سير وأعلام

جميل الحجيلان: أوليات وأناقة ووقار

Print Friendly, PDF & Email

جميل الحجيلان: أوليات وأناقة ووقار

ولد معالي الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان عام (1345= 1927م) لأسرة عريقة اشتهرت بالتجارة ضمن قوافل العقيلات، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول -جامعة القاهرة-، فهو بذلك من أوائل دارسي القانون في السعودية. وعمل في وزارة الخارجية فدبلوماسياً في السفارة السعودية بطهران مع السفير حمزة غوث، وفي كراتشي مع معالي الشيخ محمد الحمد الشبيلي الذي لفت الأنظار الرسمية إلى مواهب الشاب وقدراته، وهذه من بركات الرجال المخلصين الذين تركوا آثارًا في محياهم ومماتهم حتى أن الحجيلان قال عن رئيسه: هو أسطورة ملأت عليّ تصوري وخيالي قبل أن ألتقي به.

لأجل ذلك عين مديرًا عامًا للإذاعة والصحافة والنشر بمرتبة وكيل وزارة خلفًا لمعالي الشيخ المترجم عبدالله بلخير، وبعد أقل من سنة سمي سفيرًا في الكويت بعد استقلالها مباشرة أوائل الثمانينات الهجرية=الستينات الميلادية، وهو أول سفير سعودي فيها، ثمّ أصبح بأمر ملكي أول وزير للإعلام، وبعد أن أمضى فيها قريبًا من ثمانية أعوام صار أول وزير للصحة من غير الأطباء بعد الأمير عبدالله الفيصل، وبعد أربع سنوات انتقل للعمل سفيرًا في ألمانيا ثمّ في فرنسا التي ظل فيها لمدة عقدين عاد بعدهما ليكون أول سعودي يتولى أمانة مجلس التعاون الخليجي، وهو أول من فتح الباب واسعًا لثنائية الدبلوماسية والإعلام فتبعه  ثلاثة وزراء، وكذلك فهو من أوائل الذين تعاقبوا على منصبي السفارة والوزارة.

يتقن الشيخ مع العربية الإنجليزية والفرنسية، وقرأت فيما سبق أن الفرنسيين انبهروا بعذوبة لغته الفرنسية وجمال مفرداته إثر ظهوره أزيد من عشرين مرة على شاشات التلفزة الفرنسية معلقًا على مواقف المملكة إبان حرب تحرير الكويت، وكان له حضور بارز في فرنسا حتى أضحى عميد السلك الدبلوماسي فيها، ولما غادر باريس أقام له الرئيس جاك شيراك وعقيلته حفل وداع في قصر الإليزيه، ومنحه وسامًا استثنائيًا رفيعًا لا يمنح عادة للسفراء، ومع طول مقامه في باريس إلّا إنه لم يستصعب العودة إلى بلاده بصحرائها وشمسها فهي أرضه، ويعيش عليها قومه وفيها إرث أمته، والعجب لا ينتهي من قوم يقضون سنيات معدودات في أمريكا أو أوروبا ثمّ يستثقلون الرجوع إلى بلاد آبائهم وأمهاتهم.

ولا غرابة من وجود هذه المهارات والمشاعر لدى معاليه؛ فقد درس في دير الزور على يد الشيخ علي الطنطاوي، وفي القاهرة على يد د.عبدالرزاق السنهوري، وهما من هما في الفقه والقانون والأدب والفكر والانتماء الصادق، وفي شبابه المبكر أحب الخطابة ولم يتهيب منها، فألقى على الهواء كلمة أمام الملك فاروق عام (1366=1946م) في قصر عابدين ضمن استقبال الملك للطلاب على إفطار رمضاني، وفيما بعد ترجم بتمكن وثقة من الفرنسية إلى العربية بين الملك عبدالعزيز وضيف كبير زائر من إسبانيا مما لفت نظر الملك وإعجابه.

وهو ذو لغة رفيعة متقنة، وله عين تهوى الجمال، ومن لطيف الذّكريات المصريّة أنه كان يتعمّد زيارة زميليه في البعثة معالي الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل، ومعالي الشيخ ناصر المنقور، ويذهب قاصدًا كلّية الآداب ليسعد بلقيا صاحبيه، وتكتحل مقلتاه بمناظر صبايا الكلّية المليحات أو المستملحات في المقهى، وقلّما ينجو شاب من صبوة، فصاحبنا جميل في جلّ أحواله، وسبحان من أضاف الوصف الجميل إلى الصبر والهجر والصفح.

كما عمل معاليه مع جميع ملوك المملكة، إذ كان المترجم بين الملك عبدالعزيز ووفد إسباني عام (1952م)، وغدا وزيرًا في عهد الملكين سعود وفيصل، وسفيرًا في عهد الملكين خالد وفهد، وأمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي في عهد الملك فهد، وقريبًا من المشهد الحكومي في عهد الملكين عبدالله وسلمان؛ حتى أنه في استقبال الملك سلمان قبل عام من الآن لعدد من قدماء رجال الدولة والمثقفين كان الشيخ الحجيلان الأول المقدم فيهم.

وامتاز الشيخ بالصرامة الإدارية، والمتابعة الحثيثة، والقدرة على التأسيس وصناعة الرجال، يستبين ذلك من سجله الريادي في تاريخ الإعلام، ودعمه الكبير لمؤسسات وأفراد وأنظمة، واستقطابه لأيّ كفاءة مناسبة يرى فيها من النبوغ ما يفيد العمل، ولذلك أثنى على مواقفه د.عبدالرحمن الشبيلي في سيرته، ورشح أ.عبدالستار صبيحي للعمل مذيعًا بعد أن سمع صوته في مسرحية إذاعية، ورأى أ.علي داود في إذاعة جدة وهو “يمثل” دور المذيع الذي تعسر وصوله قبل مجيء وفد من ضيوف الإذاعة؛ فعرف الوزير أن الرجل ليس من أهل الإذاعة بيد أن أداءه راق له فضمه لطاقمها، وبالمقابل لم تعجبه لحون مذيع شهير فقرر منعه من العمل مذيعًا حتى يصلح لغته، وهي غيرة محمودة مفقودة!

أما في وزارة الصحة فتحفظ له سيرة د.محمد المفرح موقف الوفاء بالعهد في قصة لطيفة وموافقة عجيبة، ولأن وزارة الصحة مرتبطة بكل إنسان وتستدعي الحزم مع سرعة التفاعل فقد حاسب مدير عام إحدى المناطق على أخطائه، وتجاوز طبيب النظام فعوقب دون أن يفيده من كان يحتمي به، ورفض طبيب أمر النقل لمنطقة أخرى فكف يده عن العمل مباشرة، واستطاب طبيب المقام في مكة وتمنّع عن تنفيذ أمر العمل طبيبًا في الأفلاج كما هو متفق معه أصلًا، واستشفع بأمير إلّا أن الوزير رفض الاستثناء فصلب إدارته لوزارة تعنى بحياة الناس يقوم على ألّا يرضخ للوساطات.

وعندما أصيبت منطقة الأحساء الغالية بوباء الكوليرا ذات صيف لاهب، أدار بتأييد ملكي غرفة عمل ذات صلاحيات كبرى، فمنعت الخروج من بعض المناطق، وأوقفت استعمال بعض عيون الماء في النظافة، وحجبت تجارة بيع التمر مع أن الوقت هو ذروة موسمها؛ ولم تستجب اللجنة لمعارضة البعض في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولأجل استيعاب أكبر عدد من المصابين حوّلت اللجنة قصرًا ملكيًا إلى مستشفى.

كذلك ابتعث عددًا من الطلاب لدراسة علم إدارة المستشفيات كي يتفرغ الأطباء لمهنتهم الأساسية، وأكبر موقف أحد الأطباء لرفضه إسناد أيّ منصب إداري له وهو الآن اسم عالمي في تخصصه. وبعد أربع سنوات من لأواء الصحة استعفى معاليه من وزارتها كما قرأت دون أن أجد مزيد تفاصيل أو أتحقق من ذلك، ولا غرو فللشيخ تصريح معبر قال فيه: لم يدر في خلدي يومًا من الأيام أن أكون وزيرًا للصحة، فلم أكن ميالًا لعلم الأحياء والنبات والعلوم الطبيعية الأخرى، وكنت ومازلت أكره التفاصيل.

ثمّ أمضى أكثر من عشرين عامًا بقليل في العمل الدبلوماسي سفيرًا بأوروبا جلها في باريس التي لم تنسه وطنه وعروبته وإسلامه، وحين طلب منه العودة إلى دياره رمى العشرين عامًا التي عاشها في باريس الفاتنة وراء ظهره، وعاد كما ذهب، وكما كان عليه دائمًا، سعوديًا خليجيًا معتزًا بعروبته وإسلامه، ويذكرني موقفه هذا بصنيع اللواء علي بن عابدين زين العابدين الذي لم يطق البقاء في باريس؛ فاجتهد للرجوع منها في وقت كان الآخرون يتقاتلون للعمل هناك.

من طرائف حياة الرجل أن الدكتور عبد الرزاق السنهوري مازحه في امتحان التخرج بقوله: لو كنت أنا ابن سعود لقطعت رأسك؛ لأنك درست القانون الوضعي وأنت عائد إلى بلد يطبق الشريعة الإسلامية! وحين أجاب الطالب السعودي على سؤال صعب كرر السنهوري ذات التهديد معللًا ذلك بأن الطالب نجيب! ولم يحدث ما خشيه القانوني الكبير بل إن الرجل اُستثمر في مواقع رسمية عديدة.

وقدّم الحجيلان للإذاعة تعليقات سياسية قبل أن يتولى مسؤولياته الإعلامية، وإبان عمله وزيرًا للإعلام كتب تحت اسم مستعار مقالات سياسية نشرها في كتابه “الدولة والثورة” الصادر قبل نصف قرن، ومن أناقة معاليه ووقاره أن مقالاته المنشورة في الستينات خلال ذروة احتدام الخلاف مع اليسار العربي لا يوجد فيها كلمة نابية واحدة، ويفسر منهج الابتعاد عن الألفاظ المشينة بأن هذا أمر غير وارد في سياسة بلاده ولا في خلق القائمين عليها، لذلك كانت مقالاته نبضًا معبرًا عن الخوف من سياسات عربية خاطئة ومغامرات أدت بنا إلى سوء المصير كما يقول، ولربما أن هذه المقالات تحتوي على فكرة تستحق معها الخلود، وليست مجرد كلمات مرصوصة تذروها أيّ نسمة هواء فتطير بها ولا تترك لها عينًا أو أثرًا.

وللشيخ مقالة متينة منشورة في صحيفة الشرق الأوسط بعنوان “عندما يضعف الخوف الولاء للوطن”، وأتصور أنها تلخص عمق الفهم السياسي عند رجل الدولة المخلص، وجدير بمن يعنيه الأمر مراجعتها مرارًا، وهي تعليق على مقابلة مع مسؤول عراقي في قناة تلفزيون عالمية، بدا فيها المسؤول في غاية التناقض والضعف والاهتزاز، ويرجع الحجيلان سبب هذا الموقف المهين إلى خوف المسؤول من قول كلمة الحق التي تغضب الحاكم، والتباس المعنى أو تداخله بين الوطن والزعيم، ويختم الكاتب مقالته بحكم نهائي إذ يقول: “ولا أخال الحاكم العادل الحليم إلّا أن يساند مواقف الصدق من رجال اختارهم، وأودعهم ثقته وأمانيه، ولا أخال المسؤول الكبير إلّا ساعيًا في الخير لوطنه”.

ويصف الحجيلان ما رآه في المقابلة: “كان يبدو ذلك السفير، في حواره مع الصحافيين، وكأنه يدافع، مقهورًا، عن نظام الحكم على حساب الولاء للوطن، ليس عقوقًا بوطنه، بل فزعًا من سيد النظام، وامتثالًا لأوامره. كان يعلم أن أيّ خروج عما يوعز به إليه ينتهي بطرده، إن لم ينته بهلاكه! كان السفير المثقف يعلم في قرارة نفسه أنه يكابر، وأن في دفوعه مسخًا للحقائق، وأن العالم يعرف الحقيقة في ما يقول؛ إلا أنه كان، في موقفه هذا، صوتًا لسيده، ونكرانًا لذاته، وقبولًا صامتًا بالمعاناة، معاناة المثقف الذي يرغم على مواقف تهدم كل ما بنيت عليه حياته من قناعات”.

وعلى الصعيد الفكري والثقافي ألقى محاضرة قيمة في دارة العرب بعنوان “نحن والغرب..الظالم والمظلوم” أشار فيها لافتقار العرب إلى وحدة الخطاب مما أربك علاقتهم مع الغرب، وذكر أن المكتبات ومناهج التعليم في الغرب حفلت بمؤلفات عن الإنسان العربي تثير النفور منه؛ فينشأ الغربي على فهم ظالم سقيم للعربي ودينه، وخلص إلى أنّ الغرب يخاف من الإسلام ويرى في أحكامه نقضًا لكل ما بنيت عليه حضارتهم، ومكوّنات حياتهم، والمحاضرة جديرة بأن ينصت إليها، وأظنها محفوظة على اليوتيوب، وربما تكون ترياقًا شافيًا لكل مفتون بالغرب ومفتونة!

من آرائه السياسية أن الانقلابيين لا يكتفون بالسطو على إرادة الشعوب والعبث بمقدراتها فقط؛ بل يفرضون على شعوبهم فهمًا مزورًا للتاريخ، وهو إجراء مصيره الفشل كما نشاهد وتشهد الوقائع قديمها وجديدها، ومن بصيرته الإدارية والسياسية أن قال لموظف في أمانة مجلس التعاون الخليجي وهو كاتب صحفي: عليك الاختيار بين الوظيفة أو مواصلة الكتابة في الصحف؛ ذلك أن الوظيفة تحتمّ أن يكون شاغلها محايدًا ولا يتناول الشؤون السياسية في الكتابة؛ لأنه يمثّل عدة دول وليس دولة واحدة فقط، ومن دقة تقييمه للرجال وفهمه لطبيعة المناصب أن وصف زميله معالي الشيخ حسن آل الشيخ بأنه في أعماله وأقواله وتفاعله مع الناس يزيد في حب المواطن لحكومته، ويأسف أبو عماد وفيصل ووليد ومنى لعجز الإعلام السعودي الخارجي عن نقل رسالة السعودية وضخامة إنجازاتها الى الرأي العام.

ولمعاليه موقف طريف إبان عضويته في مجلس الوزراء؛ ذلك أنه ناقش وزير المالية الأمير مساعد بن عبدالرحمن بخصوص كلّية البترول في الظّهران، وأبدى معالي الوزيرين عبدالرحمن أبا الخيل ود.يوسف الهاجري تأييدهما للحجيلان خلال المداولات، وعندما أتاح الملك فيصل الفرصة للتّصويت، انحاز الجميع لرأي وزارة المالية باستثناء الشّيخ إبراهيم السويّل وزير الزّراعة آنذاك، وبعد الجلسة قال جميل لعبدالرحمن: لم صوّت ضدّي؟ فأجابه: وهل أنا مجنون كي أصوّت ضدّ الحكومة! فقال جميل: الحكومة أنا وأنت! فعلل أبا الخيل موقفه بأن إرضاء وزارة المالية-آنذاك- أمر لا مناص منه!

ومع أن الرجل استوزر مدة اثني عشر عامًا إلّا أنه لا يُسمع ممن زامله أو حدث له موقف معه إلّا الثناء والذكر الحسن، وأعجب من ذلك أن الحجيلان كان على رأس إنشاء وزارة الإعلام وإدخال التلفزيون والتوسع في الإذاعة وتحويل الصحافة من ملكية الأفراد إلى نظام المؤسسات، ثمّ تعديل طريقة عمل الأطباء، ولجميع هذه الأعمال والإجراءات آراء متباينة؛ بيد أن أحدًا من المعارضين لم يجرح الرجل أو يثلمه أو يناله بسوء، وعندي أن السبب يعود بعد توفيق الله إلى أنه فتح بابه للجميع كي يسمع منهم ويناقشهم، أو يشاركوا في العمل، ولم يصادم المجتمع وأصحاب المصلحة، أو يعاملهم بصلف، والملمح الأبرز أن الرجل لم يتفاعل مع مجتمعه وعاداته الصحيحة والخاطئة وما بينهما، أو مع مصالح بعض فئاته بنوع يشبه الغلّ أو التشفي؛ بل رائده تحقيق المصلحة التي يراها.

لقد أضحى الشيخ جميل أيقونة على رجل الدولة الوقور والأنيق مظهرًا ولفظًا وعملًا، ومثالًا واضحًا على العمل المنجز الهادئ، ونموذجًا لكرم المحتد وعراقة المنبت، والأمنية الآن أن يعجل معاليه بنشر سيرته التي استبشرت بقرب ظهورها أوساط كثيرة، وأتصور أنها ستكون من درر السير المحلية والعربية، فلصاحبها رونق بياني، وخبرة طويلة، وصراحة غير مؤذية، وعمر مديد جعله الله مختومًا بالإحسان والرضوان وتحقيق كل المنى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 15 من شهرِ ربيع الأول عام 1441

12 من شهر نوفمبر عام 2019م  

Please follow and like us:

14 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)