سير وأعلام عرض كتاب

درة الخليج في مذكرات أول سفير إليها

عبدالله السالم الصباح وجميل الحجيلان
Print Friendly, PDF & Email

درة الخليج في مذكرات أول سفير إليها

هذه الشهادة نفيسة جدًا، وعريقة جدًا، ذلك أنها وردت في مذكرات أول سفير حلّ في الكويت درة الخليج كما سميت آنذاك. وهذا السفير هو أقدم وزير سعودي إذ غدا وزيرًا عام (1382)، ولم يتبق من أعضاء مجلس الوزراء هذا أيّ وزير على قيد الحياة، وربما لو بحثنا عن السفراء السعوديين المعينين عام (1381) لما وجدنا منهم أحدًا أو كانوا قلة قليلة، والله يمتع بالوزير الأنيق والسفير العريق معالي الشيخ جميل الحجيلان، ويعجل بظهور سيرته ومذكراته التي بدا منها للناظرين في هذه الليلة طرف تداوله القراء على نطاق واسع بإذن من المؤلف الشيخ فيما يبدو، وهو يخصّ الكويت بمناسبة ذكرياتها الوطنية السعيدة.

ومن النفاسة والعراقة التي تمنح لهذه الشهادة مزيدًا من القدر الكبير في المساحة، وتعطيها مسافة صاعدة من المكانة العالية في الأفق، أن السعودية والكويت بينهما من العلائق ما لا يكاد أن يجتمع لأي دولتين في محيطنا إن في الخليج وشبه الجزيرة العربية، أو في بقية بلدان عالمنا العربي والإسلامي، إذ يتعانق فيهما التاريخ مع الجغرافيا، وتتلاحم الأسر والقبائل، وتتداخل المصالح والمصير، هذا غير مشتركات الدين واللغة والأعراف، مع ملاحظة أن الكويت كانت مؤئلًا للأسرة السعودية، كما أصبحت السعودية مقرًا للأسرة الكويتية، وهكذا في ترابط في الرخاء والشدة، وتزداد عراه متانة وتوثيقًا، وتزيده الأحداث والضرورات صلابة وتقاربًا.

كما أن هذه المقتطف من السيرة الحجيلانية يحكي عن تلاقي الإرادتين الكويتية والسعودية على الاستقلال والبعد عن أيّ ارتباط بقوة عالمية لا يأخذ شكلًا من أشكال الندية ورعاية أولويات كل بلد؛ ولذلك جاء تعيين سفيرنا في قصة لافتة كما سيرد بعد قليل. وفي المقتطف حكاية عن أول سفير في الكويت بعد نيلها الاستقلال، وآخر سفير سعودي يحمل السيف المذهب، وعن أقدار ساقت الرجل الجميل إن في عمله الإعلامي، والدبلوماسي، ثمّ عبر دبلوماسية الإعلام، وإعلام الدبلوماسية، ليكون مدافعًا عن الكويت وانضمامها للجامعة العربية، ومتابعًا لوأد نوايا زعيم عسكري متهور، ومنافحًا عن الكويت ضد عدوان زاد في الصدوع بالواقع العربي، والسبب أن في إحدى العواصم العربية الكبرى حاكم لا يجرؤ أحد على خلافه، ولا يقوى إنسان من حاشيته على تنبيهه قبل الانزلاق في الهاوية التي دخلها وأدخل المنطقة معه فيها.

كان السكرتير الدبلوماسي جميل الحجيلان ضمن وفد دبلوماسي مشارك في بلغراد باجتماع دول عدم الانحياز الأول، ونفسه تتوق للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة السبتمبرية المعهودة، ونفسه تشعر بالأسى مما يجده من إقصاء وإبعاد عن مواقع يستأهلها بحكم الخبرة والدراسة؛ بيد أن الاستدعاء أتى إليه من الديوان الملكي، آمرًا بالعودة السريعة إلى الطائف حيث تقيم الحكومة صيفًا، وعندما وصل إليها في العاشر من سبتمبر عام (1961م) وجد أمامه خبرًا سعيدًا خلاصته أن الملك سعود اصطفاه ليكون السفير السعودي الأول في الكويت؛ وإنها لنقلة أعادت إلى نفس الشاب المتوثبة ماء الحياة، وتدفقت منها ينابيع البهجة بعد أن كادت شموع تألقه أن تذوي بحسد أو سوء تقدير، والله غالب على أمره، وهو سبحانه العزيز القهار الذي لا يعقب على حكمه.

ليس هذا فقط؛ لأن هذه الأولية سوف تجعله أول سفير يعين في الكويت بعد استقلالها، وعليه سيصبح عميد السلك الدبلوماسي فيها، وقد عرف حينها من أصدقائه في البلاط الملكي أن مفاهمة عاجلة جرت بين أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح والملك سعود، ومفادها طلب تعيين سفير سعودي بالكويت قطعًا للطريق على طلب بريطانيا التي أرادات أن يفوز مندوبها بهذه الفرصة، وهو الأمر الذي لم يرق لأمير الكويت، ولم يجد أقرب من الرياض كي يكون لها هذا السبق لما بينهما من تاريخ قديم، ولوجود ممثل تجاري للسعودية في الكويت من آل النفيسي، وبذلك قطع جميل الحجيلان الطريق على الإنجليز، وحال دون بلوغهم ما يأملون، وربما أنه جعلهم يألمون بعد ضياع ما كانوا يرجون.

وعندما وصل السفير الأول الأقدم إلى الكويت، حظي بعناية أميرية ورسمية وشعبية؛ ولأن الكويت لم يكن فيها حينذاك من الفنادق ما يناسب لسكن السفير القادم، فقد استضيف أبو عماد بمنزل في مزرعة للشيخ صباح الأحمد الذي أصبح فيما بعد وزير خارجية كويتي معمر، ثم رئيس وزراء فولي عهد ثم أميرًا للبلاد قبل رحيله مؤخرًا، وهذه الاستضافة الخاصة تؤكد المكانة التي تبوأها الرجل، والقدر العظيم لبلاده، فما فضّل عليه أحد ممن جاء إلى الكويت بعده.

أما عقب وصول السفير للكويت فقد حدثت أمور جسيمة؛ أولها الدعوى العريضة لحاكم العراق اللواء عبدالكريم قاسم بأن الكويت تابعة للعراق، وأنه يعارض استقلالها، كما عارض انضمامها للجامعة العربية آنفًا، واستند لموسكو والفيتو السوفياتي للحيلولة دون قبول عضوية الكويت في هيئة الأمم المتحدة، وقد خاب مسعاه فاستقلّت الكويت، وانضمت للجامعة العربية، وبعد غياب قاسم عن المشهد والحياة صارت الكويت عضوًا في الأمم المتحدة بعد انقطاع مدد الفيتو؛ ومن المفارقات أنه لا يزال الناس يذكرون بأن الشيخ جابر الأحمد حينما ألقى كلمته التاريخية في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (1990م) بعيد الاحتلال البغيض بمدة يسيرة، قوبل بتصفيق طويل لافت، وتعاطف دولي كبير.

ومن الموافقات العجيبة أن الشيخ جميل الحجيلان تلقى مكالمة من الملك سعود يبشره فيها بانضمام الكويت للجامعة العربية قبل تعيينه سفيرًا فيها، وطلب منه الملك بحكم مسؤوليته عن الإذاعة والصحافة أن يكتب تعليقًا مناسبًا، ثمّ يذيعه في الإذاعة السعودية، وينشر صحفيًا، وهو ماكان؛ علمًا أن للحجيلان قلمًا فائقًا، وتحليلًا رائقًا، وأسلوبًا مشرقًا باسقًا. وبعد ثلاثة عقود من هذه الحادثة صار عميد السلك الدبلوماسي في فرنسا الشيخ جميل الحجيلان أبرع متحدث لشبكات التلفزة، وأذكى محاور، وأبلغ كاتب، وكل ذلك دفاعًا عن الكويت، وحقها في الحرية والخلاص من الاحتلال الأثيم الواقع عليها، ولقد انبهر مثقفو باريس وكتّابها بلغة الرجل، ومنطقه، وظهوره الرزين الجميل، وطريقته الآسرة في الإقناع والحجاج.

ومما يلفت النظر فيما كتبه الحجيلان عن تلكم الحقبة، أن السعودية على لسان الملك سعود أعلنت للشيخ عبدالله السالم بأن الدفاع عن الكويت واجب على المملكة في موقف وفاء لا يستغرب، وكتب الملك للرئيس العراقي عبدالكريم قاسم كتابًا أعلن فيه عهدًا من الأعماق مقطوع لحماية الكويت من قبل المملكة، وناشد الرجل العسكري الانقلابي ألّا يشق الصف العربي الذي يحتاج للوحدة، وألّا يجعل للأجانب فرصة للتدخل في عالمنا وأرضنا، وهما علّتان باء بهما عسكري آخر بعد ثلاثة عقود، ولا عذر له في صنيعه مهما أحبه البعض وتعصبوا له، وأمره لله الذي يعلم السر وأخفى.

ولم تكتف الرياض بذلك؛ إذ بادر الملك سعود إلى مراسلة زعيم الجمهورية العربية المتحدة جمال عبدالناصر مع أن العلاقات لم تكن سلسة بينهما، ونجم عن ذلكم التواصل بيان طويل من عبدالناصر يعارض فيه دعاوى عبدالكريم قاسم، ولم يكن بين الرجلين وداد أو توافق فكري. وعلى الصعيد العملي صار الجيش السعودي أول الواصلين لأرض الكويت، وقاد أحد ضباط المملكة القوة العربية، وعندما غادر خلفه ضابط سعودي آخر، وأصبح الفريق عبدالله المطلق بعد عودته للمملكة رئيسًا لهيئة الأركان العامة، وكانت القوة السعودية موقرة رسميًا من الكبار، وإن نالها شيء من تفاهات بعض الصغار والنزقين والمتأثرين بالإعلام؛ ولعمرك إن الرجل العاقل لا يصدق أيّ شيء يُروى ويستجلب بالخيل والرجل حتى يفحصه فحصًا، ولو أضطر لفته فتًا!

أقول ذلك في هذا الموضع لماذا؟! لأنه إبان المدة القصيرة التي قضاها السفير الأول في الكويت، حصل انفصام في الوحدة المصرية السورية، وانقلاب عسكري على الحكم الإمامي في اليمن، فساءت العلاقة جدًا بين القاهرة والرياض، ولأن القاهرة متفوقة صحفيًا وإذاعيًا، ولكثرة وجود المصريين الخبراء في الكويت ومؤسساتها، ولبزوغ تيار قومي قوي في الكويت، صارت المملكة في المرمى، مما جعل الضباط السعوديين يسمعون كلامًا لا يليق من زملائهم أو في الشارع، وعندما أقام الحجيلان حفلة وداع لقائدهم لم يحضرها أحد، بينما غادر عسكري عربي الكويت بعد احتفالية وداع له! ونشطت السفارة في توزيع صحف سعودية على الديوانيات كي يتجلى الواقع؛ لكن بعضها يعود بتعليقات وتهديدات، وليس هذا فقط؛ إذ سمع عماد النجل الأكبر للسفير من زملاء المدرسة صغار السن كلمات جارحة، وتجرأ بعضهم بإطلاق وصف الخيانة على أبيه السفير الأول!

وطبعًا فإن هذه المواقف النشاز لم تكن مقبولة من حكام الكويت؛ ولذلك حضر ولي العهد الشيخ صباح السالم حفل استقبال أقامه السفير للقائد العسكري الجديد، ولم يصر وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد على ضرورة توقف السفارة السعودية عن توزيع كتاب ألفه مفكر مصري لتقييم طريقة حكم عبدالناصر. واعتاد السفير السعودي على التبجيل والتقديم في جلسة أمير الكويت عبدالله السالم المنعقدة صباح كل خميس، بل ويناديه الأمير تلطفًا بالأخ حجيلان، ويرسل الهدايا الدورية لأطفاله الصغار؛ ولذلك فلا عجب أن يستأذن أمير الكويت في دخول بعثة كويتية تبحث عن الماء إلى أول الحدود السعودية، فيأتيه الجواب الفوري من الملك سعود ليبحثوا عن الماء حتى في الرياض!

كذلك ظلّت الأسر الكويتية العريقة والتجارية مرتبطة بالسعودية وسفيرها الذي تحرص على دعوته وزيارته، وتواصل هذه الأسر مؤازرة المواقف السعودية وتعزيز منزلتها، حتى إن خالفهم بعض الأثرياء الذين أصدروا مجلات يسارية حادة اللسان ضد المملكة، مع أن لهذا التاجر صاحب المجلة الماركسية عقود حكومية سعودية يجني منها الأموال الطائلة، ومن اللطيف أن السفير قابل هذه الثري عندما أصبح أمينًا عامًا لمجلس التعاون بعد أربعة عقود تقريبًا؛ فوجده قد كبر واتسعت مداركه، وزال ماكان يجده من لوثة اليسار خاصة بعد أن ترأس غرف التجارة والصناعة، وإن الزمن لكفيل بتبصير من لديه استعداد للفهم والأوبة للحق، والحكمة تقتضي أحيانًا ترك العقلاء لسيرورة الأيام وتعاقب الليالي، وذو المحتد الكريم سيقفل إلى الرشد وإن ابتعد.

ومما يستوجب الإشارة ما كانت تحظى به الكويت في ذلكم الوقت من تفرد ثقافي وفني وسياسي، ومن مكونات هذا التفرد ما يوجد فيها من فنون وتلفزيون ومسرح ومعارض وسينما، إضافة إلى حسن استثمار النفط وموارده لصالح البلد والتنمية والمواطنين، ويزين ذلك العلاقة الساكنة المطمئنة بين حكام الكويت من آل صباح ومواطنيها حتى لكأنها علاقة أسرية دافئة، ليس فيها عنت أو عدوان على الحقوق من الجانبين، ويتحمل كل طرف الآخر، ثمّ توجت تلكم الخصيصة بمجلس نيابي منتخب ليس له مثيل في جلّ الدول العربية وإن لم تكن التجربة مثالية، وقد حضر الحجيلان مداولات اللجنة التأسيسية للدستور السابقة على ميلاد مجلس الأمة، وهو المجلس الذي يُشاعوما كل ما يُقال صحيحبإنه جاء استجابة لضغوط إنجليزية حتى تتمكن لندن من حماية الكويت عسكريًا، بينما يدفع آخرون بأنه نهج قديم ضارب في العمق إلى بداية نشوء الدولة، وله مقدمات تطبيقية متطورة في زمن أحمد الجابر حسبما أتذكر من قراءة قديمة.

اللهم ادم على بلادنا والكويت وبلاد المسلمين والمسالمين الأمن والرخاء والاستقرار والتوافق، وجنبنا الشرور والفتن والمآزق والأزمات، واجعل الحاضر خيرًا مما مضى، والمستقبل أجمل من الحاضر. وأسأل المولى أن يبارك لنا في معالي الشيخ العريق الأنيق جميل بن إبراهيم الحجيلان، وأن يعجل بصدور سيرته التي سوف تحتل ما يليق بها في سير الوزراء، وسير السفراء، وسير الكتّاب والمثقفين، وكل جميل يأتي بالجميل ولا بد!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

السبت 05 من شهرِ شعبان عام 1444

25 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. مقال رائع يؤرخ مرحلة مهمه من علاقات البلدين الشقيقين
    و يوضح مدي الارتباط والتلاحم بين الشعبين و القيادتين ، بارك الله فيك أستاذ أحمد
    أبو خالد- الكويت

  2. ما شاء الله
    شكرا للطفك ابا مالك
    طرح مميز و استرسال في طرح القصة و تطعيم مميز للحوادث جدير بان يجذب القارئ لاكمال القراءة
    موفقين حبيبنا و الى الامام
    نسال الله لنا و لكم السعادة في الدارين 🌹

  3. ‏صباحك خير
    ‏أبدعت في مدونتك عن السفير الأول في الكويت ووقوف الملك سعود رحمه الله مع الكويت ضد تهديدعبدالكريم قاسم
    ‏وقد أرسلتها لعدة قروبات وأصدقاء
    ‏نفع الله بك وبقلمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)