سير وأعلام

إبراهيم العنقري وهيبة الصمت

إبراهيم العنقري وهيبة الصمت

ينتمي معالي الشيخ إبراهيم بن عبدالله العنقري (1347-1429) إلى أسرة عريضة من بني تميم تفرعت عنها أسر عريقة لها تاريخ علمي وسياسي وثقافي وإداري واقتصادي وخيري في عدد من مناطق الجزيرة العربية وبلدانها قديمًا وحديثًا خاصة في الداخل النجدي؛ ولهم حضور واضح في عدد من المناصب العليا بالمملكة العربية السعودية.

درس العنقري في المعهد السعودي بمكة، وتخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة بدايات السبعينات الهجرية، وكان من زملائه في الدراسة المكية والقاهرية عدد ممن أصبحوا وزراء فيما بعد، وفي عام (1373) عمل في مكتب وزير المعارف الأمير فهد-الملك لاحقًا- ثمّ انتقل إلى وزارة الخارجية رئيسًا للمراسم، وعضوًا في وفد المملكة لدى الأمم المتحدة، فمستشارًا في السفارة السعودية بواشنطن.

ثمّ أصبح في عام (1382) وكيلًا لوزارة الداخلية إبان تولي الأمير-الملك- فهد مسؤوليتها، وغدا عام (1390) ثاني وزير إعلام خلفًا للشيخ جميل الحجيلان، وبعد خمس سنوات أسندت إليه حقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وهو وزيرها الرابع حتى عام (1404) التي تسلم فيها مسؤولية وزارة الشؤون البلدية والقروية وهو أول وزير لها بعد الأميرين ماجد ومتعب، وغادر مجلس الوزراء عام (1409) ليعمل مستشارًا خاصًا في الديوان الملكي ومقربًا من الملك فهد، واستمر كذلك حتى عام (1427)، ولأجل هذه الخبرة المتنوعة نحزن كثيرًا على غياب تدوين سيرته، وما اشتهر من إتلافه بعض أوراقه ووثائقه قبيل رحيله، وفيما بقي العوض.

امتاز معاليه بالصمت الطويل، والتكتم الشديد، ولم يكن دافعه لذلك عجز عن الكلام، أو ابتلاء بعياية، أو سوء تعبير لا قدر الله، فهو رجل بليغ فصيح، وكلماته المحفوظة تدل على رجل ضليع في اللغة مع براعة في الإلقاء، وسبق أن ارتجل كلمة في منى لم يلحن فيها، وذكر الشيخ علي الطنطاوي أن العنقري أهدى له المجموعة الكاملة من مجلة الرسالة الشهيرة، وإن إنسانًا يقرأ الرسالة لا يكون إلّا عاقلًا أديبًا، وهو ما شهد به زميله في العمل، وجاره في السكن، وصديقه فيما بعد، أعني د.عبدالرحمن الصالح الشبيلي الذي أثنى على ثقافة العنقري، وذائقته، ولغته.

ونظرًا لطبيعته التحفظية لم يقترح عليه الشبيلي كتابة سيرته كما فعل مع كثيرين، وقال جهاد الخازن إن العنقري يعلّم أبا الهول حفظ السر، وكتب الأستاذ علوي الصافي أن صديقًا له يعمل صحفيًا زاره في مكتبه بالمديرية العامة للصحافة والنشر، فسأله هل قابلت الوزير؟ فأجاب الصحفي: نعم وليتني لم أقابله! وأبدى الزائر دهشته من تعيين العنقري وزيراً للإعلام؛ ثمّ فسر دهشته بطول صمات الوزير، واعتذاره عن إجراء الحوار، وإن حمد له قيامه من مقعده، وتوديعه لضيفه حتى خروجه من باب مكتبه، والضيف العربي جذل من تواضع الوزير، منبهر بطوله، وإن كان محبطًا من دبلوماسيته.

كما يروي د.بدر كريم أنه طلب منه عندما كان وزيراً للبلديات الموافقة على إجراء لقاء صحفي موسّع بمناسبة انعقاد أول مؤتمر للبلديات، إذ خصصت صحيفة عكاظ- وكان د.بدر نائبًا لرئيس تحريرها د.هاشم عبده هاشم- صفحتين للمؤتمر في قلب الصحيفة، ورغب د.كريم أن يلتقط المصور بعض الصور للوزير حتى تنشر، فأصر العنقري على أخذ صورة واحدة فقط، وقال: كثرةُ الأضواء تحرق!

بينما يثني د.زهير الأيوبي على قدرات الوزير الإدارية التي تمثلت باجتذاب كفاءات قانونية وإدارية معه إلى وزارة الإعلام وهما على الترتيب الأستاذ ياسين المكتبي، والأستاذ عبدالرحمن أمين كاتب، ونجم عن ذلك ضبط العمل الإداري في الوزارة، وضم الإدارات والأقسام المتداخلة في أعمالها تحت مسؤول واحد، وتعديل مكافآت المتعاونين، وتسريع صرفها، وكتابة الإجراءات واللوائح التي تسهل العمل وتمنع الاجتهاد والتعقيد، وفي عهده بدأت وكالة الأنباء السعودية بعملها وهي أول وكالة أنباء خليجية، وانطلقت منظمة إذاعات الدول الإسلامية التي اختار الشيخ حسن آل الشيخ شعارها.

ومن أجلّ أعماله ما وثقه الكاتب والمؤرخ الأستاذ منصور العساف عن انبثاق إذاعة القرآن الكريم وانتشار نورها، ذلك أن د.علي الخضيري كان في زيارة عمل إلى مصر سنة (1391)، فأعجبته فكرة إذاعة القرآن هناك، لذلك عرضها على مدير عام الإذاعة آنذاك الأستاذ خالد غوث الذي لم يتوان عن نقل الفكرة للوزير الشيخ إبراهيم العنقري فتبناها وهو المشهور بترحيبه بالأفكار الجميلة، واقترحها على الملك فيصل الذي راقت له؛ ليبدأ بثها في غرة صفر عام (1392)، ويصبح د.علي الخضيري أول مدير لها، وأضحت هذه الإذاعة درة التاج في إعلامنا قاطبة، فما أعظم أجور هؤلاء الرجال الأربعة ومن خدم الإعلام الهادف بأصنافه.

أيضًا لدى الشيخ العنقري حس أمني كبير، من ذلك أن التلفزيون سجل لقاءات مع بعض المجرمين في حقبة الثمانينات الهجرية فلما شاهد التسجيل وهو وكيل لوزارة الداخلية رفض عرضه للجمهور لأن فيه معلومات تفصيلية لا تهم المشاهد الذي يحتاج لسماع اعترافهم فقط، وبعد أن أصبح وزيرًا للإعلام حمل معه صرامة الأمن وحدسه، فبادر للوم المتجاوزين في الإعلام بما لا يضرهم ويصرف عنهم عقوبات الإدارات الأخرى وأخذ بعضها أليم.

وحين فحص العاملين في الإذاعة لاحظ أن مناصب بعضهم مؤثرة وحساسة، والحاجة لهم قائمة، فعرض عليهم أن يطلبوا الحصول على الجنسية، واستصدر لهم الأمر الملكي خلال أسبوع، وبذلك أضاف للبلد كفاءة وخبرة، وجعل ارتباط العاملين بالجهاز يفوق مجرد الوظيفة إلى شعور بالانتماء للعمل والمكان والناس.

ومع الهيبة والصرامة فللشيخ مواقف في الخير والتلطف كثيرة؛ منها أنه دخل غاضبًا على موظف أديب أجاز مادة مخالفة، فوجده في حال طرب مع أغنية يراقبها، فاكتفى بنفض يديه عليه قائلًا: ما سمحتَ بظهوره لا يكون ولا في فرنسا! وروي عنه تقسيمه راتبه على فقراء مكتبه، ونزوله من سيارته للسلام على ذوي الاحتياجات الخاصة المجتمعين حول مدخل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتوج ذلك بما نفذه ورثته من إنشاء مؤسسة خيرية مانحة تحمل اسمه حسب وصيته؛ ولها يد مباركة في بناء المساجد والمشافي ومساندة جمعيات تعليم القرآن ومشاريع الإسكان والعلاج وغيرها سواء في بلدته ثرمداء أو في مناطق المملكة الأخرى، وحتى في مصيفه الأندلسي على الجزر الإسبانية، وفي حياته أعاد بناء مسجد في روسيا بعد أن ظل زمنًا إسطبلًا للخيول كما روى د.عبدالعزيز خوجه.

وزار معاليه الأديب الكبير الأستاذ عبد الله عبد الجبار، الذي كان مديراً للبعثات في القاهرة والعنقري طالب مبتعث فيها، وكانت الزيارة في منزل الأديب بمكة، وتناول معه طعام العشاء المتواضع، المكوّن من صحن فول ورغيف خبز؛ ولم تمنعه منزلته الرفيعة من الجلوس في بيت غير فخم، وتناول طعام هو إلى موائد الفقراء أقرب، وتلك سجية النفوس الباسقة!

من صفاته غير الصمت البليغ، والهيبة البادية، والرحمة الظاهرة، والتواضع الراقي، أنه موئل الاستشارة في دقائق المسائل وعظائم الأمور خاصة من الملك فهد، وكان يكتب كلماته التي يلقيها في مجلس الشورى، ولربما أن كثيرًا من الوزراء وأعضاء مجلس الشورى الستين في دورته الأولى يحفظون أن خبر ترشيحهم ورد إليهم عبر اتصال هاتفي من الشيخ العنقري، ولأهميته وخطورة ما يحمله من موضوعات لم يكن الشيخ محمد بن جبير يغلق باب مكتبه في مجلس الشورى إلّا حين يزوره أربعة رجال أحدهم العنقري.

ومن عظيم الثقة به أن المجلس الأعلى للإعلام لم ينعقد إبان تسنمه حقيبة الإعلام اكتفاءً بوجوده، وهو إجراء لم يتكرر خلال عمر المجلس عبر أربعة عقود تقريبًا، ولاحظ عارفوه بأنه يجيد تقدير المسافات، وتحديد مواطن الإقدام، ومواضع الإحجام، ويمسك بخيط رفيع من التوازن والترفع عن الابتذال؛ فلا يكون بعيدًا حين يكون القرب لازمًا، ولا يقترب أكثر عندما يصير الابتعاد أعز وأكرم كما يصفه د.الشبيلي.

أما نصيحته المخلصة لبلاده فواضحة حين سعى لتفعيل المقترح بافتتاح إذاعة للقرآن الكريم؛ فمنزل الوحي أولى البقاع بخدمة الكتاب العزيز، ومنها غضبه من نشر دعوة للكتابة بالعامية فلسان العرب الفصيح محفوظ بالوحيين، وفهمه سبيل لحسن فهم مراد الله سبحانه، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها حذره من الظهور الإعلامي في زمن كثرت فيه السهام وازداد فيه المصطادون مع أنه لو برز للناس لبزهم بلغته وفلجهم بحجته؛ بيد أن تقديره اقتضى ألّا يفعل، ويحسب له في هذا الباب سعيه الحثيث لتدريب الموظفين وتمكين القيادات منهم، ومشاركته في عضوية لجان صياغة الأنظمة الأربعة للحكم والمناطق ومجلسي الوزراء والشورى، وهي أنظمة ارتبطت بالمنهج الذي قامت عليه البلاد فلا تحيد عنه.

توفي الشيخ إبراهيم العنقري في جنيف يوم الخامس من المحرم عام (١٤٢٩)، الموافق ١٤ من يناير عام (٢٠٠٨م)، وصلي عليه في المسجد الحرام ودفن بمكة إنفاذاً لوصيته. ولا يوجد عنه كتاب مطبوع فيما أعلم سوى محاضرة ألقاها د.عبدالرحمن الشبيلي بنادي مكة الثقافي والأدبي في ربيع الأول ١٤٣٠-مارس ٢٠٠٩م، ثمّ نشرت بعنوان: إبراهيم العنقري قراءة تحليلية في سيرته، والأمل معقود بما يشاع وتأكد لي عن نية ابنه وابنته مازن وعبير لإصدار كتاب عن سيرة أبيهما، رجل الدولة الصامت المهيب البليغ.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 27 من شهرِ ربيع الأول عام 1441

24 من شهر نوفمبر عام 2019م

Please follow and like us:

12 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه. وانت تكتب عن مناقب من خصال واخلاق حميدة لمعالي الشيخ ابراهيم العنقري رحمه الله وجعل مثواه جنة الفردوس الاعلى . وبارك الله له في ابناءه واحفاده . وكثر الله من امثاله . عزة وفخر وشرف لبلاده ولعائلته ولاامته

  2. للمعلومية وللتوثيق :
    أذكر أنني قرأت أن الشيخ محمد الراوي قد ألقى محاضرة عامّة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قاعة كلية الشريعة بها، وكان موضوع المحاضرة: الإسلام في نيجيريا، وقد طُلب ذلك منه بحكم إقامته فيها وقدومه إلى الجامعة منها، وكان لهذه المحاضرة أثرها وتأثيرها عندما ختمها بقوله: لقد كنتُ أسمع صوت الإنجيل يدوي من وسائل الإعلام في أفريقيا، فهل من غيور على الإسلام يُسْمِع الناسَ جميعًا صوت القرآن؟! وما هي إلا أيام قلائل حتى أمر الملك فيصل -رحمه الله- بإنشاء إذاعة القرآن الكريم التي امتد نفعها في كلّ مكان.
    وجمعا بين ما قرأت وبين ما كتبت أ. أحمد يكون الشيخ محمد الرواي رحمه الله هو أول من دعا لذلك في محاضرته ثم تبناها الشيخ العنقري فعرض على الملك فيصل الذي أمر بإنشائها ، رحم الله الجميع برحمته الواسعة فكم ينالهم من الأجور وهم في قبورهم بخدمة القرآن الكريم .
    ولعل إذاعة القرآن الكريم تحتاج إلى مقال توثيقي منك أ. أحمد

  3. السلام عليكم

    قرأتها ..رائعة .. شكراً..

    ورقة عاطرة أحسنت فرْك رائحة عطرها فعبقت ففاح في ارجاء غرفة مكتبي،

    لقد أجزت فاحسنت صنعاً .

    تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)