مواسم ومجتمع

سيرٌ تنتظر رواتها!

Print Friendly, PDF & Email

سيرٌ تنتظر رواتها!

إذا نظرت إلى أيّ مجتمع، فسوف تجد فيه الإنسان، والمكان، والكيان، وبتفاعل هذه المكونات تُصنع أحداث، وتستمر دورة العمر، وتتجدد مسالك الحياة، فالإنسان فاعل، والمكان مسرح، والكيان أداة، وربما تداخلت الأدوار بينهم، والمهم أن تتحرك معادلات التفاعل ولا تتوقف، ومع أنها ترتكز على الإنسان إلّا أنها مضطرة إلى مكان، وتحتاج إلى كيان، وللإنسان فضل زائد عليهما بتوثيق سيرته ثمّ حفظ حكايتهما ومسيرتهما.

لذا راجت تآليف السير الذاتية والغيرية، وكتب التراجم والطبقات، ومثلها المصنفات حول البلدان والأماكن، وأبحاث متينة عن المواضع الواردة في القرآن والسنة والسيرة والمعلّقات وغيرها، وهذا منهج علمي بنفس إنساني لم ينقطع، بل زاد في عدده، وفي أنواعه وطرائق عرضه، بما يفيد القارئ، ويمتعه، ويمنح للأجيال شيئًا من التاريخ وهو ينبض بالحياة، ويعبق بالمكرمات، وهذا الصنيع نفيس ورشيد جلب الخلود للذين حفظوا التاريخ الإنساني بطوله وعرضه، وبحسنه وضدّه.

ومع ذلك تأخرت سير الكيانات والمؤسسات في الظهور والنمو قياسًا على السير الشخصية والبلدانية، وربما يعود ذلك لأسباب من ضمنها حداثة عمر هذه المنظمات والوحدات الإدارية، والتغيّر الذي يطرأ عليها في صفتها وعملها والعاملين فيها، وكونها لا ترتبط غالبًا بإنسان أو مجموعة من الناس، إضافة إلى انهماك الكتل البشرية فيها بالعمل عن تقييد التاريخ، وتدوين الأحداث المرتبطة بتلك الكيانات، مع أنه لا يقلّ في فخامته عن تحقيق المآثر والمنجزات؛ وهو نوع من الشهادة النافعة.

لكنّ هذا التأخر لا يعني العدم، ولا يسوغ مزيدًا من التأخير، فما أحرى المؤسسات من وزارات وهيئات ومجالس ودواوين وأعمال وغيرها أن تبادر لتسجيل تاريخها، وسرد قصتها، بدءًا من فكرتها، ثمّ الشروع في تنفيذها، والعقبات التي صادفتها وكيف تعاملت معها، على أن تعرّج على أبرز الأسماء المؤثرة في مسيرتها خاصة من جيل المؤسسين، وتذكر أعظم الإنجازات، وأخطر العثرات، وأكبر الآمال والرؤى المستقبلية.

كذلك من المناسب الإشارة إلى الرحم الذي انطلقت منه المؤسسة، والمحضن الذي رعاها في مستهلّ ميلادها، ومثله الإشارة إلى التفريعات التي انبثقت عنها، ومن المعلوم والمشاهد أن كثيرًا من الكيانات كانت جزءًا من جسد أكبر ثمّ انفصلت عنه، وأن بعض المؤسسات حملت في داخلها أكثر من هيئة أو مؤسسة، وهذا التوضيح مفيد في معرفة الماضي، والتطورات، وربما يعين على رسم صورة المستقبل، وهو شرط ضروري في حسن الفهم والتصور.

ومن المهم أن تكون صياغة تلك الحكايات بحسٍّ سردي طري جذاب، يأسر قارئه ولا يدعه يفلت من بين يديه حتى بلوغ النهاية، مع تحاشي لغة التقارير والإحصاءات، ومن العدل ألّا تقود المواقف من أناس أو من أفكارهم إلى غمط جهودهم، أو الإنقاص من أعمالهم فضلًا عن طمس أسمائهم، ومن الصدق التحرز من بلاء تضخيم الواقع وأهله، ومن العقل الحذر من تصوير المستقبل بشيء يشبه المستحيل اتكاءً على النسيان أو غياب المتابعة، ومن الحكمة ألّا نغفل عن روض أنف في مرابعنا فيرتع فيه الأغراب وربما أتوا بالعجائب؛ فأهل مكة أدرى بشعابها وأولى.

أليس من المحزن أن نجد للمباني والشوارع تاريخًا محفوظًا في دول كثيرة، ونسمع عن المتاجر قصصًا قديمة، حتى أن الروايات عن بعضها تصل إلى مئات السنين، مثل تاريخ البيت الأبيض، والساحة الحمراء، وقصر بكنجهام، وعدد كبير من الأماكن التي اتخذت عند أهلها صور المؤسسات والكيانات، إضافة إلى الكم الهائل عن مؤسسات مثل الكونجرس، والكرملين، وكبرى الشركات والمشروعات والجيوش والمصانع والجامعات والمكتبات والمصارف والصحف في دول العالم، ثمّ لا نجد مثلها عمّا يعود لبلادنا وحضارتنا من معالم ومنشآت ومؤسسات!

فهل سيأتي يوم نعرف فيه تاريخ التعليم العام والعالي والمهني ورموزه الكبار، ونقف على تعليم المرأة بعيدًا عن التهكم وتحقير المجتمع، ومثلها نشأة القضاء، وتكوين نواة الجيش والجهاز العسكري كلّه، وتأسيس الوزارات، وبداية حركة الابتعاث، والرياضة، والعمل الخيري، والنشاط الأدبي والثقافي، والقطاع الصحي والبلدي، وشؤون الحج والحرمين، وتطورات البريد والاتصالات، ومناشط التجارة والزراعة والصناعة، وحكاية الشركات والمشروعات الضخمة مثل أرامكو والكهرباء وتحلية المياه، إضافة إلى مؤسسات أخرى كثيرة مدنية أو عسكرية، قديمة أو حديثة، وذات تاريخ قديم أو عصرية التكوين؟

إنها مهمَّة مهمِّة تنتظر أن تُؤدى بأمانة العلم، وصدق اللهجة، وعمق البحث، وخالص النصح، وفيها عراقة، وهي ضرورية في تفسير النجاح والإخفاق، وبواسطتها تعي أجيال لاحقة القصة كاملة من جميع أطرافها بإنسانها، ومكانها، وكيانها؛ لأنّ تلك الأجيال سوف تحمل المسؤولية الثقيلة، وربما تواجه تحديات جديدة أو جوهرية، وبالتالي فهي بحاجة لمعرفة تامة ببصيرة نافذة؛ كي تستطيع التعاطي معها بقوة وعلم، وكي لا تقع ضحية لحيرة السؤال أو في معمعة البحث عن جواب.

ومما يرفد أثر هذه السير المهمة حين توجد، ويزيد من إشعاعها داخل النفس وعلى أداء الأجيال والشباب، أن يكون إنسان الزمن الجديد الآتي معتزًا بثقافته وحضارته وأسسها وما ينبثق عنها، ومؤمنًا بحقوقه وامتيازاته واستقلاليته، وواثقًا من سمو أهدافه وقدرته على تحقيقها، وإذ ذاك سوف تتزين الأرض، وتكثر الثمار، وتحلو الحياة، ويطيب المقام.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 21 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442

05 من شهر يناير عام 2021م  

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)