سير وأعلام

رجال دولة حكماء رحماء

Print Friendly, PDF & Email

رجال دولة حكماء رحماء

استعِذ بالله -وعوّذ من وَ ما تحب- ثلاثًا وعشرًا وأزيد من فئامٍ يتخذون من سوء الظنّ وخطل التفسير وسيلة لادعاء الإخلاص والتزلف، ويظنون طريقتهم هذه من الفطنة والكياسة؛ وفي الواقع هم أضرّ الناس على الحقيقة، والعدل، والوئام، وكم أحدثوا بفسادهم من بلاء، وكم استجلبوا بتنفيس غلّهم وشفاء غيظ قلوبهم من محن ومخازٍ لا تكاد أن تغسلها مياه المحيطات، ولا تخفيها رمال الصحاري، والله يبعدهم وأمثالهم عن أيّ موقع لا يليق تكديره بوجودهم.

وعلى عكس هؤلاء الباحثين عن مصلحتهم الخاصة يوجد أفذاذ كرام المحتد، أصحاب لبّ متوقد، وحضور باهر، ولسان طاهر، وثقافة واسعة، وحكمة ظاهرة، مع حسن تقدير للموقف والمآل والاحتمال، ورحمة فطرية لا ضعف فيها، ولا يكمل بشر قطّ، وإنما ارتقى بهم التوازن، ونفعهم كظم الغيظ، وزانتهم الأوبة للرشاد إن شطّت بهم نوازع النفوس، وسمت بهم للعلياء جرأة استهدفت الصالح العام، والسكينة المجتمعية، وتقليل المشكلات، وتحجيم الأخطار، ولعلهم ظفروا بنصيب من الصفة الثالثة في مقولة الإمام الشافعي: ” من صفات الكمال ثلاث: الورع في الخلوة، والجود من قلة، وكلمة الحق عند من يملك النفع والضر”.

فمنهم مثلًا معالي الشيخ الوزير والسفير ناصر المنقور حين سأله اللواء المثقف سعيد الكردي -رئيس الجيش ثمّ الاستخبارات- عن نادٍ شبابي أقامه طلاب الجامعة حديثة الإنشاء آنذاك، واستفهم اللواء الأريب عن أفكار الشبان وتوجهاتهم؛ فنصحه المنقور بزيارتهم ليرى بنفسه دون أن يعتمد على سماع النقل وقراءة التقارير، وأخطره بأنه سيخبر الطلبة باحتمالية زيارته، وهو ما كان، وبعد زيارات متكررة ومفاجئة اطمأن اللواء المتأني، وحمى الله الشباب من ضياع العمر، ونفع البلد بعلمهم وإخلاصهم ونشاطهم، والحكاية واردة في ذكريات الناقد الكاتب عابد خزندار.

كما قرأت في مذكرات وسير عدد من السعوديين المبتعثين للدراسة في عشر الثمانينيات والتسعينيات الهجرية الموافقة لعشر الستينيات والسبعينيات الميلادية ثناء كبيرًا على معالي الشيخ الوزير حسن آل الشيخ الذي زار المبتعثين وطمأنهم نازعًا من قلوبهم بقايا الخوف والتردد من العودة إلى بلادهم على إثر أقوال أو أفعال صدرت منهم بحماسة أو بتفاعل آنيٍ مع حدث، وقد أخذ لهم العهود والمواثيق ألّا يحجزوا في مطار أو يحاسبوا بعد رجوعهم، فغنمت البلاد خدمات بنيها الذين صرفت عليهم الأموال للتعليم، وانقطعت حبال المتربصين، وصان الله الأسر من مواجع البعد، وفواجع الفراق، ولولا هذه الحكمة والرحمة لكانت لهم في الغربة أحاديث أخرى.

أيضًا حفظت شهادات بعض المفكرين والكتّاب مثل سيد العوامي ومحمد سعيد طيب وعابد خزندار مواقف معالي الشيخ القاضي والوزير ورئيس مجلس الشورى محمد بن جبير في المحاكمات التي عقدت لهم حتى لكأنه يلقنهم الجواب الذي ينقذهم ويخلّصهم مما هم فيه؛ فضلًا عن مخاطبته لهم خلال الجلسات بأطيب نداء، ولمعاليه أيضًا موقف من تهمة ألقيت على معالي الشيخ عبدالله النعيم حتى برأه الله منها، فما أعظم أثر العدل والانصاف في تسكين النفوس والجموع.

أما حين أصبح معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزيرًا للإعلام بعد أن عمل سنوات متعاقبة في وزارة الداخلية، فقد بادر إلى التصرف مع أيّ إعلامي رُصدت عليه تجاوزات أو اجتهادات غير موفقة، ثمّ يشعِر مسؤولي وزارته السابقة بحكم علاقاته والثقة الممنوحة له بأنه فعل ما يلزم، وبسبقه الحميد هذا حمى الإعلاميين من المواجهة المباشرة مع الأمن، والله يديم علينا الأمن، ويلهمنا التعامل الحصيف مع المستجدات والنوازل.

كذلك يروى عن معالي الشيخ الوزير ورئيس شؤون الحرمين صالح الحصين كتابته لوزارة الداخلية شافعًا لبعض رجالات العمل الخيري في الخارج، ومعلنًا تحملّه المسؤولية عن أعمالهم لأنّهم كان يأتمرون برأي الشيخ الحصين في الشأن الخيري والإغاثي؛ ولذلك أُنهي إيقافهم عاجلًا، وظهرت براءتهم وبراءة أصحابهم ومؤسستهم الكبيرة محليًا ودوليًا، والأمر لله وحده، وبيده العواقب.

ومما ينقل عن معالي الوزير والسفير د.غازي القصيبي حين وجه له سؤال في لقاء لندني إبان سفارته فيها، وحمل السؤال روح التشفي البغيض بأشخاص مشاهير بعد مدة يسيرة من السجال الكتابي والخطابي بينهم وبين القصيبي، فما كان من الرجل الكبير إلّا أن تسامى وامتنع عن المشاركة في الهجوم على من لا يقوى أن يدافع عن نفسه، وفوق ذلك أبدى ثقته في أن الإدارة المحلية سوف تنتهج أسلوب الصفح وطي الصفحة القديمة؛ تمامًا مثل مسالك الأب الحازم مع أبنائه البررة وإن زادت مشاغباتهم.

بينما تدّخل معالي الأستاذ السفير والوزير علي الشاعر في ساعة غضبة على معالي الأستاذ عبدالرحمن الهزاع بسبب تبكيره بإذاعة أوامر ملكية مهمة، واستفرغ الشاعر وسعه راجيًا إحسان الظن، وطالبًا استقبال رمضان القريب بالعفو والمسامحة، وليس هذا العمل الرؤوف بغريب على رجل يحمل بين جنبيه القرآن الكريم، ودرج بين يدي والد من كبار الحفاظ والمقرئين في مدينة النبي الأعظم.

أيضًا لم يجد معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري في نفسه غضاضة من أن يكون وسيطًا بين الحكومة وبعض المعارضين من أبنائها حتى رجع أكثرهم لبلادهم وأهاليهم، وأغلقوا بذلك جرحًا دائم النزيف، ولم يقف معاليه عند ذلك إذ ساعد بعض من يعيش في المنفى الاختياري أو الاضطراري حتى يتمكنوا من تدبير معيشتهم، أو العلاج، أو السكن في أماكنهم أو بعد قفولهم لمرابعهم، وكان صنيعه الوفي هذا على عين المسؤولين وبمساندتهم المادية والمعنوية.

ومما عرفته عن سيرة معالي الدكتور عبدالله نصيف أنه كان يهب لنصرة ذوي الحاجة ومن وقع عليهم ما يكرهون بسبب التعجل أو حتى الحمق، ومن ذلك أن امرأة دخلت عليه طالبة مساعدته لأخيها الذي تواصل مع قناة تلفزيونية تبث من لندن، فاحتجز لشهور بسبب مشاركته تلك السخيفة في مضمونها والخالية من أيّ تأثير، فاتصل من فوره بأحد كبار المسؤولين، ولم يفرغ من المكالمة حتى ضمن خروج الشاب الغر، وفي فكاكه صيانة له من التصلّب أو التشبع ببعض الأفكار التي تنتشر حيث كان.

وأكاد أجزم أن رجال الدولة هؤلاء عزموا على هذه الإجراءات من تلقاء أنفسهم مع أنهم يتفاعلون فيها مع حكام أقوياء حازمين بيد أنهم يجيدون تقدير آراء المخلصين، ومن فضل الله أن وفق جميع الأطراف المعنية لما يخدم البلاد وأمنها وتنميتها وتوافقها وسلامتها، وصارت هذه القصص مكرمة لأصحابها المباشرين لها أو الواقعة في أيامهم أو عليهم لأنها تطوف بنا مصطحبة معها الشجاعة والكرم والنصيحة والوفاء والعقل والرحمة والنبل، مثبتة أن الرجل الرشيد لايبتعد عن جادة الصواب في عمله ومشورته وتمييزه للآراء، والله يرحمهم ويغفر لهم.

ثمّ رحمة الله على الخليفة العادل المجدد عمر بن عبدالعزيز حين أعلن لمن يرغب في الاقتراب منه قائلًا: “من أراد أن يصحبنا فليصحبنا بخمسٍ أو فليفارقنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا على مالا نهتدي إليه من الخير، ولايغتابنَّ عندنا أحدًا، ولا يعرضن لما لا يعنيه”، وجدير بكلّ قريب أو وجيه أو مسموع الكلمة أن يفعل ولو واحدة من تلكم المكارم؛ فربّ مخلص يبوح برحيق عذب من مكنون صدره، أو بلباب صافٍ من نتاج عقله، ويكون فيه الخير والخيرة والبركات المتوالية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت يوم عاشوراء عام 1442

29 من شهر أغسطس عام 2020م 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)