سير وأعلام

الطريقي: وزير الشّعب والوطن!

الطريقي: وزير الشّعب والوطن!

منذ طفولتي وأنا أسمع عن معالي الشّيخ عبدالله الحمود الطّريقي أوّل وزير نفط في المملكة العربيّة السّعوديّة، إحدى أهم الدّول فيما يرتبط بالنّفط المستخرج والمخزون، والله يلهمنا الإفادة من هذه الثّروة التي جعلت البلاد قبلة اقتصاديّة إضافة إلى كونها قبلة دينيّة وديارًا مقدّسة.

ومع اختلاف الرّوايات حول بداياته وتعليمه، إلا أنّنا نلمح عاملًا مشتركًا تمثّل في صدق فراسة عدد من رجال الدّولة بنجابته، ومساندتهم له مع متابعته. ويبرز في ذلك الملك عبدالعزيز، والشّيخ عبدالله السّليمان بعد أن حضر الطّفل الطّريقي مجلس الملك كما يشاع، والشّيخ عبدالله الفوزان في الهند، والشّيخ فوزان السّابق في مصر، دون إهمال جهود آله وآخرين في الزّلفي والكويت.

امتاز الطّريقي بالجديّة، فبدأ مشوار التّعليم صغيرًا في بلدته والكويت، ثمّ سافر وهو دون البلوغ إلى الهند فمصر، وتفوّق في دراسته القاهريّة ولم يغرق في مدنيّة مصر المغايرة لصحاري نجد، حتى أكمل طريقه في سبيل العلم بأمريكا، وأصبح أوّل سعودي يبتعث لدراسة الهندسة الجيولوجيّة، وكان الفتى العربي يحفر الصّخر بيديه، ولا غرو بعد ذلك أن يسمّي نجله الأكبر صخرًا مع أنّ والدته أمريكيّة.

اكتشف أبو صخر حقيقة أمريكا إبّان دراسته فيها، وعانى من العنصريّة والاستعلاء؛ فلم ينبهر بحضارتها، أو ينسلخ من موروثه، بل زاده هذا الصّلف الأمريكي اعتزازاً بحضارته، وهو ما تنامى معه بصورة لافتة إلى آخر أيّامه، والحمدلله على حسن الختام، وطيب السّيرة.

رجع الطّريقي لبلاده موفور النّشاط متدفق الحيويّة، فاحتضنته وزارة الماليّة بإيعاز ملكي، ثمّ أرسل إلى الدّمام كي يراقب أعمال شركة أرامكو، وهذا عين ما كانت تحذره الشّركة، إذ وصل تقرير مرسل من دبلوماسي أمريكي في السّعوديّة إلى واشنطن، يعلن فيه أنّ أرامكو تترقّب عودة الطّريقي بحذر وتوجّس!

وهذه خطوة حكيمة اقترحها الملك عبدالعزيز وساندها ابناه القريبان الأميران -الملكان فيما بعد- سعود وفيصل، ونفذّها وزيره الأثير الشّيخ السّليمان. وهي لحظة مفصليّة في تاريخ العلاقة مع شركة أرامكو، ولم يألوا الطّريقي جهدًا في خدمة بلاده، ولم يأبه بسخرية الأمريكان من مقترحاته علانيّة ودمغها بالسّطحيّة، بينما يعترفون بوجاهتها إذا خلوا لبعضهم، وهذه شنشة أعرفها من أخزم؛ إذ لا يكذّبون الصّادق في نفوسهم، ولكنّهم يجحدون الآيات الواضحات، ولازالوا أفّاكين غششة، مصّاصي أموال ودماء!

حاول الأمريكيون استمالته بالمال، وإحداث شرخ في أمانته ولو بثقب يسير فامتنع، فشنّوا عليه حملات التّضييق، والمناكفة، والتّشويه، ووصفوه بكلمات نابية مقذعة، وحرصوا على تبغضيه للإدارة المحليّة، وجعلوه موضوعًا تفاوضيًا، ولا أعجب من صنيعهم فتاريخهم معروف، وإنّما أستغرب ممّن يثق بهم، ويظنّهم في غاية النّزاهة وكتم الأسرار، وحقيقتهم خلاف ذلك خاصّة مع الأمم التي يحتقرونها في ثقافتهم، ولا يرون بأسًا في استنزافها ثمّ إبادتها حين تنعدم فائدتها.

ولم تفتّ هذه الخزايا الأمريكيّة في عضده، واستمر يعمل بنفس المبدأ، وبأضعاف الجهد، حتى تجرّدت أمامه الحقائق، فرفع صوته مطالبًا بنصيب مناسب من أموال النّفط، واحتج على إهمال الغاز وهو ثروة أخرى جديرة بأن تستثمر، ووقر في روعه أنّ يومًا سيأتي تؤول فيه الصّناعة النّفطيّة وثرواتها خالصة لبلاده من دون الغرباء.

كما سعى لكسر انفرادهم بالقرار حتى أصبح مع الشّيخ حافظ وهبة أوّل عضوين سعوديين في مجلس إدارة أرامكو بعد عقد من المطالبات والصّدود، وتشامخت آماله لصناعة البتروكيماويات، ومعامل التّكرير، وتوظيف الأموال محليًا، وإدارة سعوديّة كاملة للشّركة، مع امتلاك تام للقرار فيها، وكثير منها تحقّق فيما بعد.

ولأنّ نظرته مستقبليّة حرص على اصطفاء نجباء الطّلاب وابتعاثهم لدراسات نفطيّة، وكانت له معهم صلات تشجيعيّة، ومساع لتسهيل أمورهم النّظاميّة، وليس ببعيد أن يكون خلف إنشاء أوّل مؤسّسة جامعيّة في الظهران، افتتحت عقيب رحيله عن العمل الحكومي مباشرة، وتعاظمت حتى أصبحت جامعة متخصّصة بالنّفط والصّناعة وشؤونهما، والتّعليم مع التّقنية قضيّتان شغلتا فكره وجهده فكانت الثّمرة.

ظلّ معاليه موظفًا حكوميًا لمدة خمسة عشر عامًا فقط، ومع ذلك فمنجزاته لها أعظم الأثر في التّنمية والاقتصاد، إذ وازن العلاقة مع الشّركات الأجنبيّة، وجمع الدّول المصدّرة في منظمّة تواجه توحش الرّأسماليين ونهبهم، وكوّن طبقة من الموظفين والدّارسين أصحاب الاختصاص، وبعضهم على قيد الحياة الآن.

كما نادى بالإفادة من الغاز المهدر حرقًا، وحماية البيئة من آثاره، وعلى يديه ولدت أوّل وزارة نفط سعوديّة، وبحضوره النّزيه القوي حمى ثروة البلاد والأجيال في منطقة عريضة من العالم، ونعمت بلاد ومواطنوها بموارد ماليّة لم تكن في الحسبان، وحفظت من أن تؤول إلى جيوب لا قيعان لها!

ومن أخبار الطّريقي الّلافتة، أنّه حين أراد معرفة أسرار شركات النّفط، سافر لدول عديدة منها فنزويلا، وللسّفر معه حكاية حتى قيل إنّه لا ينزل من الطّائرة، ومن فنزويلا تحديدًا أمسك بمعاقد الأمر، والسّبب يعود باختصار إلى أنّه ذهب إلى كاراكاس لاكتساب خبرة نفطيّة، ولم يتلّهى باستجلاب آداب القوم وفنونهم وتراثهم مع كثرتها وجمالها.

وبعد أقلّ من سنتين على تسميته وزيرًا للنّفط، أعفي من منصبه في تغيير حكومي جوهري وشامل، ومع وقوع شيء من الخلاف في وجهات النّظر بينه وبين أطراف حكوميّة أساسيّة، إلّا أنّ الرّجل الكبير آثر الابتعاد، ولم يذهب لبلاد متخاصمة مع الرّياض؛ كي لا يكون مطيّة أو ورقة ضغط، ولم يقفز على مجده الإعلامي الدّولي-المحسود عليه- للإضرار ببلده، أو الانتقام لنفسه.

وامتنع عن التّصريحات والبروز الإعلامي، ونأى بنفسه عن التّعليق على الأحداث المحليّة، واكتفى بتقديم استشارات نفطيّة، وإصدار مجلّة تخصّصية، والمشاركة في إنشاء مركز فكري، وإذا سأل عن إعفائه أجاب بأنّه قرار يحترمه ويفهمه، وفيما بعد تمنّى لو وجد من يملي عليه سيرته؛ وليته فعل.

أمّا عمره الوزاري القصير فيُختصر بأنّه استحق المنصب بأهليّة العلم، وجدارة العمل، وصدق الانتماء، وهو نزيه برئ الذّمة الماليّة، يقول ما يعتقده، ويصنع المفيد حالًا أو مآلًا، وليس لديه استعداد لغضّ الطّرف عمّا يراه فسادًا أو مخالفة للمصلحة الوطنيّة، وليس عنده من الوقت ما يكفي لتدبيج المدائح وقرع الطّبول.

وبهذا النّهج العملي الواضح أسّس الطّريقي المعنى الأصيل للوطنيّة، وفضح خلافها، فكلّما كان ذو المنصب أو الثّقافة فارغًا من العمل المتقن، خاليًا من الإنجاز الإبداعي، زاد ضجيجه بالمديح المبالغ فيه؛ ليملأ فراغ كسله وعجزه، أو يستر عجره وبجره، ويخدع الآخرين.

ونالت سهام التّصنيف أبا صخر، فوصم بالشّيوعيّة، وهي آنذاك “مكارثيّة” لمن يراد شيطنته وإقصاءه، وتهييج الرّأي العام ضدّه، وهو برئ من هذه الفرية، ففي أوجها سأله شيوعيون عرب هل نرفع الكتاب الشّيوعي؟ فقال: بل ارفعوا القرآن الكريم!

كما رمي بالقوميّة، مع أنّ عروبته سابقة على النّاصريّة التي لم يرتبط بها، ولم يجعل من القاهرة مستقرًا لمنفاه وهي متخمة بالقوميّة آنذاك، وفوق ذلك لم يكن فكره القومي من النّوع الضّيق المصادم للإسلام، وفي كلماته ولقاءاته تزامن وتجاور بين العروبة والإسلام حين يذكر الأمّة، وما أكثر استشهاداته بالقرآن الكريم، والسّنة الشّريفة.

وبعد أن قضى قريبًا من عقدين خارج البلاد، عاد إليها تحفّه عناية ملكيها خالد وفهد، وتحوطه متابعات الأميرين عبدالله وسلمان -الملكين فيما بعد-، ويحتفي به أهله ومحبّوه، ويتنقّل ما بين الرّياض والزّلفي حيث مرابع صباه، ومزرعته التي شغلت تفكيره وربّما كانت دليلًا على تغيير رأيه في الزّراعة، ولم يترك حتى مع شيخوخته ركوب الخيل، ومن بركتها نبل نفس فارسها، وعلو أخلاقه، وعزّة نفسه.

ثمّ ختم أبو صخر حياته في القاهرة، وأمضى سنواته الأخيرة ما بين حديقة وكتاب، وصلاة جماعة منتظمة مع رفع الآذان ومتابعة شؤون المسجد، والتقاء بالأصحاب والأحباب، وقرب من ابنته وأسرته، وإنّ مردّه الجميل إلى الله لمن التّطور الطّبيعي في حياة الإنسان، وليس بسبب خيبة أمل وانكسار، فالرّجل مات واقفًا، ويكفيه فخرًا صموده الأسطوري في وجه شركة ضخمة.

ورحل معالي الشّيخ عبدالله الحمود الطّريقي عن الدّنيا لتبدأ سلسلة من المقالات والمؤلفات عنه بأقلام المثقفين والكتّاب من أبناء بلدته، وزملائه، ورفقائه، إضافة إلى آخرين من عرب وأجانب عرفوه أو سمعوا عنه، ولازلنا ننتظر صدور الجديد في القريب الآتي كما علمت من اقتصادي صاحبه زمنًا.

وستذكره الأجيال بأنّه الذي غيّر الصّفقة كي لا نكون مثل أبناء الهنود الحمر، وخدم بلادًا طالما انتظر التّاريخ قيامها كما يعبّر، وحمى الله به مائدة الشّعب من القطط البيض والسّود ومن فئران الأزقّة! وترك خلفه وعيًا نفطيًا، ووعيًا وطنيًا ملّخصه أنّي لست ضدّ بلادي حين أقول رأيي؛ بل قلق عليها، ساع لمصلحتها، والله يجعله هانئًا في برزخه، آمنًا في مرقده ويوم مبعثه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأربعاء 08 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440

    13 من شهر فبراير عام 2019م 

Please follow and like us:

12 Comments

  1. احسنت ياأستاذأحمد ماذكرته عن أبي صخرقليل من كثير ونسأل الله ان يجزيه خير الجزاء عن دينه ووطنه. ولك جزيل الشكروالتقديرم

  2. زاره مجموعة من مثقفي الرياض في مزرعته، فلما حان وقت الصلاة توجه بهم إلى مسجده في المرزعة، وتقدم أحد المثقفين فصلى بهم، غير أن أبا صخر لم تعجبه صلاة الإمام فقد وجده سريعاً فيها، فلما فرغوا منها أبدى أبو صخر ملحوظته على الإمام ثم تيمم بهم وأعاد الصلاة!

    رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وأسأل الله أن يحسن خاتمتنا جميعاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)