سير وأعلام قراءة وكتابة

عشر سير سعودية في المقدمة!

عشر سير سعودية في المقدمة!

ذائقة القارئ تختلف من شخص لآخر، وهو أمر مفهوم، وتزول عنه الحساسية عندما يقرّب للأذهان بتشبيهه بما يكون من تفضيل طعام أو لون أو نوع بناء على الذوق فقط، وقد تُراعى اعتبارات أخرى يدور معها القول وجودًا وعدمًا. وأيًا كان فليس في هذا الأمر دليل شرعي متبع، أو مستند نظامي مطاع، أو تجربة حاكمة، أو برهان من العقل يُنتهى إليه، أو إجماع يصعب تجاوزه، وما أيسرها من مسألة عندما يراها الآخرون بأنها مجرد رأي غير ملزم، ليس له دافع، وليس منه مانع، والأمر لله من قبل وبعد.

ولا أزعم أني أحيط علمًا بجميع ما صدر أو سيصدر من سير ذاتية سعودية، ومن الطبيعي أن قراءة كتب هذا الباب بأسرها لا يكون إلّا من متخصص وغالبًا لن ينجو من فوات واستدراك. ومن المناسب الإشارة إلى أن هذا المجال من العلم قد برع فيه دارسون، وكتّاب، وباحثون، ومتحدثون، ولهم إنتاج مطبوع ومسموع ومرئي، منهم على سبيل المثال الذي يحضرني دون حصر: د.عبدالله الحيدري، والأستاذ حسين بافقيه، وأ.د.صالح الغامدي، والشيخ محمد بن سعود الحمد، ود.عبدالرحمن قائد، ود.عائشة الحكمي، والشيخ فهد الجريوي، والأستاذ فهد التميمي، وغيرهم ممن يسهل الوصول إليهم عبر منافذ البحث التي قلما ترد السائل.

أما إذا أردت تحديد أهم السير السعودية المنشورة حسبما أتذكر بغضّ النظر عن مؤلفيها واجتهاداتهم وموقفي منها، ودون أن يكون لأيّ ترتيب ضمن سياق سابق أو لاحق أي معنى، فمن الضرورة الإشارة إلى أنها سير جاءت بشيء جديد في المضمون، أو طريقة البناء، وربما أنها نالت من التفاعل ما يجعلها أهلًا للتقديم، وقد حفظ بعضها مرويات نادرة وردت بتفصيل مدهش، إضافة إلى عناية قسم منها بذاكرة المكان وتصويره للقارئ حتى لكأنه يعاينه بلا حاجز أو حاجب. ومن مزاياها خلوها أو أكثرها من تصفية الحسابات، ومن ثقل الإدارة والعمل الرسمي، مع الاعتراف المؤدب، والأسلوب الجميل، والإشارة التي قد تغني عن الإطالة، وفيها نقل حكايات مستعذبة عن آخرين، ولبعضها قيمة توثيقية.

فمنها مثلًا سيرة الإذاعي العريق الأستاذ عزيز ضياء “حياتي مع الجوع والحب والحرب” الصادرة في قسمين بعد جمع أجزائها الثلاثة فيهما، وهي سيرة مع ضخامتها ومركزها القوي في سيرنا المحلية والعربية؛ إلّا أنها لم تتجاوز عشرين عامًا فقط من عمر مؤلفها الكاتب والمترجم والإعلامي ورجل الأمن. وقد روى أحد الكتّاب عنه -نسيت اسم الراوي- أنه سجل بقية أحداث حياته تسجيلًا مصورًا، ولم يُنشر هذا القسم حتى الآن فيما أعلم، وأخشى أن يلتهمه النسيان والانشغال عنه، وعسى أن يظهر في قريب منتظر. ومن أهم ما في السيرة تسجيل رواية طفل مدني لأحداث “سفر برلك”، والحديث عن المدينة النبوية، ووصف زمن عصيب قبل أزيد من قرن.

ومنها سيرة الأديب الأستاذ إبراهيم الحسون “خواطر وذكريات” التي صدرت أول الأمر في ثلاثة أجزاء، ولم تستقر على رفوف المكتبات حتى اختفت بكثرة الطالبين المتلهفين؛ فغدت نسخها نادرة لأزيد من عقد، إلى أن أعيد طباعتها بعد إضافة جزء رابع عن رحلاته الخارجية، وجرى على هذه الطبعة مثلما حصل لسابقتها من المسابقة للاقتناء فالاختفاء واللجوء للمصورات. وهي سيرة حياة كاملة يصل مداها إلى تسعين سنة، وفيها غير الوصف البلداني والمجتمعي، شهادة على أعمال إدارات حديثة مثل المالية والجمارك، وأخبار لافتة عجاب.

كما تبرز لنا بجلاء سيرة الشاعر والوزير د.غازي القصيبي “حياة في الإدارة”، تلك السيرة التي فتحت الباب الموصد بأوهام متضخمة عند بعض المسؤولين؛ فعرفوا أنه يمكن الكتابة عمّا يتوجس المرء منه خيفة وما هو بمحظور أو ممنوع، وانكسرت بذلك قيود خيالية وانحلت أغلال افتراضية. ومع شهرة هذه السيرة وكثرة عدد طبعاتها، إلّا أن للقصيبي “سيرة شعرية” نشرها مبكرًا في جزءين، ولا غرو فالرجل يرى نفسه شاعرًا قبل أي شيء. وله سيرة رائقة عن ذكرياته في مرافقة الزعماء بعنوان “الوزير المرافق”، ورابع السير كتابه القصير المتوشح بالأحزان وعنوانه “المواسم”، وهذه الرباعية القصيبية من فرائده فيما أظن، وليته أكملها بالخامسة عن آخر عقدين من عمره، وهما عقدان مليئان بما يغري مثله على الكتابة.

ومن السير الجميلة ما سطره الأديب الأستاذ محمد حسين زيدان في “ذكرى العهود الثلاثة: العثماني-الشريفي-السعودي”، والمؤلف أديب مؤرخ له عناية ظاهرة فيما يخصّ تاريخ البلاد ومواضعها وآدابها، وظهر ذلك في عضوياته ومقالاته ومحاضراته. ولعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر سيرة ذاتية أخاذة تقع في جزءين عنوانها “من سوانح الذكريات”، وفيها نقل عالم أديب لمشاق الحياة في نجد، وبدايات التعليم والحركة الصحفية، وشيء من الحراك والممانعات، وقد نشرها الشيخ الجاسر في المجلة العربية مقسمة على مئة مقال تقريبًا خلال أحد عشر عامًا، وأول مقال منها استله رئيس تحرير المجلة الأستاذ حمد القاضي ونشره دون إذن صريح من الشيخ الجاسر، وكان التفاعل الكبير معه سببًا في إكمال السوانح التي صارت أجلّ كتاب لهذا العالم الأديب البلداني.

ولن تخلو القائمة من سير المترجمين، ومنهم الأستاذ المترجم نجيب المانع الذي صدرت النسخة الأولى من سيرته “ذكريات عمر أكلته الحروف” وكانت نسخة معيبة ناقصة حتى استنقذها الأستاذ الكاتب محمد السيف بطبعة كاملة، وفيها أحاديث ماتعة وأفكار متنوعة عن الشعر والفن، والروايات والأدب، والكتابة والترجمة، والحياة والتأمل، وحول بعض الأدباء والشعراء، ومن الأسف أن بعض القراء لا يعرفون أنه ينتمي لبلادنا فينسبونه لغيرها. ومن السير الجميلة ما دونه المترجم الأستاذ منصور الخريجي في “مالم تقله الوظيفة: صفحات من حياتي”، وهي سيرة ذاتية كاملة، وفيها لذائذ من الصبر والحكمة والتجارب، وحظيت بتفاعل ثقافي مذهل.

كذلك تظهر لنا في القائمة سير الأدباء والمثقفين والكتّاب؛ وهذا شأن لا يستغرب لقربهم من الكتابة وعالمها، هذا غير بصرهم بكتب السير والطبقات والتاريخ، وعملهم فيها. فمما لا يخفى أن د.عبدالرحمن الشبيلي تداخل مع سير كثيرة بحثِّ مؤلفيها على كتابتها، أو مراجعتها، أو تحريرها كما صنع في سيرة الشيخ حمد الجاسر مثلًا؛ ولذلك لم يجد من قلمه تمنعًا عندما عزم على تدوين قصته؛ فبرزت للناس “مشيناها: حكاية ذات” مثل حسناء تختال برشاقتها، وتفخر بصدقها، وتعجب الناظرين بفصولها المثمرة، ولأجل ذلك نالت من أعمال القراءة والكتابة والمحاضرة ما يلفت النظر سواء في محيا كاتبها أو عقب مماته.

ثمّ تبدو لنا سيرة الأديب الشيخ عبدالله بن إدريس بعنوان “قافية الحياة”، وهي سيرة علم وأدب وصحافة وأسرة عريقة، ولعلّ المؤسسة الثقافية التي أنشأها أنجاله باسم والدهم الشيخ أن تعيد بعث هذه السيرة في محيطنا الثقافي؛ فهي جزء من إرث الراحل مثل الشعر ومؤلفاته الأخرى، وفيها شهادة تاريخية وثقافية وتعليمية. وآخر سيرة من هذه السير سيرة امتازت بالعمق لعيشها مع القراءة والكتابة بما يشبه الاعتكاف، وهي سيرة الأكاديمي د.محمد الأحمري بعنوان “مذكرات قارئ”، وهذا الباب الفكري والثقافي من الحصافة طرقه وتعريف العرب وغيرهم بالمثقف والمكتبة والكتاب والمؤلف المنتمية لبلادنا، وأتصور أن هذا الجانب من التأليف الثقافي والفكري سيكون سائدًا في سير قادمة، وربما أني أعرضت عن ذكر بعض القديم منها في هذا المقال لجعله مع غيره من جنسه في مقام آخر، وعسى أن نرى في المكتبات سيرة الأستاذ خالد المالك، ود.إبراهيم التركي، والأستاذ محمد رضا نصر الله، والأستاذ إياد مدني، والشيخ عبدالله الهدلق، ود.زياد الدريس، والأستاذ عبدالله المعلمي، وغيرهم.

إن هذه السير مثل الدليل الشاهد على غيرها في كمال الجودة ودوام الإطراب، وبيان لما يجده القارئ فيها من بهجة القراءة ودهشة المعرفة. ومن المؤكد أن لدى بعض القراء آراء أخرى هي موضع التقدير، ولا خلاف على أحقية الاختلاف؛ ذلك أن في النفس أقوالًا ثانية، أحتاج فيها لمزيد نظر قبل الجزم بشيء وترجيحه، وربما يكون ذلك في مقال آخر، فالسير الذاتية السعودية كثيرة متوالية الصدور، وهذه الأيام أيامها قبل أن تصيبها فترة؛ فيذهب القراء إلى وجهة أخرى.

ولست بتارك القارئ قبل أن أسوق له البشرى مخبرًا إياه بأن سيرة الوزير الشيخ جميل الحجيلان لو كانت منشورة متاحة لجعلتها من ضمن هذه القائمة عن جدارة واستحقاق بعد اطلاعي عليها؛ فهي سيرة ذاتية لكاتب مفكر، وقانوني امتهن العمل الدبلوماسي، ووزير مؤسس في الإعلام ومكمل في الصحة، وسفير عميد، وأمين منظمة إقليمية، ومع هذا وقبله وبعده، سيرة سليل أسرة  مكافحة ضرب أوائلها في الأرض مع قوافل العقيلات، ووجد المؤلف نفسه في بواكير الشباب مسؤولًا عن عائلة كبيرة، فكان برًا محسنًا، وعاش محبًا عاشقًا للحياة وشريكته فيها، وعسى أن يسابق المحظوظ الموفق إلى تسريع إصدار هذه السيرة الفريدة التي تحكي عن قرن من الزمان، ذلك أنها ستكون من السير الذاتية التي يتحدث عنها أبناء البلاد خاصة، والناطقون بالضاد عامة، زمنًا طويلًا، فمن يتوكل على الله ويمضي بها إلى المطبعة كما هي؟!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الدوحة-قطر

ahmalassaf@

السبت 24 من شهرِ صفر عام 1445

09 من شهر سبتمبر عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. وكذلك يا أ. أحمد
    سيرة الاديب حسين سرحان الطائر الحزين للدكتور عبدالله الحيدري عن رساله ماجستير من اجمل السير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)