سير وأعلام مواسم ومجتمع

مسجد عبدالرحمن الشبيلي: رسالة وأكثر!

Print Friendly, PDF & Email

مسجد عبدالرحمن الشبيلي: رسالة وأكثر!

للمسجد أهمية مركزية في الإسلام ومجتمعاته وحضارته، ولا أدل على ذلك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل إلى المدينة مهاجرًا، وفي قرارة نفسه بناء على بيعة العقبة أن يستقر بها، ويبدأ في تكوين دولته الجديدة التي لم يعهد لها مثيل في البيئة العربية، شرع أول ما شرع في بناء مسجده بالمدينة، حتى غدا المسجد والجامع والمآذن والمنائر والمحاريب من سمات الحواضر الإسلامية فيما بعد، وبعددها وأشكالها ونشاطها وكثرة روادها ومن تخرج فيها تكون المفاخر والمآثر، إضافة إلى تخصيص بعضها بشدّ الرحال، ومضاعفة الحسنات.

ولا تقتصر الأعمال المسجدية على أداء الصلاة والشعائر الدينية في الجمع والجمعات على جلالة قدرها، وعظم شأنها، وإنما يضاف إلى ذلك أن المسجد مكان لاجتماع الناس، وخدمة المكان بمن وما فيه، وتشاور أهل المسجد في شؤونهم، ولأجل هذه الغاية ينشط في المساجد والجوامع أشخاص مباركون، وقد يكون من ضمنهم الإمام والمؤذن، فيحرص أولئك الأخيار على اجتماع المصلين، وتعاونهم على البر والتقوى، وتنعقد بفضل جهودهم لقاءات دورية أسبوعية أو شهرية، خالية من التكلّف والتصنع، وفيها مآرب طيبة من الاجتماع، والتعارف، والتصافح، والمحبة، والتآزر، والمساندة في مناسبات الفرح والفقد، وكل هذا على وفاق الشريعة المحكمة، والأنظمة المرعية.

كذلك من أعمال المسجد إعلام المصلين وأسرهم بالتبع عمّا يخصّ المنطقة، والمسجد، وجماعته، إضافة إلى ما يكون من تعاميم للبلاغ العام من الأجهزة الحكومية الرسمية، وزينتها ألّا تكون متوالية بكثرة تفقدها الأهمية والعناية والاهتمام، وأن يكون لها ما يستدعيها، مع ضرورة مراعاة مقتضيات المسجد والمنبر ومكانتهما الشرعية، وما يلائمه وما لا يناسبه. وهذا البلاغ والإعلام مفيد جدًا في ربط المصلين فيما بينهم، وإيقافهم على ما يعنيهم، وتبصيرهم بشؤون الدين والدنيا معًا، وسرعة إيصال الرسائل العامة للمجتمع.

كما أن المسجد مكان عظيم للتعليم والتوجيه ورفع الجهل عبر الدروس المسجدية، والكراسي المشيخية، والخطب المنبرية، والمواعظ المتخولة، والبرامج الموسمية، وقد حملت المساجد والجوامع أعباء النهوض بالمستوى العلمي للأمة الإسلامية في قرون سابقة كانت السيادة في أكثرها للمسلمين وثقافتهم وحضارتهم، وهذه المهمة المسجدية باقية حتى مع انتشار مؤسسات التعليم الرسمية من الحضانة إلى أعلى الدرجات، وهي مهمة تعين عليها التقنية الآن؛ ولهذا فلن نستغرب عن مسلم في أستراليا حفظ القرآن من مقرأة في مسجد بالطائف، أو آخر في البرازيل تلقى العلم على شيخ في الحرم المكي، أو ثالث في المغرب لازم شيخه المقيم في الرياض ملازمة تامة عن بعد، وحصل رابع على إجازة وبينه وبين مجيزه بعد المشرقين، وذلك الفضل من الله.

وفي المساجد من التاريخ العبق، والتوثيق العريق، ما يجعل لبعضها منزلة إضافية، فبعض المساجد القديمة تدل على وقت العمران لمنطقته وزمن سكنها، وتشير إلى ثقافة البناء والعمارة، وتحفظ سير الأئمة، والمؤذنين، والخطباء، والمقرئين، والمعلمين، والقضاة، وبناة المساجد من المحسنين والموسرين، إضافة إلى ما جرى للمسجد من تحديث في البناء، أو التجهيز، وكم يوجد في المكتبة العربية من كتب خاصة بمساجد بلدة صغيرة، وكم في هاتيك المصنفات من علوم وأخبار تاريخية وبلدانية ومجتمعية.

إن الإعلام، والتعليم، والتوجيه، والتثقيف، والتوثيق، وخدمة المجتمع، والشورى، لمن الأعمال الطيبة التي حفلت بها حياة الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي -رحمه الله- (1363-1440=1944-2019م)، حتى عاش معها سني عمره العلمية والعملية، ثمّ أودعها في إنتاجه المرئي والمسموع الغزير عبر حلقات محفوظة لعدة برامج تستعذبها الذائقة، أو في صفحات خمسين كتابًا من المؤلفات الرائقة، التي ختمها بسيرة جميلة فائقة، وكانت أشبه بالوداع وهو يمشي فيها ومعها على ممشاه الأخير فوق شرفة منزله الباريسي التي سقطت؛ فغاب من إثر سقوطها علم من أعلامنا.

ومع كثرة ما حظي به الراحل الشبيلي بعد وفاته من أعمال مشكورة، وتكريم مستحق، وثناء متواصل، إلّا أن بناء مسجد باسمه، هو أجلّ عمل يتمناه أيّ راحل عن الدنيا؛ ذلك أن الغائبين أحوج ما يكونون للحسنات والأجور والدعاء والاستغفار؛ ولهذا بادر الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز الرئيس الفخري لجمعية العناية بمساجد الطرق إلى إطلاق مشروع وفاء لأهل العطاء، ومختصره بناء مساجد لمن خدم البلاد وأهلها، مع إتاحة قبول أيّ تبرع لصالح هذه المشروعات الموفقة؛ كي تصبح صدقة جارية عن كرام أحدثوا آثارًا حسنة، وكانت البداية بمسجد الشبيلي الذي سوف يفتتح قريبًا غرب العاصمة، ووددت حضور الافتتاح لولا سفري.

والله يعين ويبارك ويعظم الأجر لجميع من عمل في هذه الفكرة حتى استقامت شامخة نافعة بارزة للناظرين، مع الثناء الخاص على الجمعية النفيسة، ومجلس إدارتها، وطاقمها التنفيذي، وهنيئًا للشبيلي والراحلين من آله هذا المعلم التعبدي في موقعه المطروق بكثرة سوف تزداد في المستقبل القريب، وهنيئًا لهم جهود محبيهم وعلى رأسهم الكريمتان الكريمتان: رشا وشادن بنات عبدالرحمن وزكية وشقيقتا طلال -رحم الله الجميع-.

إن سبل الخير والبر والإحسان لكثيرة متنوعة، ومع بركتها وحسنها وتوافرها، إلّا أن المسجد من ضرورات المجتمع المسلم، وفيه منافع دنيوية وأخروية، وما أشدّ غرارة من ينتقص من بناء المساجد بحجة الالتفات إلى مشروعات مجتمعية أخرى مع أن المساجد لا تزاحمها بالكلفة، ولا المساحة، فضلًا عمّا للمسجد من آثار لا تنكر على النفس والعقل والمجتمع، مع مالها من موضع في نفوس المسلمين أيًا كانوا، هذا غير ما في منظر المسجد البهي من راحة، وفي صوت الآذان والقرآن من انشراح، وفي ارتفاع المنائر الأخاذة من رسالة وأيّ رسالة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 27 من شهرِ صفر عام 1445

12 من شهر سبتمبر عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)