سير وأعلام عرض كتاب

بدر كريّم يتذكر

Print Friendly, PDF & Email

بدر كريّم يتذكر

أنا أحب الدكتور بدر بن أحمد كريّم (1355-1436) لأسباب يشترك معي فيها غيري، ولسبب خاص كبير عندي ذلك أن والدي يذكره كثيرًا من خلال استماعه للإذاعة فور إنشائها، وأخبرت بذلك د.بدر في مناسبة أقامها شقيقي د.عبدالله قبل أزيد من عقدين؛ ففرح الرجل بهذه المحبة عن بعد ودون لقاء بين طرفيها في الدنيا.

ولاستمرار المحبة حرصت على ذكريات الراحل، فشرعت في قراءة كتابه بعنوان: أتذكر الذي صدر الجزء الأول منه عام (1425=2005م)، ويتكون من (504) صفحات فيها مقدمة، ومقالات، وملاحق، وصور، واستهله بالإهداء إلى كل إعلامي، ثمّ أشار في المقدمة إلى أن الكتاب عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة عكاظ ابتداء من شهر المحرم عام (1422)، ثمّ قال له الملك سلمان-وكان أميرًا على الرياض-: حبذا لو جمعتها في كتاب فاستجاب أبو ياسر للمقترح.

تضم الذكريات مجموعة من المواقف منذ التحاق الشاب بدر بالإذاعة عام (1376=1957م) إلى أن تقاعد من منصب مدير عام وكالة الأنباء السعودية سنة (1418=1997م)، ويرد فيها قصص مع ملوك وعلماء وأمراء وأدباء ووزراء وإعلاميين وعامة داخل المملكة وخارجها إبان مسيرته الإعلامية الطويلة في الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، وهي جديرة بالاحتفاء من الإعلاميين لما فيها من خبرة وأدب ومواقف طريفة ومحرجة.

وتتجلى لنا بوضوح من الكتاب سمات الرجل ومنها صدقه إذ يروي بعض ما يجتنب الآخرون روايته بغية تجميل النفس أو الماضي، وأنه صاحب إصرار على تحقيق الهدف استبان من “مراودته” الإذاعة عن نفسها حتى هاما ببعضهما حبًا، وحرصه على الدراسة مع كبر سنه وتحذير الآخرين له من انكشاف افتقاده للشهادات الدراسية، فكان يدرس ويمتحن مع الصغار ويقرأ اسمه في الإذاعة ضمن الناجحين.

ومن شواهد الإصرار تعلمه قواعد اللغة العربية التي كاد إخفاقه فيها أن يودي بحلمه، وتمسكه بجعل دوام وكالة الأنباء مستمرًا طوال اليوم والليلة، وبعد نهاية الوظيفة بأحلامها واصل دراسته لينال شهادة الدكتوراة، ومما تشهد له به هذه الذكريات اللطف وخفة الدم، والصبر على النقد والاتهام، وقدرته على بلع المواقف كما حدث حين قال في حفل خطابي أمام الملك فيصل والجموع عن اللواء المتقاعد علي زين العابدين لواء متعاقد!

كما ارتبط بدر كريم مع الملك فيصل فصار المذيع الرسمي للمحافل التي يحضرها الملك، ورئيس الوفد الإعلامي المرافق له، وكان الناس يغبطونه على هذا القرب مع أنه لم يستفد منه ولو في استثناء لأداء الاختبارات المدرسية التي فاتته وهو ضمن وفد الملك الزائر، واختصر د.كريّم صفات الملك بطول الصمت، وقلة الكلام، وقصر الجواب، وبعده عما يشين من القول، وحذره في التصريحات الإعلامية ولذلك لم يقع في مصائد أربابها، ومن بديع الحكمة أن الشيخ إبراهيم العنقري حمل بيان تكذيب خبر للملك فيصل حتى يقره قبل إذاعته، فقال الملك لوزير إعلامه بعد قراءة نص البيان: إن كان ماقالوه حقًا فلنصلح أنفسنا، وإن كان باطلًا فلا داعي لتكذيبه!

ومن المواقف الملكية أن الملك خالد قابله في استقبال زعماء قمة إسلامية فقال له: تعال أنت وربعك للغداء معنا، وبعد الغداء سأله ماذا ستفعل بعد حصولك على الشهادة الثانوية؟ هل ستواصل دراستك؟ فأجاب بدر: نعم، فقال له الملك: حتى متى ستظل تدرس؟ فقال بدر: سأحصل على البكالوريوس ثمّ الماجستير فالدكتوراة! فأشار الملك للوزراء وقال: تريد أن تصير مثل هؤلاء؟ وأردف الملك معلّقًا: ابق كما أنت فهو أفضل لك! ومن المشهور أن حكومة الملك خالد الوحيدة توصف بأنها “حكومة دكاترة”، وأتصور أن أجوبة الملك خالد وتعليقاته لو جمعت في كتاب واحد لأصبح من فرائد الأدب الملكي الحديث.

أما الملك فهد فللمؤلف معه موقف مهم إذ حطّم أقفال وكالة الأنباء السعودية للحصول على أخبار العدوان الأمريكي على ليبيا لأن الملك طلبها قبيل الرابعة فجرًا، وكانت الوكالة حينها مقفلة وليس معه مفاتيح ولا يوجد فيها مناوب أو حارس؛ فاضطر لكسر أقفالها، واستقبال الأخبار من الوكالات العالمية، والاتصال بالملك وقراءتها عليه، وحفزه هذا الموقف مع موقف آخر من الوزير علي الشاعر لما طلب منه إذاعة بيان نفطي في الساعة الثالثة فجرًا على جعل دوام وكالة الأنباء السعودية (واس) لا ينقطع لحظة واحدة خلال اليوم والليلة مع وجود معارضات بسبب نقص الموظفين والأجهزة.

كما يعترف الكاتب بضعفه الظاهر في قواعد اللغة العربية حتى تعرض لهجوم قاس من العلامة الشيخ حمد الجاسر، ورفض أول وزير للإعلام الشيخ جميل الحجيلان أن يذيع بدر الأخبار مع شعبيته الجماهيرية، ولم يستسلم المذيع المخلص لمهنته بسبب هذا الخلل؛ فقرأ كتاب النحو الواضح وأفاد من علماء وأدباء مثل محمد بن حسين زيدان وضياء الدين رجب وغيرهما فيما بعد، ومن حرصه أنه يهاتف الزيدان خمس مرات في اليوم والليلة، وزالت عنه أعراض هذا النقص الثقافي الذي زاده حرجًا أن أول أربعة وزراء إعلام يتقنون العربية وأحكامها، ويبرعون في الكتابة والحديث فضلًا عن الاستماع.

ولا تخلو الذكريات من طرائف بل هي لبابها في حياة الإعلاميين والساسة، فمنها شهرة برنامجه التلقائي “في الطريق” الذي يجري فيه لقاءات مع الناس بالشوارع والأحياء، ويعترف أنها كانت لقاءات مرتبة قبل التسجيل بساعة، ومن أحرجها لقاء مع حفّار قبور بجدة أعلن أنه يبدأ صباحه سائلًا مولاه الرزاق الرزق فانزعج الناس لأن رزقه من الموت ولا أحد يحب الموت!

ومنها أن برنامجه “ألف مبروك” الذي يُذاع ليلة الجمعة لإرسال التهاني والأهازيج للعروسين من أهل جدة، وردته رسالة لتهنئة رجل فلما أذاعها كادت الأرض أن تمور بالرجل وبيته وببدر ومستقبله الإذاعي، فالتهنئة مكيدة من مغرض بحق رجل ثري معروف لا يرغب بزوجة أخرى، وبعد سلسلة اعتذارات بردت الواقعة الساخنة، ولمنع تكرارها استعان المذيع بلجنة سداسية من آل شبكشي فيها ثلاثة رجال وثلاث نساء، ومهمتها فحص الرسائل للتأكد من صحة الأسماء قبل إذاعتها بحكم معرفتهم بالمجتمع الجداوي.

كذلك ظنّ والده أن ابنه بدرًا أصيب بمس من الجنون لأنه يجرب صوته وحيدًا وكأنه يكلم نفسه، وعسر على الشاب بدر التفريق بين عقارب الساعة والدقائق حتى ضبطها بعون زملائه، بينما وقع في حرج في الجامعة إبان انتسابه إليها من محاولة بعض الأساتذة العرب استثمار الطالب المنتسب للظفر بعقد عمل إضافي مع الإعلام بحكم عمله وعلاقاته الإعلامية.

ومن طريف مواقفه مع الحجيلان أن الوزير رفض إقرار عنوان برنامج رمضاني للمؤلف الذي تمسك بالعنوان لدرجة العناد، وبعد احتدام النقاش قال له الحجيلان: يا ابني العنوان مع اسمك أربع كلمات، وفي كل واحدة منها حرف راء وهذا خلل إذاعي؛ فتنبه بدر كريّم وتنازل عن عنوانه المقترح وهو سمار رمضان، علمًا أن الوزير الحجيلان لم يكن معجبًا بصاحب الذكريات ثمّ تبدلت نظرته تجاهه بعد جولة محلية لمدة أربعين يومًا حظيت بعدها الإذاعة وبدرها بتواتر الثناء من أمراء المناطق فسعد الوزير بذلك.

من مواقف الوزراء معه أيضًا أن الشيخ إبراهيم العنقري يتابع نتيجته في امتحانات اللغة العربية مع تلويح بمرجعيتها في تمكينه من العمل، وكان للعنقري وللحجيلان من قبل مواقف تفهموا فيها أسباب الخلل الفني في تسجيل المواد وعرضها ولم يلحقهما أدنى شك في الجهاز الإعلامي، مع أن الإشكالات الفنية أعطبت عددًا من المواد التي يظهر فيها الملك فيصل بنفسه، وفي الكتاب رواية إعلامية عن اليوم الذي أصيب فيه الملك فيصل ورحل على إثر ذلك.

بينما اشترط الوزير علي الشاعر عليه بعد تعيينه مديرًا لوكالة الأنباء أن يكون موجودًا حول الهاتف في أيّ وقت، ولذلك خصص كريّم رقمًا للوزير يكون معه في البيت والعمل والسيارة، وفي مقالة من الكتاب وثق د.بدر شهادته على أساليب الوزراء الأربعة الذين عاصرهم، وأغدق الثناء على الوزير الشيخ حسن آل الشيخ لمساعدته في الدراسة وقال: إنه محا عنّي أميّة الشهادات.

وحين أصيب بالدرن أقيمت مباراة كرة قدم ودية بين فريقي الاتحاد والوحدة على ملعب الصبان وأُعلن عنها مع بيان أن ريعها لصالح علاج بدر كريّم، ويبدو أن الجماهير تدفقت على الملعب فبلغ ريع المباراة ستة الآف ريال سافر فيها وتعالج حتى شفي تمامًا، ومن مواقف هذه الرحلة أنه تعلّم حب القراءة من “جاك” عامل النظافة اللبناني المثقف جدًا الذي منح غرفة الكاتب في المستشفى مزيد عناية، وبعد مغادرة المستشفى سكن في فندق فخم وحين اكتشفوا أنه مصاب سابق بالدرن رفضوا بقاءه.

ولم يكتف ابن ينبع بكتابة ذكرياته فقط، بل أصدر عدة كتب فيها بحوث إعلامية ودراسات توثيقية عن نشأة الإذاعة ولا غرو فعند جهينة الخبر اليقين، وأتمنى أن يتفرغ أولاده لجمع تراث والدهم المنشور على هيئة ذكريات، وإعادة إخراجها مع مراجعة التواريخ التي أدركتها أخطاء طباعية، وحذف المقالات التي لا تدخل ضمن الذكريات، فإرث الرجل من الذكريات يكفي لأكثر من كتاب كما وضح في مقدمة الكتاب، وفيها طرافة وإمتاع، وأذكر أني قرأت له مقالة مختصرة خلاصتها أنه أذاع نشرة الأنباء وفيها أمر ملكي بإعفاء وزير الصحة د.يوسف الهاجري، وبعد نهاية الأخبار أذيعت مادة مجدولة مسبقًا تقول كلماتها: يا هاجري ماذا حصل؟!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 15 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441

09 من شهر فبراير عام 2020م 

 

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)