طبيب من الزلفي إلى برلين
أضاف الطبيب محمد بن عبدالله المفرح تجربة مهنية للمكتبة السعودية حين نشر سيرته الذاتية بعنوان: من الزلفي إلى برلين:سيرة طبيب، صدرت الطبعة الأولى منها عام (1440=2019م) عن دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع، وتقع في (238) صفحة مكونة من إهداء فشكر وتقدير ثمّ تقريظ فالمقدمة التي يعقبها سبعة فصول ثمّ ملحق بالوثائق، وأخيرًا سيرة ذاتية مختصرة للمؤلف.
يتحدث الفصل الأول عن البيئة والبداية، ويختص الثاني بالانتقال إلى الرياض، ويروي رحلة التعليم الخارجية الأولى في الفصل الثالث، وأما الفصل الرابع فعن العودة من رحلة الابتعاث، بيد أنه في الخامس كرر الرجوع إلى ألمانيا مرة أخرى، وجعل السادس حول العمل في وزارة الصحة، وختم الفصول بسابعها في القطاع الخاص، وألحق في نهاية الكتاب سبعة عشر وثيقة وصورة لها تاريخ معه.
أهدى المؤلف الكتاب لوالديه وزوجه وأبنائه طارق وأنس وأيمن وليلى ومنى، ثمّ شكر الشيخ د.محمد بن إبراهيم الحمد الذي دفعه لكتابة ذكرياته وراجعها وكتب لها تقديمًا شريطة ألّا يغير المؤلف حرفًا واحدًا مما سيخطه الشيخ، كما شكر د.بدر العبدالقادر وَ أ.محمد السيف على مراجعتهما الكتاب، وشكر ابنته ليلى التي نقلت النص الورقي إلى نسخة إلكترونية.
أما الشيخ د.محمد الحمد فرجع في تقريظه الذي كتبه بعنوان: الدكتور محمد المفرح( مروءة وزيادة) إلى عام (1402) وما بعده إبان مرافقته لوالده في مستشفى الشميسي وهو طالب في أول سنة من المرحلة الثانوية، وهي الفترة التي عرف فيها د.المفرح، ولاحظ تفانيه في خدمة المرضى حتى لو اضطر للبقاء بعد نهاية وقت العمل الرسمي، بل كان يطمئن المرضى وذويهم بأنه لن يغادر العيادة قبل رؤيتهم جميعًا كي لا يقلقوا ولا يتدافعوا.
واستطرد الشيخ د.الحمد في تقريظ الكتاب وصاحبه بما يستحقان، وجاء بفوائد جمة نثرًا وشعرًا كعادة الشيخ الكاتب في مقالاته وأحاديثه ذات الفوائد الحسان الغزيرة، ولفت د.الحمد النظر إلى أن المؤلف هو أول طبيب في بلدته فيما يعلم، وذكر إلحاحه على المؤلف لتدوين سيرته حتى لا تضيع وكي تفيد الأجيال. وحين وافق الطبيب المفرح على الكتابة اشترط أن يقدّم له الشيخ ففعل كما سلف، ومن اللطيف أن هذا الكتاب “مزلفن” في عنوانه ومؤلفه ومقرظه ومراجعه وناسخه وناشره فضلًا عن كثير من محتواه حول المكان والإنسان، ولا غرابة أو ملامة في ذلك البتة.
ولد المؤلف في السادس من رمضان سنة (1360) في بلدة الزلفي المكونة من البلاد، والعقدة، وعلقة، وقرى أخرى، ووالدته هي الحافظة مريم بنت أحمد السكران، وإلى بلدته ينتسب ثلاثة وزراء في تاريخ مجلس الوزراء السعودي هم وزيرا النفط الأول معالي الشيخ عبدالله الطريقي، ومعالي المهندس خالد الفالح، ووزير النقل فالخدمة المدنية معالي الأستاذ سليمان الحمدان، بينما اجتمع في مجلس وزراء الكويت خلال فترة واحدة ستة وزراء ترجع أصولهم للزلفي لكثرة أهلها المستقرين هناك.
عرج الكاتب على تاريخ التعليم في الزلفي منذ أول مدرسة افتتحت فيها سنة (1367)، وأشار لشخصيات جديرة بالتوثيق مثل الشيخ محمد المعتق، والشيخ عبدالرحمن الفالح، والشيخ المربي محمد الذييب، والأستاذ المربي محمد الملحم، والرويبخ حمود الطريقي صاحب الأوليات والبراعة الهندسية، ومن المهم إضافة لذلك توثيق تجربة الممارسين الصحيين المتطوعين للزلفي من أهلها، ومطوعة البنات، وقصة طريق “زليغيف” المعبد بواسطة الأهالي في رمضان سنة (1388) بعد عجز وزارة المواصلات عنه، واسمه يوهم بأنه في ألمانيا؛ بينما هو في الزلفي وله قصة عجيبة لم يكد يصدقها الملك فيصل حتى وقف عليها الأمير نايف بنفسه وتحقق منها.
امتاز د.المفرح بجمال الخط؛ فاستثمره بكتابة المعاريض والبرقيات والرسائل أو قراءتها للآخرين بمقابل أو بدون في الزلفي أولًا ثمّ في الرياض، ومن الطريف صعوبة قراءة الشعر الشعبي عليه، وما يرد في مراسلات الأزواج من رموز لم يكن يفهمها الطفل الصغير كقول إحداهن لزوجها: إن أطفالها لا يطيقون الصبر على غياب أبيهم بعد أن طال!
وفي طفولته ونظرًا لسفر والده كان يذهب وحيدًا لصلاتي العشاء والفجر مع شدة الظلام وكثرة الكلاب، وما أحسن ربط الناشئة بالمساجد، كما اتخذ بسطة يبيع فيها ويسامح من لم يجد المال للسداد، وهو سلوك استمر معه حتى في عيادته، وله مع الطب قصص منذ صباه سواء بوفاة بعض أشقائه الأطفال، وكثرة اجتهادات طب المجالس، وأمنيته وهو في الصف الرابع أن يصبح طبيبًا والتشجيع الذي ناله من معلمين مصريين، وما أعظم أثر المعلم.
كما وصف التجارة في بلدته، إذ يضم سوقها مئة وتسعة وعشرين دكانًا، وفيها اكتفاء شبه ذاتي من البضائع، مع عمالة محلية مئة بالمئة حتى في إصلاح الطواحين ومكائن الزراعة والسيارات والساعات وأعمال البناء والنجارة والحدادة والخرازة والدِلالة من الجنسين دون وجود خادش للمروءة أو مخالف للديانة في الظاهر، ولم يغفل عن ألعابهم الشعبية إذ عرّف بها وشرحها، وربما نعجب لو عرفنا أن مصارعة الثيران ليست رياضة إسبانية فقط؛ بل زلفاوية أيضًا!
ونقل أنه شاهد أول سيارة بالزلفي في نهاية الستينات الهجرية، ووصف بدقة رحلات العناء بالسيارة منذ ركوبها، مرورًا بما يعترضها من أعطال أو رمال إلى حين وصولها للرياض، وروى خبر زيارة الملك سعود للزلفي عام (1373) ومشاركته فيها بإلقاء قصيدة حصل لأجلها على مكافأة قدرها مئتا ريال أنعشت أسرته، وجعلتها قادرة على شراء ما تحتاجه.
ثمّ انتقل عام (1374) إلى لرياض وكانت مدينة مختلفة عن بلدته في المباني والأسواق والتجارة ومحلات الحلويات والمطاعم والأيسكريم التي ينادي عليها فتى من الحجاز الشريف قائلًا: اللي ما يشتري منّو ينكسر سِنّو! وهناك درس المتوسطة وبسط عصرًا لكتابة المعاريض بأجرة، وأصبح الأول مع زميل آخر على الرياض، والثامن مكرر على المملكة، ولحاجته للمال عمل في وزارة الصحة عام (1378)، وحظي بإعجاب معالي الوزير د.حسن نصيف وتشجيعه ودعمه.
وتيسرت له بعد إنهاء دراسة الثانوية ليلًا البعثة إلى ألمانيا لدراسة الطب فسافر لذلك عام (1381=1961) عبر مصر وحل ضيفًا على بلديه المبتعث معالي د.حمود البدر، ثمّ سافر لألمانيا عبر إيطاليا ولفتت نظره روما بمبانيها التاريخية، وحين وصل إلى ألمانيا ابتهج ناظراه ببساطها الأخضر الذي يكاد أن يغطي كل الأرض، وهناك التحق مع زملائه الذين سبقوه، وسكن مع أسرة لاكتساب اللغة، ثم أصبح طالبًا جامعيًا.
من طرف الرحلة الألمانية الأولى ومواقفها الرعد والبرق الصناعيين، وسرير تطاير ريشة بسبب ترجمة حرفية خاطئة من الملحقية الثقافية فقد الطالب على إثرها سكنه، وانكسار حوض مغسلة بسبب الوزن الثقيل، ولحم السجق الذي أخبرهم مغربي أنه من خنزير، وأسئلة الألمان عن الإسلام وفلسطين والصحراء والجمل والمرأة وقصص ألف ليلة وليلة، وفيها درس ثمين خلاصته ألّا نسرف في مأكل أو مشرب، وليت هذه الثقافة الأصيلة في ديننا أن توجد في المجتمع بعيدًا عن دعاوى الكرم والضيافة.
ومن طرائف الألمان على التخصصات الطبية، أن طبيب الباطنة يعرف كل شيء ولا يستطيع عمل شيء، والجراح لا يعرف أي شيء بيد أنه يفعل كل شيء، وطبيب الجلدية لا يعرف أي شيء ولا يعمل أي شيء، وطبيب التشريح يعرف كل شيء ويعمل كل شيء ولكن بعد فوات الأوان، وأما طبيب النساء فهو الذي يجلس أمام سرير الولادة ينتظر وينتظر، ولاشك أن كلام الأقران في بعضهم لا يؤخذ كما هو.
وله هناك تجربة بعد حادث مروري وإصراره على المحاكمة من باب حب الاستطلاع واختبار حرص أهل الدار على تطبيق القانون، مع أن الذين معه وشرطة المرور جزموا بأن الخطأ عليه كاملًا في واقعة الاصطدام، إلّا أن المحكمة أنصفته بعد أن سمعت حجته وطريقة وقوع الحادث، وخرج بريئًا تمامًا، وما أكمل العدل وأكبر أثره في تحقيق الطمأنينة والأمن والإبداع.
كما روى ممارسته لأعمال طبية للحصول على دخل إضافي يواجه به غلاء المعيشة، وذكر أن الكية من خلف الرأس علامة مسجلة لأهل السعودية وليبيا يعرفون بها بعضهم مباشرة، وبحرص المسلم وشفقة الناصح أكد حاجة المبتعثين والمغتربين للفتاوى في الأحكام والنوازل، مع معرفة كيفية مقاومة المغريات؛ ولذا يدعو لتهيئة الطلاب قبل ابتعاثهم، وإعادة النظر في العمر الذي يمكن أن يكون مناسبًا للابتعاث؛ وهي تجربة خبير، ونصيحة حكيم، فهل تجد آذانًا واعية؟
وبعد فراغه من الدراسة في المرحلة الأولى ذهب إلى بريطانيا لدراسة اللغة الإنجليزية، ثمّ عاد لألمانيا ودرس دبلومًا في أمراض المناطق الحارة، وأثنى على حرص معالي الشيخ حسن آل الشيخ وسعيه الدؤوب لإنجاح تجربة الابتعاث، وتذليل الصعوبات التي تواجه لطلاب إبان زيارته التفقدية لهم، وشكر لمعاليه مقابلته الماتعة له في الرياض، واستماعه لمقترح المفرح الذي نجم عنه تكفل الوزارة بمصاريف دراسة المبتعثين إلى ألمانيا اللغة الإنجليزية لمدة ستة أشهر.
ثمّ قفل مع خمسة زملاء مبتعثين في رحلة برية جريئة ومدهشة لمدة ثلاثة أسابيع بسيارتين عبروا فيها الأراضي من النمسا إلى مركز حالة عمار حيث استضافهم أميرها الشيخ بندر الخريصي وهو بلدي المؤلف. وحين باشر مهامه رفض عرضًا بالعمل مديرًا للشؤون الصحية في إحدى المناطق ومارس مهنته في مستشفى طلال-مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي لاحقًا- ووافق بعد ذلك على إدارة الشؤون الصحية بالقصيم شريطة حصرها بعامين يبتعث بعدهما، وسرد قصة إضراب أطباء مستشفى الرس وكيف تعامل معهم.
وبعد أن ضمن له زميله السابق عليه د.فالح الفالح القبول في تخصص الباطنة بألمانيا كتب طلبًا للوزير الشيخ جميل الحجيلان لتحقيق وعده له إبان قبوله إدارة الشؤون الصحية في القصيم، وكان المفرح ينوي زيارة قريبه المريض في الشرقية ثمّ يتوجه للوزير في الرياض ليسلمه طلبه؛ بيد أن إرادة الله صرفته لفعل عكس مخططه؛ فذهب للوزير أولًا وأخذ منه الموافقة الكتابية على الابتعاث وأرسل الطلب لوزارة التعليم العالي، ثمّ ركب سيارته ليكمل سفره إلى الشرقية والمفاجأة كانت بإذاعة خبر إعفاء الحجيلان من وزارة الصحة في نفس اليوم؛ فحمد الله على تغييره مسار رحلته في آخر لحظة.
لذا سافر في شوال عام (1394) إلى ألمانيا للمرة الثانية، وكان ينوي التحويل من تخصص الباطنة إلى الأطفال فلم يتيسر له وأكمل في الأمراض الباطنية، وسرد شيئًا من المعلومات الجغرافية عن ألمانيا، إضافة إلى خبرهم مع البطاطس، ولا أتصور أن الألمان يجلدون ذواتهم ومجتمعهم وقدماءهم بذكرياتهم مع البطاطس خلافًا لبعض الشعوب التي تتفنن في إهانة ماضيها وصعق ثقافتها بسياط أحد من شفرة سيف البغي والظلم أحيانًا على وقائع لدى غيرهم مثلها وأزيد!
فأمضى هناك ست سنوات عاد بعدها لبلده وعمل في وزارة الصحة التي رفض وزيرها معالي د.حسين الجزائري طلب انتقاله لكلية الطب، وأدار مستشفى الشميسي مع مزاولته لمهنته يوميًا، وختم الكتاب بذكر تجربته بعد التقاعد والاكتفاء بعيادته الخاصة، وعرج على القطاع الطبي وتمنى التكامل بين القطاعين الحكومي والخاص، ونشاركه الأمنية مع ثالثة هي دخول القطاع الوقفي في هذا المجال كي لا يكون المريض سلعة في قطاع أو معدوم القيمة في قطاع آخر، والمقصود من القطاع الوقفي أن يعالج المريض بمقابل معقول دون أن يكون مجانيًا دومًا كالحكومي، ودون أن يكون تجاريًا جشعًا كأغلب القطاع الخاص.
من عبر الكتاب أن الاجتهاد وحده لايقي من الصفعات، وعظم فائدة التحضير المسبق للدروس وأثره في التفوق حتى لو كان الطالب أقل ذكاء من أقرانه، وفيه قصص عن التكافل بين المبتعثين، ولمحات جميلة للوفاء والأمانة والحفاظ على الواجبات الدينية والأعراف المرعية، وتقديم الخدمة قدر المستطاع، وحسن تمثيل البلد وأهله، مع اليقظة والحذر، والجدية.
ولو أضاف المؤلف لسيرته النبيلة المناسب من المعلومات الأسرية، ومجموعة من المواقف مستلة من كتبه السابقة عن طرائف عيادته، وطب المشعوذين، وتاريخ مستشفى الشميسي، لزادت هذه المعلومات والمواقف من حيوية السيرة الجميلة، وجمعت الفوائد والتشويق للقارئ عامة، وللعاملين في القطاع الصحي على وجه الخصوص، وآمل أن يكون ذلك في أقرب طبعة قادمة مع تصحيحات نحوية ولغوية وتاريخية يسيرة ولكن لابدّ منها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 10 من شهرِ ربيع الأول عام 1441
07 من شهر نوفمبر عام 2019م
4 Comments