سير وأعلام

أحمد زكي يماني وزير الذهب والأدب   

Print Friendly, PDF & Email

أحمد زكي يماني وزير الذهب والأدب   

هذه الحياة عجيبة، ومن خبرها أن بعض الناس يغيبون عن العين والمشهد اليومي، بيد أنهم لا يغيبون عن الذهن والتاريخ، ومنهم العكس وإن كانوا ملء السمع والبصر، وأعتقد بأنّ معالي الشيخ أحمد زكي يماني (1930-2021م) من النوع الأول، فلا يمكن سرد تاريخ النفط في بلادنا، وحكاية شركة أرامكو، ومسيرة مجلس الوزراء، ونشأة جامعة البترول، وسجل الدراسات المكية، دون الإشارة إليه بقليل أو كثير.

يُعدّ الشيخ يماني ثاني وزير نفط سعودي بعد الوزير الأول معالي الشيخ عبدالله الطريقي، وأول أمين عام لمنظمة الأوبك، وهو أطول من تولى هذه الوزارة مدّة، وأطول وزراء الحقيبة الواحدة في تاريخ مجلس الوزراء السعودي من غير الأمراء (1962-1986م)، ولم يتجاوزه إلّا معالي الدكتور مساعد العيبان الذي قضى خدمته الوزارية جميعها في منصب واحد وزيرًا للدولة (1416-1442)، كما أن اليماني ثالث وزير يُعفى في عهد الملك فهد -حسبما أذكر دون استقصاء- بعد الوزيرين الشيخ د.محمد يماني، والأديب الشاعر د.غازي القصيبي، وقد تبع هذه الإعفاءات تكهنّات كثيرة يبتعد بعضها عن الصواب؛ لأن التعيين والإعفاء يسيران في إطار لا يعلمه يقينًا إلّا صاحب القرار ومحيطه اللصيق، ولذا روي عن اليماني أن خبر تعيينه بلغه فجأة وهو في بيروت، وسمع خبر إقالته فجأة وهو في بيته.

كذلك للوزير أحمد زكي يماني علاقة وثيقة مع الملك فيصل، فصارت كلماته وآراؤه معبّرة عمّا يدور في ذهن الملك بحكم هذا الاقتراب الشبيه بحال الابن مع أبيه، حتى سمّى اليماني نجله باسم مليكه المحبب، وكان شريكًا على مائدة غداء الفيصل أو عشائه في أوقات كثيرة، حتى قال إن الملك يستغرق خمس دقائق منذ أن يقبض على التفاحة إلى أن يفرغ منها، ولقربه من رئيسه حضر معه لقاءات مهمة داخلية وخارجية، وكان شاهدًا على حادثة اغتياله الأليمة، وربما أنه آخر شهودها رحيلًا.

وإن يغفل الناس عن أيّ شيء في حياة الوزير فلن ينسوا المواقف العصيبة التي عبرت به عام (1975م) خلال سبعة وأربعين ساعة قضاها مختطفًا على يد جماعة مجرمة بقيادة كارلوس المطلوب عالميًا، وكادت أن تخترق جسده رصاصات الرشاش لولا ثبات موقف هواري بو مدين رئيس الجزائر آنذاك، ومن نبل أبي فيصل أنه رفض توجيه التهمة للرئيس العراقي صدام حسين باختطافه؛ لأن صدام في ذلك الوقت يُحاكم من قبل الأمريكان وأتباعهم في العراق، وليس من المروءة الاستقواء على أسير ليس له حيلة ولا قوة.

ومن مواقفه التي لا تُنسى مشاركته قبل ذلك بعامين في تنفيذ سياسة حظر تصدير النفط، وتقليل نسب الضخ الشهري من دول أوبك غضبًا من الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل، وفعاليته في مؤتمر الدوحة الذي قلب موازين أسعار النفط، وعلى إثر ذلك انتهت حياة الشاه السياسية، ومنها إلقائه كلمة في افتتاح كلية البترول التي أضحت جامعة متخصصة فيما بعد، وله مواقف في رعاية هذه الكلية الوليدة بعد غياب عميدها المؤسس د.صالح أمبة، وللوزير أثر قوي في استجلاب الأموال لهذه المؤسسة التعليمية من أرامكو التي حاولت التملّص من هذا الاستحقاق، والمراوغة أو التأجيل، وكانت تلك الأموال سببًا في تشييد مباني ممتازة للكلية والجامعة.

ينتمي الشيخ يماني إلى عائلة مكية عريقة ذات مكانة علمية في الفقه الشافعي، ولأبيه وجده مناصب إفتاء وتدريس في الحرم وفي إندونيسيا وماليزيا وتركيا، ولذلك فارتباطه بالحرم والتعليم ظاهر في مسيرته الحياتية سواء حين مارس التعليم في مدرسة الفلاح، أو في جامعة الملك سعود بعد عودته من البعثة الدراسية بمصر وهارفرد، واستمر معه هذا الشغف حتى مُنح شهادات فخرية من جامعات عالمية وعربية، بيد أنّ أغلاها على قلبه هي الشهادة الممنوحة له من جامعة القاهرة، لأنّ عروبته نقية، وحميته لقومه ظاهرة، والحبّ للحبيب الأول!

كما يبدو أن في الرجل جرأة وإقدام سواء على الحديث أو الفعل، فمن الحديث جرأته في الكلمات الرسمية التي ألقاها أمام الأمراء وهو دون العشرين، وما كان يكتبه من مقالات وكتب، أو يقوله من أحاديث عبر الإذاعة أو في مجالسه، وبعضها جلب له الإحراج الرسمي أو المجتمعي، ومن الفعل محاولته استكشاف حقيقة بعض التيارات في مصر إبان دراسته فيها، وحين أعجبته خطبة الشيخ شلتوت اشترى طربوشًا ليتمكن من الدخول والاستماع، وبعد أن راقت له موسيقى الأوبرا اشترى اللباس الحصري الخاص بها، وفي الواقعتين السابقتين استعار طربوشًا وبدلة أول الأمر، وبعد أن استوثق من رغبته بمتابعة الحضور في الجامع والأوبرا اشترى طربوشًا وبدلة.

أيضًا من الملامح المهمة في مسيرته أنه حين أُعفي من منصبه، لم يتجهم لبلاده أو يقف منها في موضع المتربص، بل دافع عنها وعن مواقفها، وإذا أبدى رأيًا مخالفًا لبعض المسائل يصرّ على أنه ليس رأي المعارض بل الناصح المحب للكيان وأهله، ويسوق رأيه بلطف عليه إهاب من التوقير والتقدير وترقيق العبارة قدر المستطاع، ومن الأكيد أن الحكومة علمت منه صدق هذه المشاعر، فتعاملت معه بهدوء كما تفعل أيّ حكومة رزينة مع رجل دولة خدمها قريبًا من ثلاثة عقود، ولم يداخلها ريب في بواعثه، وتلك مزية نفيسة بمثلها يُستمسك، وفي استمرارها ونموها خير كبير.

وكان من آراء الرجل الكبير الراحل ضرورة منح الحريات في إبداء الرأي بضوابطها الواضحة المتوازنة، وتقليل القيود على الحركة والتنقل فلهذه القيود أثر ثقيل على النفوس، ويرى مركزية التعليم في التنمية وفي كلّ نهضة في الحال والمآل مع حتمية رعايته وتطويره، وأهمية الإصلاح المالي من جوانب متعددة، ويدعو لخدمة قطاع الصناعة، وتنشيط حركة التجارة، والاستقلال في القرار النفطي حتى لا تفقدنا أمريكا بمكرها هذه القوة التي رزقنا الله إياها.

ومن أفكاره يتضح أنه لا يمنح الثقة للأمريكان فضلًا عمّن سواهم، ويدعو لإجادة لعبة المصالح وأوراق الضغط معهم ومع غيرهم، ويجزم بأن أمن إسرائيل أهم عند أمريكا من النفط، ويتحسر على المعارك العربية والإسلامية، وعلى احتلال العراق الذي فتح باب الشرور على المنطقة، ويبدي شكوكه في هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ وكأنه يلمح إلى طرف خفي فيها لذي قوة أو مكر استثمر تنظيم القاعدة، وله في هذه المسألة أقوال لافتة خاصة أنه كان حين وقوع الهجمات في بوسطن.

بينما امتاز الشيخ يماني بأناقة المظهر في لبسه السعودي والمكي والأجنبي، وبعذوبة الكلام حتى صار يتحدث وكأنه يعزف، واشتهر بقدرته على تقدير الموقف، وتوقع نتائج القرارات، وبكونه أحد مخازن الخبرة النفطية في العالم، ولأنه نال حضورًا لافتًا، وقدرًا كبيرًا من التأثير، بات هدفًا لكبريات الصحف العالمية، وتصدرت صوره صفحاتها الأولى، وفي عام (1985م) دعته جامعة هارفرد لإلقاء كلمة في احتفال لها باعتباره من خريجيها المؤثرين عالميًا، وكان المتحدث الآخر هو الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا.

أما على الصعيد الشخصي فللشيخ برٌّ ظاهر بوالدته، وتربية رفيعة لأبنائه وبناته، ولاحظ شركاؤه في فطوره الرمضاني السنوي أن أولاده يقومون إذا قام أبوهم إجلالًا لمكانته، وله علاقات مع العلماء والأدباء مثل شيخ العربية محمود محمد شاكر، ولم تأخذه المناصب ثمّ التجارة عقب ذلك والسفر والمحاماة عن المشاركات المجتمعية، والزيارات والتفاعل بالتهنئة والتعزية، وأودع طرفًا من اهتمامه في مؤسسة الفرقان التي أنشاها لحفظ التراث الإسلامي، وله فوق ذلك كتب وآراء، وكلّ أحد يؤخذ من قوله ويرد، مع حسن الظنّ بدوافعه؛ إذ يتدفق أثناء الحديث عن الإسلام أمام الأجانب بغزارة وثقة، تزينهما جاذبيته ورونق حديثه، طبقًا لوصف خلفه على مقعد الوزارة الشيخ هشام ناظر.

وأخيرًا فإن جلّ وزراء الدولة في المملكة كانوا على طراز رفيع من الأهلية وحسن التمثيل، وهم نخبة من رجال الدولة داخل مجلس الوزراء الموقر جديرة بالدراسة، وإضافة إلى ذلك فلعلّ رحيل ثلاثة وزراء نفط تباعًا (الطريقي ثمّ ناظر فاليماني) أن يحفز الوزارة أو أيّ مؤسسة بحثية على كتابة قصة الطاقة في بلادنا، ورسم صورة النفط وأرامكو من منظورنا ووثائقنا ومصالحنا، كي لا نجعل الأمر مقصورًا على الأمريكان الذين يمتلكون قدرًا كبيرًا من الوثائق، وقدرة فائقة على النشر والتوزيع، ومقدارًا لا يوصف من الحرية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 11 من شهرِ رجب عام 1442

23 من شهر فبراير عام 2021م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)