث لمنطقة الجوف ولا ينبئك مثل خبير.

ثمّ يقدُم الرحالة الأوربيون إلى منطقة الجوف من نافذة الفصل السادس وهم على قسمين أوائل عددهم إثنا عشر رحالة، ومتأخرون عددهم خمسة، وعدد رحلات الفريقين أقل بواحد من مجموع رحالة كل قسم؛ لأنه في كل قسم اشترك عالمان أو مستشرقان أو مستكشفان في رحلة واحدة. ويستعرض الفصل السابع سكان منطقة الجوف وعاداتهم، لينتهي الفصل الثامن عند ملامح النهضة الحديثة في منطقة الجوف، ومن سمو نفس الأمير وتقديره للعلم وأهله أن جعل الشيخ القاضي المفسر فيصل بن عبدالعزيز بن مبارك أحد عناوين هذا الفصل.

أورد الأمير في المقدمة الأولى أنه مكث في المنطقة ثلاثة وأربعين عامًا، معايشًا لمراحلها، متفاعلًا مع متطلباتها، منصهرًا في مجتمعها، محبًا لأهلها، فرأى أن من تمام واجبه الإحاطة بالمنطقة من ناحية تاريخية وبلدانية وآثارية وسكانية واجتماعية وتنموية، لخلو المكتبة المحلية والعربية من مرجع شامل. وعلل اختياره لهذا العنوان بأن بادية شمال الجزيرة العربية عرفت الجوف باسم “وادي النفاخ” لشدة كرم أهلها؛ وبالتالي فما كان أجمل وضعه عنوانًا لهذا الكتاب، وفي الانتقاء دلالة حاتمية لا تخفى. وقد شكر المؤلف جميع معاونيه، وهو الشكر الذي كرره نجله د.زياد في مقدمة الطبعة الثانية وزاد عليه بموجب مقتضى الطبعة الجديدة.

وفي الكتاب معلومات بلدانية، وتاريخية، وسكانية، وشيء غير قليل من أخبار الآثار وبعثات المسح والدراسة، إضافة إلى توثيق سلسلة أمراء الجوف في عصر الدولة السعودية الثالثة، مع تفصيل القول في الأجهزة الحكومية التي افتتحت في الجوف ومدنها. ويحتوي الكتاب على صور لمواقع أو أشخاص، وهي صور ثمينة، وفي بعضها إشارة إلى المغريات السياحية الجذابة في المنطقة، وفرص الاستثمار، ودعوة ظاهرة ومبطنة لإجراء الدراسات النظرية والتطبيقية؛ فهذه المنطقة كما يقول أطول أمرائها المعاصرين مكوثًا فيها لم تكتشف آثاريًا إلى الآن!

كما لا يخلو الكتاب من فوائد منها أن جمعية تحفيظ القرآن الكريم في المنطقة انبثقت من جهود الشيخ فيصل الذي يحمل اسمه أحد أشهر الجوامع في الجوف، ومنها تاريخ دومة الجندل قبل الإسلام وبعده سواء تاريخها الديني من خلال صنم “ود” الذي حطمه سيف الله المسلول، أو ضمن تاريخها السياسي أو الاقتصادي أو الحضاري، والأمر ذاته يُساق مع باقي أجزاء المنطقة وإن بدرجة دون ما لدومة من شهرة ووقائع، وكل أراضينا عبقة غالية حبيبة.

أيضًا نقرأ فيه من أخبار الرحالة الذين أتوا لأغراض متباينة، وهم من بلاد أوروبية عديدة، وعبر أزمنة متتابعة، وبعضهم يجيد العربية، وفيهم علماء نبات وضباط ومؤرخون وعلماء آثار، وأحدهم اعترف أنه جاء للتنصير ولم يظفر بمراده والحمدلله. وبعض هؤلاء الرحالة لهم كتب منشورة عن رحلاتهم، ومما قرأته فيما مضى عنايتهم بتمور الجوف ونخيلها، وعلى أيّ حال فمن المناسب أن نكون مثل المؤلف حذرين من إسباغ الموثوقية التامة على مروياتهم، وفي المنهج الذي أتبعه الأمير المؤلف ومثله البروفيسور المؤرخ عبدالعزيز عبدالغني غنية لمن أراد حماية عقله، وحياطة اعتزازه الحضاري، دون تكبر على الحقيقة إذا قام ما يؤيدها من البراهين.

كذلك يثبت الكتاب انضمام الجوف إلى الدولة السعودية الأولى عام (1208) في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد، وبالمقابل لا يغفل عمّا جرى للمنطقة بعد تلك السنة من تقلبات وأحداث إلى أن عادت لحاضنتها السعودية. وقبل هذه الحقب يتناول المؤلف العصور السابقة مع التركيز على مملكات قديمة وملوك لهم تاريخ، والإفاضة في بيان معلومات المواقع الأثرية مثل قصر مارد، وبلدة دومة القديمة، وبلدة الطوير، وبئر سيسرا، وسوق دومة الجندل الذي نافس أسواق العرب في الجاهلية. وأما بعد الإسلام فيوجد عرض لمسجد عمر، وقصر زعبل، وقلعة الطوير، وغيرها.

هذا قليل من كثير يشتمل عليه كتابنا، وفيه سنّة لمن رام الاقتداء، ولو أن أيّ مسؤول عاش عمرًا وعاصر أحداثًا في جهاز أو مكان أو مشروع أو وقائع، ثمّ سطّر لنا شيئًا من ذكرياته وشهادته، أو قسمًا من علمه وتحليله، لأحسن غاية الإحسان؛ ذلك أن العلم الذي في الصدور يغيب مع رحيل صاحبه، ولا يبقى غير المنشور والمسطور منه خاصة، ولذلك عبّر أديب إفريقي عن حزنه البالغ عندما يموت شيخ مسن، أو عجوز طاعنة، وقال: إذا دفن شيخ كبير أو عجوز كبيرة فحقيقة الأمر أن مكتبة ثمينة قد دفنت تحت الأرض!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 06 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

09 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)