سير وأعلام شريعة وقانون

صلاح الحجيلان: محامي مع سبق الإصرار والترصد!

Print Friendly, PDF & Email

صلاح الحجيلان: محامي مع سبق الإصرار والترصد!

يعلم الله أنها كانت لي ساعات أنيسة في ليال بهيجة، تلك التي قضيتها مع المحامي صلاح بن إبراهيم الحجيلان (1359-1442=1940-2021م) في منزله على انفراد أو برفقة آخرين، وكم حزنت بفقده، وكم فقدت برحيله، وكم ارتحل بغيابه، وإنه إن غاب عني في نفسه، فما غاب في رمسه؛ إذ ما ذهبت لمقبرة الشمال بالرياض مشيعًا أو مسلّمًا على والدتي وداعيًا لها ولمن يجاورها إلّا سلّمت عليه ودعوت له ولمن جاوره في مثواه ومرقده البرزخي، والله يرحم الجميع، ويتقبل الدعاء والابتهال.

ومما قاله لي الشيخ صلاح غير مرة جوابًا عن سؤالي، إن حياته لو جُعل لها عنوان فلن يكون إلّا: صلاح الحجيلان: محامي مع سبق الإصرار والترصد! ولذلك حرصت على استجلاء هذا الوصف إبان أحاديثه الليلية الماتعة معي، وتتبعت بعض المفردات والوقائع التي تؤكد هذا الوصف، وتثبت أنه دقيق وهو به حقيق؛ فاكتمل أمامي بناء واضح المعالم، بارز الأركان، مضاء الأرجاء، وكل ما فيه من وقائع وتكييف وتسبيب يدل على أن صلاح الحجيلان كان صدقًا وحكمًا هو المحامي مع سبق الإصرار والترصد!

فأول أمر بدا لي من مسيرته القانونية العتيقة التي يؤرخ بها، أنه كان أذن خير في مجالس والده التاجر العقيلي الشيخ إبراهيم الحجيلان، فراقت له طلاوة الحديث، وحلاوة السياق، وفن الإنصات؛ وتلك لعمركم من أهم المهارات التي يجب على المحامي أن يتقنها، وهي حسن الحديث، وجودة الإصغاء، وأدب المجالس؛ ولأجل هذا ظلّ الشيخ صلاح حفيًا ومعجبًا بمن يبرعون في الكتابة والحديث. ثمّ واصل التعلّق بالمهنة وهو يرى أخاه الأكبر معالي الشيخ جميل الحجيلان يقرأ كتب القانون إبان دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة الملك فؤاد؛ فأحسّ بالجلالة تملأ جوانحه، وشعر بعشق يسيطر على جوانبه، ومن حينها عزم على المضاء في الطريق ذاته لا يلوي على شيء.

لذلك التحق فور تخرجه في الثانوية بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهي نفس الكلية التي درس فيها أخوه القدوة القانونية الأولى له. وكان الطلبة ينشغلون بمحتويات المنهج فهمًا وحفظًا أملًا في تحصيل الدرجات العُلى، لكنّ الطالب الشاب صلاح الحجيلان أخذ يرقب بذهن متوقد، وقلب حاضر، وأذن واعية، فانبهر من طريقة وقوف الأساتذة على منصة المدرج أمام الطلبة، ومن كيفية الأداء الجسدي والخطابي، ولاحظ فيهم استقامة الظهر بأعناق مشرئبة وعيون ناطقة ولو بلغ بعضهم من العمر عتيًا، مع نغمة آسرة، ونبرة باهرة، وثقة بالغة، ولغة صائبة، ومن حينها وقع في خلده، ووقر في نفسه أنه سيكون محاميًا مع سبق الإصرار والترصد، وإن لغة الجسد مع لغة القلم واللسان لمن ركائز العمل القانوني.

وبعد نيل الشهادة الجامعية ساقته أقدار الحكيم العليم إلى العمل في رئاسة مجلس الوزراء، التي يوجد فيها المستشارون، وتنبع منها القوانين، أو تراجع داخل أروقتها الأنظمة، وفيها الخبراء والكبراء، وهو مجال يجد فيه نفسه، ويتوافق مع شغفه الكامن في أعماق عقله. ومن الموافقات أنه في دراسته وعمله تزامل وترافق مع شخصيات قانونية سعودية مهمة، مثل أصحاب المعالي الشيخ يماني، والدكتور الملحم، والدكتور القصيبي، والدكتور العمران، والدكتور النفيسة، وحتى عندما تفرغ لدراسة الماجستير بأمريكا توافق زمانًا ومكانًا مع بعضهم وآخرين، ونال مع الدرجة العليا لغة قانونية أجنبية سوف تنفعه في مشروعه ليكون المحامي مع سبق الإصرار والترصد.

عقب ذلك رجع إلى المملكة وقد استقر لديه القرار بيقين تام على تقديم استقالة مبكرة، وفتح مكتب محاماة واستشارات قانونية دون التفات لمعارضات من أقارب وأصدقاء حاولوا شفقة عليه ثنيه عما أراد؛ بيد أنه أصر، وحصل على ترخيص متقدم، يتميز بتوقيع من الملك فيصل. وبدأ في العمل معتمدًا سياسة المحاماة الوقائية التي تحول دون حاجة كثير من الشركات الأجنبية أو المحلية إلى مراجعة المحاكم، والدخول في دوامة طويلة من الجلسات تكاد أن تكون سمة للمحاكم في كثير من البلاد؛ وليس عندنا فقط كما يحاول البعض أن يوهمنا، وفي هذا المنهج الوقائي إشارة إلى أن أبا حسام كان فعلًا يحسن الترصد للثغرة التي ينفذ منها سابقًا بلا منافس ولا حتى لاحق، ويسلم بها من ألغام ومناكفات.

كما عمل الشيخ صلاح في مكتبه على عدة محاور بالتوازي أو التوالي؛ منها التعاقد مع كبار أساتذة القانون للعمل معه، وليخلو بهم مستفيدًا من علمهم وخبرتهم، ثمّ الشراكة مع مكاتب أجنبية عالمية تمنح لمكتبه الصفة الدولية، وتعطيه من الخبرة مثل ما يعطيها لأنها متعطشة لسوقنا، وتوظيف محامين أجانب من أمريكا وكندا وبريطانيا، وبعدها افتتاح فروع عدة لمكتب الحجيلان في شرق البلاد وغربها، واستقطاب خريجي الشريعة والقانون للعمل في مكاتبه مع العناية الفائقة بهم؛ حتى وإن غادر بعضهم مكتبه ودخل في السوق منافسًا للمحامي الأول مع سبق الإصرار والترصد.

وكان الشيخ صلاح للمحامين الذين عملوا في مكاتبه طوال نصف قرن أكثر من مالك وصاحب عمل؛ فقد سعى بإخلاص لتعليمهم نظريًا، وتدريبهم عمليًا، وابتعاث بعضهم للدراسة العليا أو إتقان اللغة، وتقديم النصيحة والعون لمن شاء الاستقلال منهم؛ بل والعفو والصفح عمّن أساء وهم نزر قليل، ولو تحدثت هذه الأجيال عن الشيخ صلاح وطريقته وكرمه العلمي والمادي لما اختلف المعنى الذي يقوله قدماء العاملين في المكتب عن المعاصرين منهم؛ وتلك لعمركم سمة الرجل الذي أراد أن يكون المحامي مع سبق الإصرار والترصد.

كذلك من فرائد الشيخ أن ذريته كلها ممن درست القانون وعملت في المحاماة عن قناعة ذاتية؛ فأنجاله الثلاثة، وأميرته الوحيدة، كلهم محامون ناجحون، ولهم حضور مهيب ترسيخًا للعراقة المهنية التي شقّ صخورها الصلبة، وغالب أمواجها المتلاطمة والدهم الكبير، وما أكثر ما رأيت السعادة تغمره وهو يقرأ ما كتبوه، ويعجب بطريقة تفكيرهم، حتى أنه أطلعني مرة على رأي كتبته له عبر البريد الإلكتروني ابنته المحامية حنين، وعلمت منه أنه قرأه عدة مرات جذلًا به وبكاتبته.

ومن أعمال الشيخ القانونية جهوده الموفقة لجمع المحامين العرب والقانونيين في لقاءات مع الغرف التجارية للمضي قدمًا بأعمال التحكيم والصلح، وهو باب يقصر عناء التحاكم، ومنها إصدار كتب ودراسات في هذا الباب، وأيضًا تجاوبه مع الأجهزة الحكومية في كل ما يخدم الصنعة القانونية، وتواصله الدائم من رجال الدولة في الحكم والقضاء والرواق العدلي خدمة للأنظمة والمهنة والزملاء، وتقديره لجهود أولئك الكرام حتى لو خالف بعضهم في رأي أو طريقة.

أما العمل المنبري للشيخ صلاح على قلته قياسًا لاستحقاقه العلمي والعملي بالتصدر؛ فكله لأجل المحاماة والقانون، ومثله ظهوره التلفزيوني الوحيد في حلقتين مع الإعلامي الأستاذ جاسم العثمان المخصص لقضايا المحاماة والقانون، وفيه استشراف مستقبلي أصاب فيه الشيخ صلاح، ومما ذكره ما يخصُّ عمل المرأة في هذا الحقل، وإصدار الأنظمة، وتأمين المحامي لمن لا يستطيع، وغيرها، واللقاء بما فيه يجعلنا نؤمنإن لم نكن قد آمنا من قبلبأن الرجل محام مع سبق الإصرار والترصد.

وقد دخلت عليه مرة؛ فوجدت خاطره متكدرًا؛ ثمّ علمت منه أنه متنغص بسبب إجراء لا يراه قانونيًا وقع لأحد زبائنه في إحدى البلاد، ولا بأس لديه من الضبط والتحقق والمتابعة شريطة الابتعاد عن الظلم والتعسف. ومن التزامه القانوني الدفاع عن الحقّ حتى لو كان الطرف الآخر قويًا أو محاطًا بقوة وأقوياء، ومنه تحمل الضرر المعنوي من بعض الإعلاميين بسبب علاقاته الدولية؛ تلك العلاقات التي لا يجمعها إلّا القانون والمحاماة.

وقد طبّق ما يدعو إليه من ضرورة نجدة المستغيث ولو دون مقابل، وأخبرني رجل أنه زاره بلا معرفة سالفة ليستشيره مجانًا؛ فلما واجه الشيخ صلاح هابه، ولم يتحدث إلّا بعد أن وجد منه الاستقبال ببشاشة والترحيب بلطف، ثمّ أرشده لكيفية الخروج من مأزقه، وتلك يدٌ منه لها أخوات مع آخرين في قضايا عديدة، وفي بعضها تدخل لإنهاء خلاف قائم، أو وأد أسباب خلاف قبل استفحالها.

ولأن أولاده وهم أدرى الناس به يعلمون عن والدهم هذا التمسك الجاد بالمهنة، والعناية الفائقة بميدانها وأهلها، فقد سارعوا بعد رحيله للاتفاق مع إحدى الجامعات الأهلية على إطلاق برنامج منحة المحامي صلاح إبراهيم الحجيلانرحمه اللهلدعم وتمويل طلبة كلية القانون والعلاقات الدولية في جامعة الفيصل، ولا يخامرني شكٌّ بأن هذه الفكرة ربما جرت على لسان الشيخ في محياه، وإن لم يكن فلو علم بها لفرح وسعد واستبشر؛ فلنعم البر، ولنعم العهد، ولنعم الذكرى.

أخيرًا؛ فمن لطائف علاقة شيخنا الكبير بالمحاماة والقانون والشؤون العدلية، أن زوجه الكريمة صفية بنت سليمان بن حمد السليمان قد حملت اسمها بناء على ميلادها في يوم تصاف وتصالح بين خصوم خصومتهم راقية نبيلة، وعندما اقترن بها الشيخ صلاح في جدّة عقد لهما القِران خالها معالي الشيخ محمد الحركان أول وزير عدل في السعودية، وكان حينها من كبار القضاة في المملكة؛ فلكأن الشيخ صلاح الحجيلان ملتزم بالمحاماة والقانون والعدل حتى في حياته التي بدأت بافتتان لغوي، وانجذاب أدائي، ودراسة متخصصة، ومعمل حكومي، وزمالة طويلة، واقتران عائلي محفوف بالصلح والعدل، ومكتب رائد سابق، وتطبيقات لا مثيل لها مجتمعة، وكلها تجعلنا نقول: عليك سلام الله في ضريحك يا صلاح الحجيلان؛ فلقد كنت على التحقيق الوثيق الذي لا ينقض ولا يستأنف عليه: المحامي الأول مع سبق الإصرار والترصد!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الجمعة 08 من شهرِ شوال عام 1444

28 من شهر إبريل عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. سوف نظل ممتنين لكاتب متميز مثلك حين اظهر لنا ما كان جهلنا مسرف في عدم معرفته، حتمًا سيعلق بذهني للأبد اسم هذه الشخصية المتفردة المتميزة، فقد كان تقديمك عن صلاح الحجيلان-رحمه الله- في حلقة الراحل تقديم باحث حقيقي متعمق ومدرك لشخصية هذا المحامي الفذّ، خطف حديثك عنه عقولنا، بينما مقالتك هذه أسرت قلوبنا تمامًا..زاد شغفي للبحث أكثر عنه و الإبحار في سيرته، كل ما تكتب عنه يصبح جاذب بنحو لا يمكن مقاومته، إنك ترسخ حضور الآخرين بقوة ما تكتب عنهم..فحين يكتب الكاتب المتمكن بمهنية شديدة واحترافية في انتقاء ابلغ الكلمات في الوصف فإن مبنى المقالة وأركانها ومعانيها ستكون بديعة ورشيقة، تمامًا مثل كتاباتك كلها كما عهدناها، إلا أن هذه المقالة منذ افتتاحها حتى نهايتها وهي ممتلئة بالمشاعر الصادقة، الكثير من الحب، زاخرة بالوفاء، أحببت طريقة تحدثك عنه ومعرفتك الشاملة لسيرته، ولا أخفيك أنه تحت لحظة نشوة واعتزاز وافتخار به تمنيت لو أني سلكت تخصص المحاماة، حفزتني الحلقة والمقالة واشياء أخرى، ما لبثت إلا أن عدت لجادة الصواب لأن السلك القانوني يحتاج لشخصيات تمتلك مهارات استثنائية..حضور طاغي وربما محامي مع سبق الإصرار والترصد..
    بحق محظوظ من يقع قلمك عليه لتكتب عنه او إليه..

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
    تقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير .
    ما أجمل عزفك على وتر الكلمات أستاذنا الفاضل أحمد ، وما أروع طريقة إخراجك للمشاهد في حلة تصويرية حية ابداعية مشوقة وجميلة .
    من خلال تصويرك اللغوي الجميل وتوالي سردك للأحداث في تسلسل زمني متسق ومترابط ؛ فقد استحضرت تلك اللحظات الآسرة التي جمعتني بالشخصية الفذة المتفردة للفقيد الراحل صلاح الحجيلان رحمه الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)