سير وأعلام عرض كتاب

ابنُ جبير: الشّيخُ السّياسي

Print Friendly, PDF & Email

ابنُ جبير: الشّيخُ السّياسي

كنت في ضيافة أحد القضاة بحضور رجال أعمال وقانون وثقافة وعمل خيري، وجرى الحديث عن كتابة السير والتجارب، فالتفت القاضي إليّ وقال: كتبتَ عن شخصيات كثيرة ولم تكتب عن الشيخ ابن جبير، ووافقه على ذلك بعض الحاضرين، فأجبتهم بأن مصادر المعلومات عن الشيخ شحيحة، ووعدتهم بالاجتهاد قدر استطاعتي.

وهاهنا خلاصة لما سمعته مباشرة أو نقلًا عن رجال ونساء، وما استطعت الوصول إليه في الانترنت، أو بعد قراءة بعض الكتب، ولا يزال الباب مفتوحًا لمزيد من الكتابة عن معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير (1348-1422)، فمن التجربة أيقنت أن المحاولة الكتابية الأولى شاقة لكنها تكون ميسرة لما بعدها، وإنا لمنتظرون.

يعد الشيخ ابن جبير أول رئيس لمجلس الشورى في تكوينه الجديد عام (1414)، وهو من وزراء قلة جمعوا مع الحقيبة الوزارية عضوية هيئة كبار العلماء، ومن وزراء محدودين كانوا وزراء دولة ورؤساء لمؤسسة عامة في آن واحد، وله تاريخ حافل من العمل ضمن الرواق العدلي في المحاكم، وديوان المظالم، ومجلس القضاء الأعلى، فضلًا عن عضوية مجالس عليا، ولجان خاصة، وهو أحد أعضاء اللجنة التي درست أنظمة الحكم ومجلس الشورى والمناطق التي أصدرها الملك فهد عام (1412)، ثمّ نظام مجلس الوزراء الذي صدر عام (1414).

أما أسريًا فقد تبنى الشيخ اجتماع حمولته الدوري، وأحسن لأقاربه من كافة الدرجات، وضم بعضهم إلى بيته خاصة من ضعفة النساء بعد طلاق أو ترمل أو تيتم، ولما تقاعد والده من العمل الحكومي سكن في بيت الشيخ؛ فجعل الابن البار إدارة المنزل بجميع شؤونه من صلاحيات والده بما في ذلك راتبه الذي يضعه بين يدي والده كاملًا، ولا غرابة أن يقول والده لأحد أصدقائه: لو أصبح عندك ابن مثل ولدي محمد لكفاك!

يمتاز الشيخ بالكتمان والوقار وزاد القضاء من منسوبهما عنده، وينصت بإصغاء واهتمام لمحدثيه، ويتيح الفرصة لأيّ مداخلة حتى لو كان يرفضها في داخل نفسه، ولديه قدرة على امتصاص الموقف مهما كان حرجًا، وتنحصر تدخلاته أثناء أي حوار لصالح إنضاج النقاش وإثرائه، وحين أبدى البعض خوفهم من إرثه المشيخي أجابهم بقوله الذي صدقته أفعاله: صدري في مثل اتساع الربع الخالي، ولأجل ذلك نُعتت إدارته لجلسات الشورى بأنها حازمة ومتحضرة، وكان سياسيًا وبريئًا في الوقت ذاته من رأي المعري بأهل السياسة!

كما امتن الله على معاليه بحسن الأحدوثة، والتواضع ولين الجانب واللطف، وجعله إنسانًا يألفُ ويؤلف، بعيدًا عن التعقيدات ووضع الحواجز، وحين يتصل بأي موظف يبادر الطرف الآخر بقوله: معك محمد بن جبير، ولا يتوانى عن تهنئة أو تعزية أو ترحيب حتى لصغار الموظفين، وأنجاه الله من احتقار الناس إذ يقول: حتى المراسل يؤخذ رأيه فربما لديه نظر أو فكرة، ولم تمنعه رقته هذه من أن يكون صريحًا في اعتراضه، مقنعًا في حكمه، واضحًا في رأيه.

وهو شيخ واسع الأفق، التصق بأعمال الدولة ولم يتغاض عن هموم الناس ومطالبهم، ولم يغفِل لوازم العلم الشرعي الذي يحمل أمانته، وقد وفقت الدولة باصطفائه رئيسًا لأول تكوين شوري حديث، فهو من وسط مشيخي، ودائرة عدلية، وتجربة حكومية في الإدارة، وذو عمق شرعي وخبرة في صياغة القوانين، ويجمع صفتي التحفظ والانفتاح بتوازن بينهما، ودرس في نجد والحجاز، وقرأ الكتب والمجلات، وزار بلادًا شتى، وكان صديقًا للإعلام وأهله، وصنع اجتماع هذه المواصفات منه رجل دولة فريد شعاره اتقوا الله ما استطعتم، وزيادة مساحة الخير، وتقريب وجهات النظر، وما أحوج الأمم إلى موازين اعتدال من رجالاتها وكبرائها.

ولأن معالي الشيخ عمل مع عدة ملوك، قال عنهم كلمات مختصرة ذات دلالة، فكلهم يشاورون، ويحرص الملك عبدالعزيز على لقاء العلماء والوجهاء، ولا يتردد الملك سعود في قبول مقترحات المختصين، وكان الملك فيصل قليل الكلام سريع الاستيعاب، ويحمي الملك خالد أخلاق البلد ويحافظ على قيمه، ولا يعرف الملك فهد الانتقام ولا يرغب به، ويسعى لاحتواء الناس واستصلاحهم ويتصرف بما يليق بحاكم مثله، ولدى الملك عبدالله رغبة في القضاء على أيّ مخالفة للنظام مع غيرة عربية ظاهرة، ولأجل هذه البصيرة وصف الملك سلمان الشيخ ابن جبير في مجلس العزاء بأنه رجل علم ورجل دولة ورجل أخلاق.

بينما يبدي الشيخ سعادته بصدور أي نظام ذي مصلحة عامة؛ فالعدالة في نظره لا تسود إلّا في دولة مؤسسات محكومة بأنظمتها، ولاحظ أعضاء الشورى ابتهاجه بعد صدور نظامي المرافعات القضائية والإجراءات الجزائية. وله موقف صدق يتسق مع ذلك ملخصه أن الحكم القضائي لا يتبع الرأي الأمني أو مطالبات النيابة بل يستقل عنهما تمامًا، ومن مآثره تقديم حسن الظن بالآخرين، والتروي في تأويل أقوال المخالفين قبل الموافقين، وتحاشي تفسير نوايا أصحابها، مع الحرص على تأليف القلوب، وسيذكر له التاريخ إصداره حكمًا بالبراءة على أصحاب رأي، وإرشاده أحدهم لتصحيح طريقة إجابته كي تنفعه ولا تضره، وإصراره على ترك مساءلة الكتّاب الذين انتقدوا أداء المجلس إبان رئاسته، وأين هذا العدل من قوم يأخذون بسوء الظن ولو لم يكن له موضع؟!

كما نقل د. فهد العرابي الحارثي في كتابه “هؤلاء وأنا” عن البروفيسور سليم جاهل أستاذ القانون الدولي في جامعة باريس الثانية، قوله بعد أن التقى بالشيخ ابن جبير لأول مرة في منزل الحارثي: بهرني يا فهد هذا وأريد تكرار اللقاء معه! ويصف عضو الشورى السابق رئيسه بأنه قادر على امتصاص حماسة الأطراف التي لديها أحكام مسبقة، وتعلمنا منه قبول الحوار مع أننا كنا نعتقد أنه قادم من مدرسة الاتجاه الواحد، فإذا بنا نحن من يغتال الحوار مع أننا درسنا في جامعات غربية منفتحة.

ويجمع ابن جبير بين حديث النص وحديث التجربة في قالب واقعي متجانس كما قال سفير المملكة السابق في اليونسكو د.زياد بن عبدالله الدريس في كتابه “حكايات رجال”، ويرى عضو الشورى السابق الأستاذ حمد بن عبدالله القاضي في كتابه الرثائي “غاب تحت الثرى أحباء قلبي” أن الله وهب الشيخ الجبير سداد الرأي والجلد على العمل، وبعد النظر مع العلم بأمور الدين ومجريات السياسة، ولا يضيق بحوار ولا يتضايق من اختلاف.

ولا يساوم الشيخ على حب العمل، ويخرج من مكتبه متأخرًا بعد أغلب الموظفين، ولا يغيب عن حضور جلسات المجلس التي تمتد لساعات ولا يقطعها ولا يتبرم من مداولاتها، ويقرأ محتويات المعاملة كاملة حتى الفهرسة، ولا تبات ورقة على مكتبه، وإذا سافر في رحلة عمل حرص على العودة قبل موعد انعقاد جلسة المجلس، وفي زيارة رسمية إلى كازاخستان أغلقت الأجواء بغتة؛ فلما علم انزعج واجتهد في البحث عن مخرج للعودة المبكرة، ولم يقبل مقترح بعض مرافقيه بالمكوث والاستمتاع بجمال البلد.

ويحوط المال العام إحاطة شديدة؛ فلا يدفع ريالًا واحدًا قبل أن يتأكد من براءة ذمته وصواب قراره، وهو كريم من ماله الخاص، وأما الأموال العامة فيخشى من المساس بها، ولذلك رفض أخذ العوض عن المناسبات التي أقامها في منزله لأضياف الدولة، وتكفل بمصاريف ابنه المرافق له في رحلاته الخارجية مع أنه يرعاه صحيًا، ودفع من جيبه أجور بعض الأعمال التي ليس لها مصرف في موازنة الشورى، وتحمل تكاليف سكن أعضاء الوفود الذين لم تشملهم ضيافة البلد الداعي قبل أن يقنع الحكومة بدفعها للوفود فيما بعد، ورفض بشدة قبول هدية من أحد الأعيان مع إصرار المهدي.

أيضًا كان حريصًا على تنوع موظفي المجلس بحيث لا تغيب منطقة من مناطق المملكة عنه شريطة أن يكون التوظيف للمؤهل الذي تبرأ به الذمة، وألّف لجنة للتوظيف فيها أعضاء من عدة أجهزة حكومية لتحري الموضوعية، وأحال إليها طلبات الشفاعة للتوظيف التي ترد إليه، ولذا خلا المجلس من أقاربه ومن الفئوية البغيضة، وبالمقابل لم يجد في نفسه ميلًا للرضا بالمحاصصة في عضوية الشورى، ومناط رأيه أن العضوية ينالها الكفؤ الأمين من الرجال لأنها ولاية عامة بحسب اجتهاده.

ومن حكمته سعيه المتأني لإنضاج التجربة الشورية، والابتعاد عن مصادمة مؤسسات الدولة، كي لا يجد المجلس مقاومة من الوزارات التي لم تعتد على وجود مؤسسة خارج نطاق منظومة الوزراء تراجع الأنظمة وتقارير الأداء، ومنها التعاطي الحذر مع الإعلام حتى لا يأخذ المجلس حجمًا شعبيًا أكبر من حقيقته ثمّ يصاب الناس بخيبة توقعاتهم الحالمة، ومن نتاج بصيرته المبكرة أن غدا المأمول من المجلس بعد ربع قرن من تكوينه أعظم وأكبر.

ومما حظي به المجلس خلال رئاسة الشيخ حصر نشاط الأعضاء في الجلسات وعضوية لجان الشورى فقط، ومنح عشر دقائق لأي مداخلة، والتأكد من العدالة في المشاركات الخارجية الودية، وانتقاء الممثلين في المؤتمرات حسب التميز والاختصاص. ومن حسنات الشيخ حصوله على موافقة الملك لمنح جميع الأعضاء بدل سكن، واستحداث ستين وظيفة لستين مساعدًا إداريًا عملوا في المجلس خلال سنواته الأربع الأولى على نظام العقود؛ ثمّ تظلموا لرئيسهم، وهو رجل ينفر من الظلم بمقتضى دينه ثمّ بإنسانيته الغامرة؛ فحمل أملهم للملك فهد، ورجع إليهم بما يتمنون وزيادة، ومن رفق الشيخ امتناعه عن ضغط جدول الوفد الزائر معه بعد نهاية الترتيب الرسمي للزيارة، وإتاحة الفرصة لهم ليستفيدوا من الوقت، بينما لم يذهب هو للأسواق، واكتفى بزيارة المكتبات والمساجد والمتاحف والمعالم، ولم يغير لباسه الوطني البتة.

من مواقف الشيخ أن السفير الإيراني عقّب على محاضرة له عن الشورى في مركز إسلامي بإيطاليا فقال الشيخ بثقة: نحن نجتهد وفقًا للكتاب والسنة وأنت لك رأيك ومسؤول عنه، وحاول رفسنجاني إحراجه بسؤال عن المرأة فلم ينحن الشيخ وقال له لكل مجتمع أعرافه، وسأله رئيس إيطاليا عن إمكانية زيارته لحرم مكة فأجاب بدبلوماسية أنه يمكنه مشاهدة الحرم عبر الصور الحية، وقال له صحفي في اليابان أنتم تضطهدون المرأة، وبهدوء أخبره أنه عضو في أعلى هيئة دينية في المملكة، ولديه ست بنات جميعهن متعلمات جامعيات يعملن في التعليم والطب، ومازحه بعض أعضاء الوفد حول سيقان موظفات الضيافة في الصين فنصحهم بغض البصر كي لا تفتنهم الحسناوات!

وحين يسافر الشيخ في زيارة ينفق على المشروعات الخيرية من ماله الخاص، ويرفض طلب مساعدة مالية من الدولة التي لها أعمالها الخيرية الكثيرة، وذات مرة لم يكن معه المبلغ المطلوب فاقترضه من بعض أعضاء الوفد معه في اليابان ثمّ أعاده لهم بعد رجوعهم إلى المملكة، وتكفل بمصاريف جمعية قرآنية في أفريقيا، وخلال زيارته للسنغال أصر على زيارة جزيرة قوري التي خطف الأمريكان منها عددًا ضخمًا من أبنائها ليصبحوا عبيدًا، وفي زيارته للصين فرح به المسلمون هناك، وأطلعوه على أكبر نسخة من المصحف في العالم يحتفظون بها.

ويعترف ابن جبير بالفضل لأول وزير عدل، ولما ولي أحد المناصب جاءه بعض كبار الموظفين يثلبون عمل سابقه فقال لهم: لعلنا نلتمس العذر لمن سبقنا عسى أن يأتي بعدنا من يلتمس العذر لنا! ويثني على السيد طاهر الدباغ ويراه في منتهى الذوق، ومنتهى العطف والرحمة حين استقبله وهو طفل متخرج من الابتدائية، ويكثر امتداح أشياخه وزملائه ومن استضافه في مكة. ومن لطائفه أن ضابطًا في الحرس الملكي غاب عن نظر الشيخ لمدة شهر، وبعد عودة الضابط سلّم الشيخ عليه باحتفاء شديد وسأله عن سر غيبته، ثمّ أفصح للضابط عن مكنونه تجاهه بقوله: أنا ارتاح عند رؤيتك! والأرواح جنود مجندة؛ فالضابط يحفظ القرآن الكريم كاملًا.

أشير أخيرًا إلى أن كثيرًا مما ورد أعلاه مقتبس من كتاب عنوانه: الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير: جوانب من سيرته الذاتية الشخصية كما رواها في مقابلة تلفزيونية وثائقية خاصة، تقديم وحوار د.عبدالرحمن الشبيلي، صدرت الطبعة الأولى منه في ( ذي الحجة 1422= فبراير 2002)، عن مجلس الشورى ويتكون من (115) صفحة، وهو جزء من إرث الدكتور الشبيلي في حفظ تاريخ أعلامنا، وبدونه كنا سنفقد جزءًا من هذا الميراث.

كما يحسن بي تكرار الدعوة إلى جميع أصحاب الخبرة والمعرفة بأن ينهضوا للتدوين أو التسجيل أو غير ذلك من سبل الحفظ، فهذا من حق البلاد والأجيال عليهم، وضمنها دعوة أخرى للقادرين من ذوي القبول والعلاقة بأن يستنطقوا هذه الشخصيات والنماذج؛ ويستخرجوا منها ما استطاعوا من تاريخ وتجارب وتحليل واستشراف.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 02 من شهرِ المحرم عام 1441

01 من شهر سبتمبر عام 2019م 

Please follow and like us:

7 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)