سياسة واقتصاد عرض كتاب

في أروقة مجلس دراية

Print Friendly, PDF & Email

في أروقة مجلس دراية

دعيت للحديث من قبل قناة “دراية” لتقريب العلوم الإنسانية والمعارف المتصلة بها، وهي قناة على تطبيق التليقرام، وواحدة من مبادرات مركز “إيالة” للعلوم الإنسانية الذي يستهدف رفع الوعي بالعلوم الاجتماعية على مستوى التثقيف ومستوى التمهير بحسب طبيعة المستفيدين من برامج المركز، وذلك من خلال صناعة المحتوى، ونشر الأدوات، وبثّ الوعي، والتدريب، والتفعيل، وزيادة الروابط التخصصية ومجموعات التركيز. وتؤول لإيالة عدة قنوات في وسائط التواصل الاجتماعي المقروء والمسموع والمرئي والمتنقل لمخاطبة جمهوره العريض أينما كان.

أما الدعوة فكانت للحديث في أولى حلقات مجلس دراية عن كتاب مهم سبق لي الكتابة عنه وعن إخوانه الذين سبقوه أو تبعوه. وتعود بي العلاقة مع هذا الكتاب إلى جلسات أنيسة قضيتها في مكتبة إحدى المؤسسات الثقافية، إذ تطوع المسؤول عن المكتبة- وهو رجل مسن مثقف له عناية واسعة بالتاريخ- فأحضر لي كتابًا صغيرًا يتحدث عن أمريكا والإبادات الجماعية، وبعد أن فرغت من قراءته، بحثت عن كتب المؤلف؛ فقرأت أخويه الباقيين كليهما عن الإبادة الثقافية والإبادة الجنسية، وكتابًا رابعًا وثيق الصلة بالثلاثة وموضوعه عن أساطير تلمودية صنعت أمريكا.

ثمّ بعد بضع سنوات طلب مني رئيس تحرير إحدى المجلات المهمة أن أكتب مقالة واحدة عن هذه الكتب الثلاثة، فاضطررت لإعادة قراءتها مرة أخرى، حتى أكتب مقالًا مستوعبًا عن كلّ واحد منها، تمهيدًا لكتابة مقال جامع عن الكتب الثلاثة. وتواصلت لأجل هذا مع مؤلف هذه الكتب خلال تلك المدة، وأظن أني فيما بعد رأيت للمؤلف د.منير العكش كتابًا يربط بين ما يجري في فلسطين وما حدث لسكان أمريكا من ناحية الاحتلال والقتل والتهجير والتشويه الثقافي والإعلامي، ولم أقرأه، علمًا أن لدى المؤلف العكش مشروع لتأليف كتاب عن الدين في أمريكا، ولا أعلم عن مصيره.

وبين يدي الحديث، وقبل أن أعرض شيئًا يسيرًا عن الكتاب لسهولة الرجوع إليه أو إلى المقال المنشور عنه، أود الإشارة إلى أمور تبدو لي هي مهمة، هي:

  1. التاريخ لا يكتبه المنتصر فقط! فمن يصدّق أن فظائع الإنجليز البيض التي أنهكت شعوبًا كاملة ستبقى حتى لو مات جلّ شهودها!
  2. مركزية الرواية والتوثيق، فلولا الروايات الشفهية وبعض الوثائق المكتوبة لما استطاع أحد معرفة ما حدث على الأرض، وبعض هذه الروايات صدرت عن أناس ربما غير محسوبين على الفضاء الثقافي، ولذا فمن الحكمة أن نلتقط مثل هذه المرويات لنسج سردية متماسكة وذات دلالة حتى لو كانت الرواية الكاملة غائبة.
  3. التأكيد على أهمية تدوين اليوميات، وتقييد الحوادث مثلما فعل مؤرخون كثر، ولا يغيب عن البال مثلًا قيمة صنيع الجبرتي، ويجب ألّا نركن لوجود الانترنت والمقاطع المرئية وإن كانت الإفادة منها واجبة؛ فهي إن ظلت متاحة لن تنقل لنا الشرح والشعور الذي خالج الناس مع الأحداث.
  4. التاريخ درس قابل لأن يتكرر؛ فهل نحن أمة قابلة للعظة والتعلّم كي لا يتكرر عليها البلاء الشديد!
  5. الثارات لا تموت وإن خمدت يومًا؛ فكما أن للأفارقة مظالم في أمريكا تستعر بين حدث وآخر، فكذلك للسكان الأصليين، ولا ندري إن كان منبعث القوم من مرقدهم سيطول أم لا؟!
  6. من السذاجة ألّا نتوقع من الطرف المقابل أعمالًا تنفعه وربما تضرنا أيًا كان موقعنا بالنسبة له: منافس أم خصم أم عدو أم جنس محتقر! والملامة لا تقع على هذا الطرف وإنما على من ترك مقاومته وغفل عن تقوية نفسه، وأشد ملامة من منح المقابل الثقة أو سعى بعمه لاسترضائه، وعاش في ردغة الأوهام ونفي المؤامرة!
  7. يجدر بنا إعادة دراسة التاريخ الغربي خاصة مع أمتنا، وتجلية فظائع الاحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين سواء في القتل، أو قطع الأوصال، أو زرع الفتن، أو النهب، أو الإفساد المباشر، أو تخليف وكلاء السوء، وغير ذلك من بلايا متعاقبة آثارها حاضرة وربما تتعاظم.
  8. العناية بالبرامج المتناسلة؛ فبعض الأعمال مثلًا تحمل بذورًا لأعمال أخرى، أو تقود لغيرها، ومن غير المناسب إهمال هذه الارتباطات سواء أكانت إضافة أم تصحيحًا أم اختصارًا للموجود، وبعضها ربما تكون زوائدًا من أثر عمل قديم، وهذا العمل مثال على ذلك؛ فكتاب واحد عن الموضوع قاد إلى إصدار عدة كتب بعد أن استفرغ المؤلف جهوده، وأمضى سنوات في البحث والتنقيب الجاد في الوثائق والمكتبات.

فإذا أردنا الالتفات إلى الكتاب وجدناه يرصد جهود المحتلين في الأرض التي وصولها، فأطلقوا على أهلها زورًا اسم “الهنود” ونهبوا ثرواتها، وقتلوا أهلها، وصيّروا ذكرى تلك المذابح أعظم عيد تعيشه أمريكا في رابع خميس من نوفمبر كل عام، ولم يكتفوا بذلك وإنما سعوا إلى مسخ ثقافي وتضليل إعلامي ممنهج لأهل الأرض من خلال:

  1. تغيير الدين، والإجبار على تلاوة الإنجيل وحفظ مقاطع منه.
  2. الإلزام بدراسة اللغة الإنجليزية والتضييق على اللغات المحلية.
  3. تغيير أسماء الأطفال ومنحهم أسماء غربية غريبة لقطع ارتباطهم بالثقافة المحلية، وهذه الخطوات الثلاثة تطبيق لمقولة توماس مكولاي مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة حيث يقول: “لا أظن أننا سنقهر هذا البلد ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي”.
  4. محاولة طمس التاريخ والمعالم وأسماء الأماكن والمدن لإتمام قتل هندية الهنود تحت شعار عنصري قبيح هو: الذبح أو التمدين!
  5. إساءة استعمال المدارس فشكلها تعليم بينما حقيقتها تدجين وإفساد ومسخ واغتصاب تشيب منه الرؤوس.
  6. كان من نتائج هذا التعليم أن وضع الهنود سلاح المقاومة، واستسلموا لاتفاقيات السلام المخدرة؛ هذه الاتفاقيات التي قال عن أوراقها “ريتشارد وايتسل” مدير مكتب الشؤون الهندية: إنه لا يرضى أن يمسح بها مؤخرته!
  7. صنع شخصية عامة للمواطن الأصلي خلاصتها أن يرى نفسه دون المحتل في كل شيء، وأن المحتل قدوة في كل شيء، وهذا من أخطر المفاهيم لما يخلفه من عبودية داخلية متجذرة، وانكسار نفسي وحضاري.
  8. استخدام صنائع من نفس بيئة السكان الأصليين ليكونوا رأس حربة في مشروعات التخريب، لكن توجيه هذه الحراب بيد المحتل ولا يمكن لهؤلاء العملاء تغيير أيّ شيء من المخطط؛ ولا عجب فلكل شيء آفة من جنسه! وجعل هؤلاء في واجهة الصورة يؤدي لقبول النتائج، ويعين على ادعاء الحيادية، ورفض الاعتراضات، ولأهمية هؤلاء الخونة قال توماس مكولاي: “علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم؛ طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم إنكليزو الذوق، والأفكار، والتوجه، والأخلاق، والعقل”، وهي فكرة تعين على الاحتلال من الداخل، وتربية جيل من أرخص السماسرة يغنون الغزاة عن الجيوش الجرارة.
  9. رمي الآخر بنقائص تخصّ المحتل إذ ألقى أربعة وعشرون رئيسًا أمريكيًا أزيد من مئة خطبة قبل شنّ حروبهم، وأجمعت خطبهم على وصف الضحية بأنه خطر وشر، وأن طبيعته شاذة ثقافيًا وجسديًا.
  10. الإفادة من الإعلام والسينما في صناعة صورة ذهنية سيئة عن السكان الأصليين وأخرى حضارية أنيقة عن المحتل.

وبناء على ما مضى، يناسب أن نلاحظ بعض المسائل المرتبطة بها وبغيرها مما يقع في نطاقها من جنسها أو من المشابه لها؛ كي لا نخدع عن الحقيقة، ولا تفجعنا الحقائق، فمنها:

  1. أثر النظرة الدينية لدى رؤساء أمريكا؛ فالرئيس “مكنلي” يزعم أنه تحدث مع الله قبل حرب الفلبين، و”بوش” الابن يدّعي أنه تلقى أمرًا مباشرًا من الله لغزو العراق! وبعض عقائد الزعماء الأمريكان ترتبط بنظرة قيامية تستعجل الحروب من أجل نزول المخلّص.
  2. إذا أضطر المحتل المعتدي للاعتراف بجرائمه فإنه لا يتورع عن وصفها بأنها أضرار هامشية حتى لو كانت قتلًا ودمارًا، وفوق ذلك لا يحاسب جنوده وغن حاكمهم أصدر عليهم أحكامًا رخوة، بينما فرضت أمريكا مئات الملايين لتعويض كل قتيل في حادثة طائرة “لوكربي”، وحكمت على طبيبة باكستانية بالسجن ستة وثمانين عامًا لأنها فقط متهمة بالشروع في قتل جندي أمريكي، فما أهوننا عليهم!
  3. النظرة الغربية تجاه أمتنا باقية تقوم على عقائد ومفاهيم استعلائية مثل الاختيار الإلهي، والضرورة الأخلاقية، وهمجية الأطراف الأخرى، ولنظريات “دارون” في التطور والبقاء للأصلح ما يسوغ لهم جرائمهم فهم الأقوى والأقوى هو الأصلح والأحق بالبقاء ولسواهم الفناء بالتخلّص منهم طبقًا لنظريات “مالتوس” السكانية الشهيرة بالدعوة للقتل البارد.
  4. استخدام علم الأنثروبولوجيا بعد تجريده من الإنسانية؛ وقد وصفت صحيفة نيويورك تايمز بعض أساتذة هذا العلم بأنهم جعلوا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق أكثر فاعلية، وأنهم يشكلون سلاحًا حاسمًا في الحرب.
  5. مع محاولات الغرب طمس جرائمه في أمريكا وأستراليا ونيوزلندا وهي كبائر فظيعة، فإنه في المقابل يضخم من “الهولوكوست” وهي أقل بكثير مما جرى في الأراضي الجديدة كما يسمونها كذبًا.
  6. حاول السوفييت واليهود تكرار التجربة مع المسلمين في آسيا الوسطى وفلسطين، وهي محاولات لا زالت مستمرة في بعض البقاع، وممتدة إلى أماكن أخرى في الصين والهند وميانمار، ومع ذلك فما أفلحوا ولن يفلحوا لارتباط المسلمين بدينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، إضافة إلى حمية المسلمين لإخوانهم على ضعفها وقلة الحيلة، ويساعد على الثبات والصمود عقيدة المسلم التي ترجو إما النصر أو الشهادة.
  7. ضرورة إيقاظ الوعي؛ فالغرب أكبر دعاة لحقوق الإنسان في الظاهر، وأهم أشد المخالفين للحقوق في الماضي والحاضر بأنفسهم ومن خلال غض الطرف والعون المادي أو المعنوي، ولن يكون حالهم في المستقبل أحسن؛ لأنهم أمة صدام واستئصال واجتثاث لا تفهم غير لغة القوة؛ حتى لو ظهر من بعض شعوبهم جوانب رحمة فطرية مشكورة واستنكار للبغي والعدوان؛ لأنها تبقى ضيقة محدودة.
  8. الحذر من المصطلحات التي تروج إعلاميًا والحجج التي تساق؛ فحين كانت بريطانيا تتهم العرب بالقرصنة وبيع الرقيق في ناحية من الأرض، لم يتورع جنودها وإخوانهم عن خطف أحرار إفريقيا واستعبادهم، ولم يتوانوا عن الإجرام المنهجي في حق سكان أصليين مسالمين رضوا بالتعايش مع الغزاة البيض، والتعايش مع أخواتها الرخوة كلمات لا يفهمها الغربي أبدًا، ولا يصير إليها إلّا تحت وطأة الضرورة المؤقتة.
  9. يوجد حول موضوع هذا الكتاب أو عن فكرته الأساسية كتب مهمة مثل رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لمحمود شاكر، وكتاب التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الذي ألفه اليساري الأمريكي الممتعض من عدوان بلاده “هوارد زِن”.

كان هذا هو زبدة الحديث الآنف بعد إضافة وحذف لا يخرجان به عن السياق إن شاء الله، والله أسأل أن يهب لنا من القوة المعرفية والمادية والمعنوية أعظم الحظ والنصيب؛ فالأماني لا تفيد، واستجداء الآخر يزيدنا ضعفًا ومهانة، ولا مناص من عمل يساعدنا على الانتقال من دائرة لأخرى، حتى ترجع أمتنا إلى المركز الذي يقارع ويحرك ويؤثر، ويجعل الآخرين أطرافًا تحسب لنا الحساب، أو تدور في فلك أمتنا الذي يستقيم عموده على الرحمة والتنمية والعدل والإحسان، وما ذلك على الله بعزيز.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 17 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

20 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)