سير وأعلام

لماذا أصبح الحجيلان أول وزير للإعلام؟!

Print Friendly, PDF & Email

لماذا أصبح الحجيلان أول وزير للإعلام؟!

لا يستطيع أحد الجزم بسبب معين لقرار من القرارات السيادية في أيّ بلد، وما أورده هنا لا يتجاوز كونه محض رأي شخصي يحتمل الخطأ وربما كان صوابًا. والغاية من تدوين هذا الرأي ونشره دراسة طرف من التاريخ من خلال صنّاعه ومؤسساته وأحداثه، أما التوقيت فجاء بغية المشاركة فيه ضمن سياق الاحتفاء بأحد رجال ذلكم التاريخ، وهو احتفاء يستحقه إنسان في مقام الشيخ الكبير جميل بن إبراهيم الحجيلان، وإنه لتكريم واجب تزداد حتميته في أروقة الإعلام والثقافة والدبلوماسية والكتابة.

وبعد أن قرأت سيرة معالي الشيخ جميل كاملة، تبدت لي آراء في فصولها العذب سردها، المسبوك رصفها، ولعل بعض هذه الآراء أن تنشر تباعًا بعيد طبع الكتاب وتسويقه. وإنما دفعني للتبكير في كتابة هذا المقال رغبة التزامن مع مناسبة أكاديمية تعقد خصيصًا لتكريم معاليه، والإشادة بتاريخه الإعلامي والثقافي، ولئن غبت عن هذه المناسبة بسبب ارتباط سالف على موعد الاحتفاء، فلن أغيب عنها إسهامًا برأي، وإدلاءً بقول، والله يكتب لنا الصواب والرشد، وعسى أن يتيسر حضورها إذا أذن لي أقوام بينهم وبيني موعد مضروب سلفًا ومؤكد مرارًا.

فلماذا اصطفى الملك فيصل الشيخ جميل الحجيلان ليصبح أول وزير للإعلام؟ وما هي الأشياء التي جعلت الملك البصير بالرجال، الخبير بالناس والدول، يفرز قوائم رجاله، فلا يختار منهم إلّا واحدًا من دون سائر رجال الدولة المحيطين به؟ وحتى نجيب على هذا السؤال جوابًا ظنيًا يشبه اليقين، يلزمنا أن نحيط بشيء من منابت الشيخ جميل، وجذوره، مع النظر في تأهيله وخبراته، وبعض السياقات التي جعلته الرجل الأنسب لهذه المهمة الشاقة التي وصفها صاحبها بأنها مثل الهبوط على سطح القمر!

ينتمي الشيخ جميل إلى أسرة نجدية قصيمية قحطانية لها تاريخ مع قوافل العقيلات في الشام والعراق ومصر، وهذا التعريف المختصرة كلماته يعني أن “جميل” من أهل البلد وأبناء بيئته، وبالتالي يدرك مكوناته، ويفهم تقاليده، ويعي ما يقدم أو يؤخر فيه وجوبًا أو مصلحة، لكنه فوق ذلك ممن فتح نوافذ ذهنه في بيت متعلّق بأصوله وأعرافه، غير رافض للتجديد شريطة أن يكون بلا انحلال وتفلّت، ثمّ ربى ونمى في الشام الأكثر تطورًا، وتلقى تعليمه في مدارسها ومدارس مصر وجامعاتها، وهي بلاد تمثل قمة التطور الإعلامي العربي آنذاك؛ فكأن الملك الحكيم جمع الحسنيين باختياره رجلًا طيب المنبت، ثابت الأصل، عالي الفرع، واسع الأفق.

كما امتاز الشيخ جميل بمزايا علمية وثقافية جعلته أحد أبرز الأسماء المرشحة لنيل هذا المنصب، والظفر بصفة الأولية فيه؛ فهو ضليع في اللغة العربية كتابة وتحدثُا وأداء، وخبير بالقانون درسًا وفهمًا، وتخرج في أقوى قلعة علمية قانونية عربية حينها. ويضاف لذلك تمكنه من إجادة لغتين أجنبيتين بقدر قابل للازدياد، مع حصيلة ثقافية، ومتابعة لمجريات الأحداث، ومعرفة بجوانب من التاريخ المعاصر والقديم؛ وكيف لا يكون والحجيلان قد درج ونشأ في حاضرة تجمع تاريخ بني أمية وتاريخ بني العباس معًا، وحفظت قبلهما وخلالهما وبعدهما أمجادًا ووقائعَ وشعرًا وفروسية؟

ومن سابق القدر أن الملك سعود اختار الشيخ جميل على رأس المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر بمشورة من الشيخ السفير محمد الحمد الشبيلي؛ فأمضى الحجيلان فيها أشهرًا سبعة لم يكن عمله فيها على قصر المدة خديجًا بل عملًا مكتملًا على ما احتف به من صعوبات وتحديات وتدخلات يجعل بعضها الحليم حيران، ويغدو قسم منها سببًا يحثّ المسؤول الكرّة تلو الكرّة على السكون وربما الازورار عن الميدان والإبداع والإنجاز، بيد أن الحجيلان صمد وصبر ورابط، وألقى كثيرًا من التأويل الهش والكلام المتداعي دبر أذنيه وخلف ظهره، ولم ينصبه أمام ناظريه؛ ولو فعل لما تحرك إلى الأمام خطوة واحدة!

وخلال هذه المدة واصل الحجيلان ما كان يصنعه إبان عمله المبكر في وزارة الخارجية بجدة؛ إذ كتب تعليقات وتحليلات، وبعضها ألقاها بصوته الإذاعي؛ وعليه فإن هذه المقدرة الكتابية، والعمق في التحليل، والبراعة في الأداء، دفعته إلى مقدمة مرشحي الوزارة الجديدة، حتى يتفوق وزيرنا على أقرانه العرب أو يزاحمهم بالركب؛ فيكون لنقاشه وإقناعه وجداله وقع فخم في نفس الطرف الآخر وعقله، وهذا الأثر يصف الإنسان السعودي العالم المثقف، ويُعلي من مكانة بلاده، ويثبت سمو رجال الدولة فيها، ويحول دون أيّ نظرة استعلاء معتادة من بعض الأشقاء!

كما أن الملك سعود بادر بالتنسيق مع الشيخ عبدالله السالم الصباح لاختيار الشيخ جميل الحجيلان ليكون أول سفير معتمد لدى الكويت، وعميدًا للسلك الدبلوماسي فيها، وخلال عمله سفيرًا تداخل مع المجتمع الكويتي بمكوناته المختلفة مرجعيتها البلدانية والقبلية، والمتباينة أفكارها وتوجهاتها، مع حضور لافت للمد القومي والناصري؛ فحاز إبان سفارته القصير زمنها على مكانة عليّة في نفس أمير الكويت، ولدى أسرة الصباح، وعند سروات الأسر هناك. وقد هاله في الكويت غياب صوت السعودية ورأيها وإعلامها مع قرب الجوار، ووجود المشتركات، ويقابل هذا الخفوت سيطرة شبه تامة لإعلام عربي بعيد!

وبحكم عمله الدبلوماسي وارتباطه بوزارة الخارجية، كتب عدة تقارير وتحليلات اطلع عليها الملك فيصل، وزادت من إعجابه بهذا الرجل الركين المثقف القادر على الرصد والملاحظة والتحليل، فضلًا عما تراكم لديه من تجربته السابقة في العمل بسفارات المملكة في إيران وباكستان، ومشاركاته في وفود لاجتماعات تأسيس منظمة دول عدم الانحياز وأخرى كانت مقررة ضمن وفد سعودي للأمم المتحدة، وبالتالي فلدى الحجيلان ميزان دقيق يقيس به الأمور السياسية التي تنفع البلد، وتساند مواقفه، وتنأى عن إحراجه مع الآخرين. ومما يستوجب التوقف هنا مشاهدة وثيق الصلة بين جلّ وزراء الإعلام في المملكة وبين العمل الدبلوماسي، أو الكتابي والثقافي تمامًا مثل الحجيلان أولهم.

وربما أن إقدام الحجيلان على الكتابة والتحليل، وإلقاء بعض ما كتبه بنفسه عبر الإذاعة، وذهابه للعمل سفيرًا في الكويت بالأولية المعروفة، وبما في المجتمع الكويتي من حراك ونشاط وتدافع مقلق أحيانًا، قد أوجد القناعة لدى الفيصل بأن “جميل” هو رجل المرحلة الذي يستطيع خوض هذه المعمعمة، فلديه من الفكر الإستراتيجي ما يكفي، وعنده قدر من الجرأة الحميدة التي يلجمها العقل واعتبار المآلات المتوقعة، مع قابلية ذهنية ونفسية ولسانية للحجاج وتحمل المعارضة، وجلد على المضاء والإصرار، واقتراب من سن الأشد والرشد التام، وهي صفات ليس منها بدٌّ في مثل ذلكم المنصب المستهدف، والمتخيلة حساسيته المفرطة.

يضاف لذلك أن الله وهب الشيخ جميل الحجيلان أذنًا فنية راقية، وعينًا تدرك الجمال السامي، ومعرفة بمثقفي العرب والعالم وكتّابهم، وقلمًا مغموسًا بالبيان الواضح، ولسانًا قلّما يتلعثم إن أعرب أو أعجم، ومُكنة فكرية زادتها الخبرات والمواقع باختلافها، وغيرة دينية، وحمية عربية، وإخلاصًا وطنيًا، فأراد الملك فيصل أن يضع على هرم وزارة الإعلام إبان نشأتها الأولى رجلًا هذه مواصفاته وسماته، فإعلامنا باسق مثمر مفيد، رفيع لا يتطامن، ولا يدخل في وحل أو مستنقع، ويحذر من أن يسقط في هوة سحيقة مهما كانت مغرية أو جذابة.

هكذا أصبح الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان أول وزير للإعلام في المملكة العربية السعودية عام (1382=1963م)، وهو وزير في عهد الملك سعود، وفي حكومة ولي عهده الأمير -الملك- فيصل، فلمقامهما وفي تاريخهما تسجل هذه الميزة التي يستوعبها المكان في سيرة الملكين المتعاقبين رحمهما الله. وسار الحجيلان بالإعلام تطويرًا لأفراده حتى أنه يستقبل بنفسه أصحاب المواهب، ويحاورهم ويرتقي بقدراتهم، ويشارك في اختيار العناوين، ويكتب المقالات الثمينة وهو على كرسي الوزارة بميزان حساس وعمق ظاهر.

ثمّ واصل الوزير أعماله في تطوير الصحافة ونقلها من فردية إلى مؤسسية، ومضى بالإذاعة تحسينًا وتعميمًا وتوسيعًا، وفي أيامه افتتح التلفزيون بمحطاته العديدة في العاصمة وجدة والمدينة والدمام والقصيم، علمًا أن هذا الجهاز اللافت المغري وافد جديد على المجتمع حينذاك. وله مشاركات في اقتراح البرامج والضيوف، واستضافة الصحفيين الأجانب وعونهم في تحقيقاتهم ولقاءاتهم. ومن أميز مقترحاته برامج الشيخ علي الطنطاوي، والدكتور زهير السباعي، وبرامج حوارية قدمها د.عبدالرحمن الشبيلي، وغيرها.

وقد تعامل الوزير الأديب مع الآراء والمعارضات التي تصل إليه بهدوء وتوقير وحصافة، مع حرص على التفاهم والبعد عن أيّ تشنج أو إهمال لتلك الرؤى، وهي آراء ومعارضات بلغته مباشرة وإحالة من أمراء ومشايخ ومسؤولين وملاك صحف ومثقفين على اختلاف المنزع والسبب والغاية. ولما عرضها الشيخ في سيرته لم يبخس ما في بعضها من وجاهة، وتحاشى التجريح والاتهام والتشهير بأصحابها، وتجافى عن سوقها بالتشفي والاستعلاء كما يصنع بعض الموتورين، وحاشا شيخنا الجميل الجليل هذا وأمثاله.

كذلك حرص الوزير في سنوات عمله المثيرة بوزارة الإعلام على ألّا يلجأ للملك فيصل إلّا فيما ندر، فلدى الملك مسؤوليات جسيمة، وأعمال ضخمة، ومهام طوال، وواجب الوزير كما يفهم الحجيلان أن يكون معينًا مبادرًا لا معيقًا مترددًا. ويعزز من منهجية الوزير في العمل مع الملك أنه التقط مبتغى الملك القائد دون أن يصرح به، وفهم من سكوت الملك، ومن كلماته القليلة وأوامره المختصرة، ومما يحيله للوزير من مكاتبات بلا تعليق آمر، ما جعله يقدم ولا يحجم، ويسير غير متلجلج ولا متهيب ولا ملتفت للوراء.

ومما يلفت النظر أن السفارة الأمريكية بالرياض حين تلكأت في تنفيذ وعدها للملك فيصل فيما يخص تشغيل التلفزيون والمساعدة في هذا المشروع الجديد، لم يخبر الحجيلان رئيسه ومليكه بذلك مع عظم الأمر وشدته، وإنما عالج الموضوع بنفسه، وأقنع الأمريكان بما قد يترتب على نكوصهم من آثار، فأنهى المشكلة دون أن يخطر بها الملك البتة؛ وهذا درس للمسؤول الناضج الرشيد، فما أثقل من ذي منصب وصلاحية يرجع لمن ولاه في كل صغيرة وكبيرة، وإنما جيء به ليعين ويقرر وينجز لا ليستأذن في أيّ مسألة مهما كانت واضحة، أو سبل علاجها ميسورة.

وعقب ثمان سنوات سمان غادر الحجيلان مقعد وزارة الإعلام إلى وزارة الصحة، وهي أعقد وأصعب من ناحية إدارية، ومن ناحية تخصصية، ومن ناحية إنسانية، وهي ضرورية لكل فرد ومنزل، وفيها خطورة لا تتقبل أيّ تأخير أو توان أو خطأ في عملها. وعندما غادر أبو عماد وزارته كان قد ترك وراءه بساطًا بلون أحمر لافت، أو بنفسجي رائع، حتى يسير عليه أصحاب المعالي من وزراء الإعلام الذين سيأتون بعده، فيحمل الواحد منهم الراية وقد زالت كثير من العوائق الابتدائية، وأصبحت الطريق لاحبة ممهدة موطئة الأكناف للسائرين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 13 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445

27 من شهر نوفمبر عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. تعددت الأسباب ** والهدف واحد

    وضع الرجل المناسب في المكان المناسب

    ولا أدل على إصابة الهدف خير من النجاح تلو النجاح الذي تم خلال فترة عمل الشيخ الحجيلان
    وما وصل إليه الإعلام من تطور في تلك الفترة الصعبه لبداية كل عمل

    1. شكرا لكم يا أستاذ علي، وهذا صحيح فقد كانت الأسباب الدافعة لهذا الاختيار من أسباب النجاح بتقدير العزيز العليم.

  2. كلام جميل. يغني عن كتاب. فقد أوجزت وأحطت. بما ينبغي ان يقال عن شخصية مبهرة ومنتجة وفاعلة ومؤثرة ولافتة في كل موقع تشرف بالعمل فيه. هذا هو المختصر المفيد. لم تترك لنا بقية من كلام نقوله عن الرجل الكبير الذي أسس وزارة الإعلام وكان النجم بين سفراء المملكة والوزير صانع النجاح في وزارة الصحة. شكرا لاننا امام مثقف وشاعر وأديب وكاتب يستحق ان يقال عنة ماقلته في مدونتك بأسلوبك الجزل وعبارتك الأنيقة وموضوعيتك في الطرح الصادق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)