سير وأعلام

عبدالعزيز عبدالغني ونصف قرن مع تاريخنا!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالعزيز عبدالغني ونصف قرن مع تاريخنا!

لو رجع إلى الحياة رجال أمثال اللورد “كرومر”، والجنرال “غوردون”، واللورد “كيتشنر”، والأستاذ “جيمس كرى” وأضرابهم من كتائب الاحتلال الشرس لبلاد المسلمين سواء من العسكر المدججين بالسلاح، المتلبسين بجرائم القتل ونهر الدماء والاعتقال، أو من قرنائهم في مجالات التعليم والتطبيب والتنصير، المتلطخين بجرائر تشويه الوعي وإفساد اللسان والعقل، لهالهم ما يرونه في بلد أنهكوه كما صنعوا بالسودان العربي المسلم العزيز، ولذرفوا من محاجرهم دماءً لا دموعًا حينما يقفون على نماذج سامقة من رجال السودان ونسائه في العلم، والفكر، والدعوة، والأدب، والطب، والتعليم، والعمل الخيري.

ومن تلك الأسماء التي سوف تزيدهم غيظًا وحنقًا، وتجلب إلى حلوقهم غصّة مؤلمة، وتكون لنفوسهم إرغامًا وتحطيمًا، المؤرخ والمؤلف والأستاذ الجامعي البروفيسور عبدالعزيز بن عبدالغني بن إبراهيم بن حمدون، المولود في يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر عام (1363) الموافق للسادس عشر من شهر إبريل عام (1944م)، الذي درج في بيت والديه الكريمين بولاية سنار العريقة الواقعة جنوب شرق البلاد، ودرس في نظام تعليمي لم يسلم من بقايا سيطرة الإنجليز وتأثيرهم.

ثمّ توجه أستاذنا صوب تاريخ بلاده السودان وأراد الاستزادة منه، بيد أن منحة دراسية لمدة أسبوعين من حكومة الإمارات جعلته ينصرف نحو دراسات الخليج والجزيرة العربية، فامتد الأسبوعان إلى خمسة عقود متوالية مباركة، نتج عنها عشرات الكتب والأبحاث والمشاركات في مؤتمرات وندوات ولقاءات، إضافة إلى التدريس في جامعات خليجية وسودانية وليبية، والعمل في مراكز بحثية في جلّ بلاد الخليج ووادي النيل، بل وإنشاء بعضها وإدارتها، مع الإشراف على رسائل ماجستير ودكتوراه في جامعات عربية أو مناقشتها، وخدمة الباحثين.

فأصبح البروفيسور وكأنه يتنفس التاريخ الحديث لهذه المنطقة المهمة بدولها ورجالاتها ورحلاتها وأحداثها وحتى بتمورها ونخيلها، وجذبه إليها بشدة كونها موئل العرب، ومنبع الإسلام، ومأرز الإيمان، فضلًا عن ارتباطها التاريخي ببلاده وأراضيه، ولذا كتب عن العلاقات بين أرض الجزيرة وأهل بلال، ولم يكتف بذلك بل درس ما وجده أكثر إلحاحًا وحضورًا من تواريخ العالم، فأطلع القارئ العربي على لباب مختصر عن تاريخ أوروبا الحديثة، وأنبأه عن خفايا حبال العلاقات الأمريكية مع عالمنا العربي والإسلامي، وفعل ذلك بقلم المؤرخ المؤمن وقلبه وعقله، وحقيق بكلّ ذي علم أن يرشد ناشئة قومه ومن فوقهم؛ فالرائد لا يكذب أهله.

وتمتاز دراسات البروفيسور بأنها تنطلق من الوثائق الأصلية المحفوظة في المراكز ودور المحفوظات في بريطانيا على أنواعها، وفي مصر وتركيا والبلاد العربية الخليجية، وبالتالي فهو قلّما ينقل عن كتب ودراسات معاصرة إلّا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، ويطلّ بإمعان على تقارير موظفي الحكومات الغربية التي كتبوها لمرجعياتهم في دولهم، كما يتخذ من الموروث الشعبي في الشِّعر رافدًا مساعدًا على تكميل الصورة، وتصحيح الخيال التاريخي المنضبط عنها.

ثمّ يستعين بكتب الرحالة الغربيين بعد قراءة نصها الإنجليزي دون أن ينقاد لما فيها من حيل وبهتان وادعاء، ومن براعته أن سلك بنفسه طرق بعض أولئك الرحالة من شرق الجزيرة إلى غربها، وأنجاه الله من حادث سيارة شنيع والحمدلله، وعقب أن أتمّ قراءة هذا الإرث الضخم ترجم الرحلات وفق منهجه، واختصر أهمها في كتاب ماتع يقع في ثلاثة أجزاء، وتلك يدٌ لا تنسى من أستاذنا على المكتبة العربية.

ولأنه مؤرخ بصير لم يستسلم لما كتبه أولئك الرحالة، وإنما أخضعه للفحص والتمحيص مستصحبًا جوانب الحذر الواجبة في الرواية خاصة عن المخالفين والأعادي، فنفى ما فيها من كذب، وأوضح تناقضاتها، وكشف استعلاءها الفج على المنطقة وأهلها، وشمخ باعتزاز ديني، وتاريخي، ولغوي، حاميًا نفسه وبني دينه ولسانه، وشركاءه في التقاليد والأعراف من إفك إبل إبليس كما أسماها وهي تجوب صحراء الجزيرة العربية بجلَد وحسّ غربي مثقل بحمولات الحروب الصليبية والحملات التنصيرية والاستشراقية وأحقادها، وبمبالغات ألف ليلة وليلة التي جعلت الشرق في خيال الغربيين فاتنًا وعجيبًا، ولم يمنعه زغلها من الاغتراف مما يصحّ عنده من محتواها، ويوافق المنطق التاريخي بعيدًا عن التشنيع والتهويل والتحريف والأهواء.

كما امتاز البروفيسور بمنهجه في قراءة التاريخ، وفهمه، والبحث حوله، وكتابته، وتفسيره، وتمحيص رواياته كما يفعل المحدثون، وبثّ هذه المعالم المنهجية بتوسع في أحد كتبه الصادرة حديثًا بعنوان: فلسفة التاريخ: تاريخه وتفسيره وكتابته، وهكذا يحرص المؤرخ المسلم على الصدق والأمانة والموضوعية، مع الاعتزاز بتاريخه وإرثه، والحمية لأهله وقومه، بيد أنه لا ينتحل، ولا يبدل، ويجتهد في رواية الحقيقة، وتخريج أسبابها، وتفسير دوافعها، مستندًا على معرفة عميقة مستبصرة بالإنسان والمكان وسياق الزمان وطبائع البشر، ومقتضيات الثقافة واللغة والمصالح والأحداث والسنن والاقتصاد.

وتلك سمات نفيسة نادرة تكسب صاحبها التمرس في النقد والتحليل، والإصابة في التعليل والوعي والقياس؛ حتى لا يكون مجرد راوية أو حكّاء أو مؤنس، ويأخذ على عاتقه التحزب للحقيقة فقط، مع رفع وعي الأمة ورواية تاريخها بأعلى قدر ممكن من الحياد دون انتقاء أو تزيين أو تزييف، وبدراية منصفة غير مجحفة ولا ملتوية، وأحسب أنها من الصفات التي جمّل الله بها أستاذنا الكبير الذي لا يستنكف عن سماع النقاش والملاحظة، ومراجعة المخالفة الموضوعية المؤدبة.

ولأن الأستاذ بهذه الخصائص تسابقت كبريات المؤسسات التاريخية إلى نشر كتبه ودراساته، وكذلك فعلت المكتبات التجارية خاصة مع كتبه الجديدة، أو بعد عقود من نفاد النسخ القديمة من كتبه الأولى، وعسى أن تُعاد طباعتها جميعها لما فيها من علم وفهم وسبق. ولم يقتصر ذلك على المؤسسات التاريخية بل حرصت اللجان العلمية لمؤتمرات وندوات تختصّ بتاريخ الجزيرة والخليج على استضافته استثمارًا لثقله العلمي وإلهامه لمستمعيه وقرائه، وأذكر أن مؤلفًا وناشرًا له مشاركات تاريخية حضر أحد هذه المؤتمرات، وحين سألته قال لي بالنص: كانت الفائدة العظمى لي من الورقة التي قدمها البروفيسور عبدالعزيز على اختصارها، ولذلك فما أجمل المبادرة إلى تكريم شيخنا من خلال الفوز بإحدى الجوائز الخاصة بتاريخ الجزيرة العربية، وعسى أن يكون هذا قريبًا.

أما كتب مؤرخنا فكثيرة، وبعضها دفعه لتأليفها خلو المكتبة العربية مما يرتضيه منهجًا لطلابه الذين نهلوا من علمه في الجامعات، ومن المناسب الإشارة إلى أن رسالتيه للماجستير والدكتوراة قد درستا الوجود البريطاني في الخليج والهند وسياستهم الأمنية، كما نالت بعض كتبه شهرة كبيرة مثل أمراء وغزاة، واكتفى بعضها على أهميته بطبعة واحدة صادرة قبل ثلاثين عامًا مثل صراع الأمراء، وجلب كتاب نجديون وراء الحدود عن العقيلات شيئًا من الصداع ولعله أن يكون قد زال.

وله مؤلفات خاصة عن عمان وسواحلها وأبو ظبي وقطر، هذا غير مؤلفات أظهرت وثائق حكومة بومباي للعلن، وأخرى سوف تجلّي الكثير من الحقائق والوثائق عن المنطقة، وعسى أن تكون جاهزة للقراء عمّا قريب، ومن اللطيف لفت الأنظار إلى أسلوب المؤلف في إهداء كتبه الذي لا يخلو من رسائل وإشارات، والتنويه بتأكيده المستمر في مقدمات تآليفه على أن أعماله خالصة للعلم بريئة من أيّ غرض، وغير جارية في سياق استرضاء أو تزلّف، وغايتها رفع الوعي، واستحياء الأمة عسى أن تسترجع أمجادها بعد أن تصيب في تصوراتها وفقه التاريخ.

إن الاحتفاء بالمؤرخ الكبير وهو في أواخر عشر السبعين من عمره الصالح واجب علينا خاصة من قبل الذين أفادوا من كتبه وعلمه وهم جمع ليس بالقليل، وهو شيء من التقدير لا يفي بحقوق أستاذنا أمدّ الله في عمره على طاعة وصحة وإيمان وعمل صالح مستمر، حتى يملأ رفوف التاريخ بما ينقصها من كتب وأبحاث لا تحكي فقط؛ بل تروي وتستنطق الوثيقة وتشرح وتستشرف المستقبل، فالحقّ قيمة عليا لا يرتقي فوقها شيء، وكلّ باطل مصيره إلى زوال بعد أن يُقال له ولمن وراءه بأعلى صوت: ليست الطريق هنالك!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 11 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442

24 من شهر يناير عام 2021م  

Please follow and like us:

5 Comments

  1. صحبت البروفيسور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم حينما كان يعمل في مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض وكم كانت صحبة ممتعة ووغنية بالعلم والمعرفة والطرافة وقد سكنت بجواره في شقق مفروشة في منطقة الشميسي بالرياض وأعتقد إنها عمارة الحكير وحكى لي قصة طريفة عندما كنت أرغب العودة للمدينة فقال ولكنك تؤدي العمل بسرعة مما يجعلهم يتمسكون بك في الرياض والقصة أن ملكاً في السودان سمع امرأة تبكي فأعجبه صوتها فقالوا هاتوها وقال لها أريد أن أسمع صوت بكاءك فقالت ما بيّا وجد فقال اضربوها حتى تبكي وأنت تريد أن تعود إلى المدينة وعملك يعجبهم هنا ، المهم كانت أياماً جميلة

  2. أحسنتم أيها الكاتب المبدع الاستاذ احمد العساف في حق استاذنا البروف العلم المؤرخ الكبير عبدالعزيز عبدالغني..مؤلفاته ومصادره الوثائقية وأسلوبه الشيق الفريد وتحليلاته جعلت منه مؤرخا متميزا على مستوى العالم العربي قاطبة.وفقه الله وحفظه..وبارك في الجميع.

    1. شكرا لكم أستاذنا المؤرخ البروفيسور عبداللطيف الحميد، والموؤخ البروفيسور عبدالعزيز يستحق أكثر من هذا كما أشرتم.

  3. إنا لله وإنا إليه راجعون. توفي أستاذنا البروفيسور عبدالعزيز في مدينة الدوحة بقطر يوم السبت 04 من شهر رجب عام 1443 = 05 من شهر فبراير عام 2022م، ونقل جثمانه للصلاة عليه ودفنه في السودان، وسيكون موعد وصول الجثمان إلى السودان يوم الاثنين السادس من رجب الساعة الثانية ظهرًا، ثم سوف يشيع إلى مقابر البكري بأم درمان بعد صلاة العصر. غفر الله له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)