سير وأعلام

ممازحة بين وزيرين!

Print Friendly, PDF & Email

ممازحة بين وزيرين!

تداول جمع غير قليل عبر الواتساب صورة لورقة خطية كتبها عميد الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر، وكان حينها وزير دولة، ثمّ أرسلها إلى وزير الصحة أ.د.أسامة شبكشي الذي دون الجواب أسفل الورقة. وهذه الورقة مذيلة من الكاتبين بتاريخ الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام (1419)، ومن يسير البحث تبين أن هذا التاريخ يقع في يوم الاثنين، مما يقوي احتمالية أن الورقة سرت بين الوزيرين خلال الاستعداد لجلسة مجلس الوزراء الموقر الذي كان يعقد حينها كل يوم اثنين، وتوافق كذلك شهر أكتوبر عام (1998م)، وهو شهر ذو تقلبات جوية وصحية، تتعب المرضى من الزكام والربو، وقد عانى د.الخويطر في تلك الأيام من الزكام حسبما ورد في الجزء السادس والثلاثين من كتابه “وسم على أديم الزمن”، وأخذ اللقاح بعد أسابيع من هذه الورقة طبقًا لما ورد في الجزء ذاته.

مضمون تلك الورقة الظريفة أن الوزير الخويطر تعرض لزكام لم تجدِ معه الأدوية على اختلافها نفعًا، فابتكر لنفسه وصفة خاصة من ماء وعسل للاستنشاق، فقدّر الله له الشفاء على إثرها، ولذلك رأى أن يستفتي أهل العلم والذكر؛ فسأل زميله وزير الصحة وهو طبيب استشاري، ولم يتأخر الوزير المسؤول عن الجواب الذي أقر به طريقة زميله الجديدة. والذي يبدو أن صنيع الخويطر لا يدخل في مخالفات الممارسة الطبية لأنه تصرف ذاتي بلا إشهار ولا متاجرة، والأكيد أن حكم الشبكشي لزميله خاص لا يعمم.

ومن لطائف الورقة المنتشرة ما يكون من تمازح بين أصحاب المناصب العالية، حتى في الاجتماعات المهيبة، فهم في النهاية بشر مثل غيرهم بما ركب فيهم من مشاعر وحاجات، وما أكثر التمازح والتحاور بالكتابة الخطية، أو الإشارة، أو الوسائل الحديثة، وما يدري أحد إلى أين سيأخذنا الذكاء الاصطناعي في هذا المضمار. ومما سمعته وقرأته أن ظاهرة القصاصات المتداولة شائعة بين أعضاء مجلس الشورى، وربما لو جمع أحدهم بعض تلك الجذاذات لصنع منها مادة لطيفة ذات دلالة.

كما أن الورقة وحكايتها تؤكد لنا دومًا ضرورة ضبط المراسلات؛ فهي عرضة للنشر بحكم مرور الزمان، أو بناء على تقدير سلامتها، أو غير ذلك. ومن هذا الباب حفظ المراسلات الواردة والصادرة؛ وقد أصبح الأمر أيسر الآن، فمن الممكن أن يستفيد المرء من تلك الرسائل مادة مثرية لسيرته أو ذكرياته أو يومياته، والحمدلله على التيسير؛ ففي زمن مضى كان يشق على المرسل أن يحتفظ بنسخة من كتابه المخطوط، واليوم غدا كل شيء من السهولة بمكان، وعسى ألّا يكون من الطيبات المعجلة لنا أهل الزمان، أو من الحجج البالغة علينا.

ومن لطائف الورقة أنها جرت بين وزير صحة سابق، ووزير صحة قائم آنذاك، وهو من الوزراء الأطباء السبعة، وبقية وزراء الصحة ليسوا من الأطباء وعددهم ضعف عدد الأطباء تقريبًا. ومنها أن الوزيرين قد أنيطت بهما مسؤولية جامعتين كبيرتين، فأصبح الخويطر المسؤول الأول عن جامعة الملك سعود بالرياض لمدة عقد من الزمان دون أن يسمى مديرًا لها، وبعدها عين رئيسًا لأحد الدواوين، ثم اختير وزيرًا للصحة عام (1394=1974م) خلفًا للشيخ جميل الحجيلان، قبل أن يتنقل خلال أربعين سنة بين وزارتي المعارف والدولة بين عامي ( 1395-1435=1975-2014م)، بينما تولى أ.د.شبكشي إدارة جامعة الملك عبدالعزيز مدة سنتين قبل أن يسمى بعدها مباشرة وزيرًا للصحة بين عامي (1416-1424=1995-2005م).

كذلك نلمح في الورقة وضوح الخط، وسلامة النحو، وإن كان الأسلوب غير محكك لكونها رسالة عابرة لا تستوجب التدقيق الزائد، وإلّا فللوزيرين قلم وأسلوب، وهما من أهل العناية المشهودة المشكورة باللغة العربية، ولهما سير ويوميات وكتب منشورة، والشيء بالشيء يذكر، فالرجلان درسا في أنظمة التعليم القديمة الصعبة، وهذا نموذج لخطهما بما فيه من دقة ووضوح، والمقارنة مع خطوط فئام من أبناء الجيل الحالي قد تسبب القرحة، أو تثير الحساسية، في الغالب مع الأسف! وليس بمقبول أن يقال: إن زمن القلم والكتابة اليدوية قد ولى مدبرًا، ولن يعقّب!

ومن المشتهر عن الوزيرين الصلابة والجدية والصرامة، مع الالتزام بالنزاهة والوضوح. وقد اكتشف د.غازي القصيبي الروح المرحة للخويطر وأشاد بها، ولاحظ القريبون من شبكشي أنه خلال غضبه ربما أطلق تعبيرات ضاحكة. وقد كان أ.د.أسامة حريصًا على العمل، وفي آخر لقاء له بموظفي وزارة الصحة الذين عاصروه قال لهم وهو يهم بمغادرة المكان في شهر شعبان المنصرم: يا إخواني وأولادي قد سامحتكم فسامحوني؛ لأن كل شدة صدرت مني فهي لأجل مصلحة العمل، فسمع منهم المحبة والصفح، وغادرهم برضا متبادل، وبعدها بأيام دخل المستشفى إلى أن توفي في شهر رمضان، رحمهما الله وجميع المسلمين، وسبحان من جعل هذه الورقة سببًا لذكرهما، والدعاء لهما.

أخيرًا أشير إلى أن هذه الورقة وصلتني عبر الرسائل الوتسية الخاصة من عدد غير قليل من الأقارب والأصدقاء، ولم يخطر على بالي أن أعلق عليها، واكتفيت بوضعها في حالتي الوتسية، حتى وصلتني رسالة غالية عالية، من عزيز حبيب رفيع القدر، وفيها هذه الصورة للوصفة المتبادلة بين الوزيرين، ويقول معلقًا: قد توحي لك الصورة بمشروع مقال عن مثلها في المجالس العالية! ولأجل رسالته بادرت للكتابة مستجيبًا لمقترحه، وأتصور أن البحث في السير الذاتية، والحوارات المكتوبة والمرئية والمسموعة، والروايات الشفهية، والمراسلات المكتوبة، ربما توقفنا على شيء لطيف من هذا الباب الذي وجد من القبول والانتشار ما يلفت النظر إلى مثله.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 27 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

12 من شهر أكتوبر عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)