سياسة واقتصاد سير وأعلام

أطباء ووزراء

Print Friendly, PDF & Email

أطباء ووزراء

ليس بغريب البتة أن يوجد المهنيون في الأعمال الحكومية الإدارية والسياسية، فهو مسلك قديم ملاحظ في مسارات الدول والزعماء والحضارات كافة؛ لذلك نجد في تاريخ مجلس الوزراء السعودي الموقر حسب إحصاء حديث أجريته بناء على اجتهادي، أن العضوية المجلسية قد نالها ثلاثون مهندسًا، وسبعة عشر قانونيًا، وثمانية أطباء، وآخرون تخصصوا في الجيولوجيا والكيمياء والحاسب الآلي وغيرها من حقول العلم وفنون المعرفة.

وقد أصبح هؤلاء الأطباء الثمانية وزراء للصحة في السعودية خلال أربعين سنة تقريبًا من عمر الوزارة البالغ منذ نشأتها عام (1370=1951م) إلى يومنا الحالي خمسة وسبعين عامًا، وهذا يعني أن نسبة مدة وزارة الأطباء تتجاوز النصف حتى الآن، مع أن عدد الوزراء الأطباء في تاريخ وزارة الصحة أقل من نصف مجموع عدد وزرائها البالغ إلى ساعتنا هذه ثمانية عشر وزيرًا أصيلًا دون احتساب وزراء التكليف، وبعض المكلّفين طالت مدة تكليفه نوعًا ما، مثل الشيخ حسن آل الشيخ، الوزير المكلف بين عامي (1386-1390=1966-1970م).

فأول الوزراء هو د.رشاد فرعون القادم للمملكة من سورية مسقط رأسه ومكان دراسته، وهو من جملة أطباء عرب استقطبهم الملك عبدالعزيز، وأفاد منهم في الطب وغيره من المجالات الإدارية والسياسية. ويُعد د.فرعون ثاني الوزراء بعد الأمير عبدالله الفيصل، وكانت وزارته بين عامي (1373-1380= 1953-1960م)، وقبل الوزارة وبعدها عمل سفيرًا للسعودية في فرنسا، وعليه فهو أول سفير يصبح وزيرًا، وأول وزير من غير الأمراء يعمل سفيرًا، وأول وزير يعود لعمل شغله قبل الوزارة، ولم تنقطع صلة د.رشاد بالعمل الحكومي بعد الوزارة، إذ كان من مستشاري الملكين فيصل وخالد.

ومن طريف ما يُروى أن وزير الخارجية الأمير فيصل قدم للرياض عام (1368=1949م) ليطلب من والده الملك المؤسس ترشيح سفير سعودي في باريس، وقبل دخوله على الملك في قصر المربع، قابله أخواه الأميران محمد ومنصور، واقترحا عليه أن يكون د.رشاد من الأسماء المرشحة للسفارة؛ كي يبتعد عن الرياض، والسبب بعد أهليته حتى يرتاح أحد المسؤولين، وهو بلدي للدكتور فرعون وزميل تخصص، وقد تضايق لدرجة بالغة من حظوة رجل تسبب هو في قدومه للبلاد! وفعلًا كان د.رشاد من القائمة المرشحة، ووقع عليه الاختيار، وعندما رفضت فرنسا بسبب مقاومته لاحتلالها البغيض لسورية أصر الملك وكان له ما أراد. ومن لطيف المرويات أن الملك فيصل زار الجامعة الإسلامية التي تبنى فكرتها بقوة، ودخل إلى محاضرة عند العلامة الشنقيطي، وبعد نهاية المحاضرة عرف الشيخ أن المستشار الذي مع الملك اسمه رشاد فرعون، فقال: نعوذ بالله؛ يقول الله تعالى: “وما أمر فرعون برشيد”!

ثمّ خلفه على الوزارة أحد الأطباء الذين عملوا مع أول وزيرين للصحة، وهو د.حسن نصيف المولع بالأدب والكتابة خاصة القسم الساخر منها، وله يد على إنشاء معاهد صحية في وقت مبكر بالرياض وجدة، ولم يطل به المقام وزيرًا إذ سمي بعده د.حامد هرساني وزيرًا للصحة، وهو شيخ للمطوفين خلفًا لوالده. واللافت أن زمن هذين الوزيرين قصير جدًا، إذ استوزرا بين عامي (1380-1382=1960-1962م)، وهما من أوائل الأطباء السعوديين في الحجاز، وقد درسا الطب في مصر مثل جلّ وزراء هذه القائمة في مرحلة البكالوريوس.

كما وقع الاختيار بين عامي (1382-1386=196-1966م) على د.يوسف الهاجري ليصبح وزيرًا للصحة، وهو من أقدم الدارسين السعوديين في مصر، وربما أنه مع د.حمد البسام يتربعان على الأقدمية في الحصول على شهادة جامعية في الطب بين أهل نجد؛ لأن أسرة د.الهاجري من أسر كريمة استوطنت في مدينة ثادق بالمحمل زمنًا طويلًا، وله حاليًا -حسبما سمعت- أحفاد نابهون صلحاء، وأصحاب تخصصات بعضها نادر ومهم. وقد اشتهر الوزير الهاجري بالنزاهة الشديدة، ومن المحفوظ رسالة تهنئة ووصية وردت له من الشيخ ابن باز بعد تسمية الهاجري وزيرًا، وكان الشيخ آنذاك مديرًا للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.

ومن لطيف ما رواه د.بدر كريم في مذكراته أو في غيرها، أنه كان المذيع المكلّف بقراءة موجز قصير للأنباء، يشتمل على خبر واحد فقط، ويذاع عصرًا في ساعة محددة؛ وكان الخبر حينذاك هو صدور أمر أملكي بإعفاء د.الهاجري من منصبه، ومن الموافقات الغريبة أن المادة المجدولة سابقًا لتعرض في الإذاعة عقب ذلكم الموجز، هي أغنية تقول كلماتها: “يا هاجري هو إيه اللي جرى؟!”. وللعلم فإن د.الهاجري هو أول وزراء هذه القائمة الوزارية الطبية رحيلًا عن الحياة، غفر الله لكل راحل مذكور، وبارك على الأحياء ولهم وفيهم.

عقب ذلك انقطعت علاقة الأطباء بوزارة الصحة حتى سمي د.حسين الجزائري وزيرًا للصحة في حكومة الملك خالد عام (1395-1403=1975-1982م)، وهو ممن درس الطب في مصر ثمّ أكمل دراساته العليا في بريطانيا، وإليه بعد الله يعود الفضل في تأسيس كلية الطب بجامعة الملك سعود أول كلية طب في المنطقة، وهو العميد الأول والمؤسس لها، ومنها انبثقت كليات طب أخرى في شرق الوطن وغربه حتى أصبحت الكليات الصحية اليوم ملء السمع والبصر، والله ينفع بها. ويُعدّ د.حسين أوّل سعودي ينهي الشّهادة العليا في تخصص طبي، ومما لا يُنسى حضوره مع ثلاثة أطبّاء أمريكان مشهد الرحيل المؤلم للملك فيصل في غرفة العمليّات، وإبلاغه الأميرين فهد وسلطان المنتظرين خارجها بفاجعة الموت. ومن طريف ما قرأت أن مريضًا أو مريضه أدركه الهمّ حين علم أن من سيعالجه هو الوزير؛ ظنًا منه أن وضعه الصحي خطير استدعى تدخل صاحب المعالي بنفسه!

وعندما كون الملك فهد مجلس الوزراء عام (1416=1995م)، اختار أ.د.أسامة شبكشي وزيرًا للصحة، بعد سنوات قضاها في جامعة الملك عبدالعزيز عميدًا ووكيلًا ومديرًا، واستمر الشبكشي وزيرًا حتى عام (1424=2003م)، وعليه فهو أطول وزراء الصحة من الأطباء في سنوات التوزير. وجاء بعده د.حمد المانع وزيرًا للصحة بين عامي (1424-1430=2003-2009م)، وفي عهد هذين الوزيرين تخلّصت الوزارة من ديونها، ووضعت لها خططًا في التوسع، والتأمين، وربط البلاد بحزام صحي، وإيجاد نظام موحد للملفات الطبية، وتشغيل المدن الطبية، وإنشاء كلية طب، ونشاط الشؤون الدينية في المستشفيات، وغيرها.

آما آخر الوزراء الأطباء -حتى الآن- فهو د.عبدالله الربيعة الذي عين وزيرًا بين عامي (1430-1435=2009-2013م)، بعد سنوات قضاها في رئاسة مدينة الملك عبدالعزيز الطبية في الحرس الوطني. وهو طبيب وجراح عالمي اشتهر بعمليات فصل التوائم، ولأنه يمثل هذا الجانب الرحيم من صورة بلادنا الذهنية المشرقة الحنونة عند المنصف، فقد اصطفي ليصبح أول رئيس لمركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وهو مركز نشط في مجاله في بقاع كثيرة، وما أجدرنا بالتقدم في حقول المكارم والمغانم والمآثر.

وقد تبين لي من متابعة سير هؤلاء الوزراء الأطباء، أنهم درسوا الطب في مصر أول الأمر إلّا ثلاثة تعلموا في سورية وألمانيا والسعودية، ثمّ واصل أغلبهم دراساتهم العليا في فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، علمًا أن د.الربيعة هو الوحيد منهم الذي تخرج في جامعة سعودية هي جامعة الملك سعود التي نال منها شهادة البكالوريوس، وتخصصاتهم هي: طب الأسرة، والجراحة، والباطنة، والأنف والأذن والحنجرة. كذلك وجدت أن متوسط عمر هؤلاء الوزراء الأطباء هو ستة وأربعون عامًا، ومتوسط بقاء الواحد منهم في وزارته خمسة أعوام، وفيهم سفيران هما د.فرعون، ود.شبكشي، ومسؤول في منظمة الصحة العالمية هو د.الجزائري، وأظن أن د.حسين أول من ألقى القسم على الخريجين في مجلس التخصصات الصحية، وتابعوه بأداء اليمين الغليظة. وحسب علمي فإن أربعة من الأطباء كتبوا سيرهم الذاتية أو جزءًا منها وهم حسب الترتيب: نصيف، والجزائري، وشبكشي، والمانع، ومن نافلة التوضيح فإن صورة المقال اجتهاد من التطبيق دون تدخل مني.

أشير من باب إكمال المعلومة إلى أن وزارة الصحة التي انفرد بها الوزراء الأطباء وحجبوا غيرهم من أصحاب التخصصات الصحية عنها، قد استوزر لها أصحاب تخصصات أخرى في الإدارة والقانون والكيمياء والهندسة والحاسب الآلي. ومن اللافت كذلك أن مجلس وزراء الصحة لدول الخليج قد نشأ بمقترح في جنيف من الوزير د.عبدالعزيز الخويطر، وحضر الوزير د.الجزائري أول اجتماعاته، ويبدو أن أحد وزراء الصحة في دول الخليج لم يفطن لهذه المعلومة التاريخية، فقال للدكتور غازي القصيبي -وزير الصحة حينها-: كل وزراء الصحة في دول الخليج لهم اختصاص صحي إلّا أنت! فأجابه أبو يارا من فوره: المهم الإخلاص وليس الاختصاص! وهذا الإخلاص هو الذي جعل د.الخويطر يقول عن سنته الوزارية الأولى والوحيدة التي قضاها وزيرًا للصحة: أخدم جمهورًا يجمع بيني وبينهم المرض!

ومما لا يخفى أن للطب والأطباء تاريخ قديم متواصل في الحضور اللافت ضمن طواقم بلاط الزعماء، وفي الشأن العام، وهو تاريخ محفوظ كما نجد في طبقات الأطباء لآبن أبي أصيبعة وفيه تراجم لأربعمئة طبيب من أمم شتى. ويمكن سوق أمثلة محلية وإقليمية ودولية على ذلك مثل: محمد حمدي، ومدحت شيخ الأرض، وعبدالله الدملوجي، ومهاتير، وجيفارا، وإياد علاوي، والرنتيسي، وإبراهيم الجعفري، والإبراهيمي، والقربي، والأتاسي الذي حكم سورية واستقطب زملاءه من الأطباء في رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية حتى علّق كاتب فرنسي بقوله: سوريا يحكمها الأطباء، لابد أنها مريضة! وقد عاد رأيه وشماتته على بلاده؛ إذ أصبح فيما بعد الطبيب “برنار كوشنير” وزيرًا للخارجية في فرنسا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 04 من شهرِ شعبان عام 1445

  14 من شهر فبراير عام 2024م

Please follow and like us:

8 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)