خبراء الكذب والخداع!
عنوان هذا الكتاب معبر جداً: المثقفون المزيفون: النصر الإعلامي لخبراء الكذب، تأليف باسكال بونيفاس، ترجمة روز مخلوف، وصدرت الطبعة الأولى منه عن دار ورد عام (2013م)، وتقع في (176) صفحة من القطع المتوسط. وقد نُشر بالفرنسية عام (2011م)، وحقق مبيعات قياسية مع أن وسائل الإعلام تجاهلته، ورفضت نشره أربع عشرة دار نشر فرنسية، وتقوم فكرته على فضح أعمدة التزييف والكذب في فرنسا؛ الدائرين في فلك المصالح اليهودية والأمريكية.
يتكون الكتاب من مقدمة وقسمين -سمي الأول بالجزء، والثاني بالقسم، والأجدر توحيد المسمى-، وفي المقدمة ذكر الكاتب أن فكرة كتابه شغلته منذ أمد بعيد؛ خاصة كلما اكتشف الكذب المتعمد المكرر الذي يقوله “الخبراء” بلا حياء ولا تردد، ومع ذلك فبعض الجمهور منخدع بهالات بريق ظهورهم عبر المنصات الإعلامية؛ دون تمحيص لمعلوماتهم؛ أو تتبع لمسار آرائهم، ولو فعلوا لنسفوا “جباه” هؤلاء المثقفين وفقدوا الثقة بهم تماماً؛ لكن من يفعل؟
ويقسِّم المؤلف من يتحدث عنهم إلى صنفين:
الأول: المزيفين الذين يؤمنون بقضية ما، لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها ونصرتها، مثل الذي يعادي فكرة ما ويختلق الأكاذيب لتشويهها.
الثاني: المرتزقة وهم الأسوأ؛ لأنهم لا يؤمنون بغير مصالحهم، ولذا يتظاهرون بالانتساب لقضية ما ليس من باب القناعة بها؛ ولكن لارتفاع مردودها عليهم!، مثل الذي يتخذ موقفاً من التيارات الفكرية حسب علاقة الأنظمة الحاكمة بها إن سلماً أو حرباً.
ويرى باسكال أن الفريقين يخالفان الأمانة الفكرية دون أن يغتموا لذلك، أو يجدوا في نفوسهم حرجاً، بسببين:
- أن الغاية عندهم تسوغ الوسيلة، والجمهور ليس ناضجاً بما يكفي!! ولذا فلا مناص من توجيهه نحو مايرونه صواباً-وغالباً يكون خطلاً- ولو بالكذب!
- أنهم لن يتعرضوا هم أو وسائلهم للعقاب؛ لأنهم يدافعون عن طروحات سائدة! هذا غير الحصانة التي تمنح لهم، والتدخلات الخرقاء في أحكام القضاء.
ثم يحاول الباحث فك لغز جرأة هذين الصنفين على الكذب، ويفسره-دون تسويغه- بأن قول الحقيقة يتطلب مجهوداً كبيراً من البحث والتحري، وأما الكذب فيحسم الجدل لصالحهم سريعاً، ولا يحتاج إلا إلى الحبكة والجرأة؛ فما أجرأهم، وأغلظ وجوههم.
ويطرح المؤلف سؤالاً مهماً: لماذا لا يُفضح المزيفون؟ بل على العكس يحظون بمعاملة تفضيلية قياساً لأولئك الملتزمين بقواعد النزاهة الفكرية! ويرى أن مستوى تقدير النزاهة في تدني، وبالمقابل تمثل “السخافة” للمزيفين نبع شباب دائم، خاصة من يلقي كلامه بطريقة قطعية دون روية ولا حيثيات، وبعيداً عن نظرية المؤامرة يرى أن المزيف يخدم صاحب المصلحة أو القرار؛ وعليه فقلما يتعرض لأذى أو مساءلة.
ومن طريف ما ذكره المفكر الفرنسي أن غالبية المزيفين يتخذون مواقف عدائية من الإنترنت، لأنها وسيلة سهلة للبحث عن تصريحات سابقة، ولا يستطيعون السيطرة عليها؛ فهي فضاء مفتوح لكل أحد، ولذا يهربون من المنابر العامة كوسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن الجمهور مع ارتفاع وعيه يصبح أشد قسوة على المزيفين من النخب والمداهنين.
الجزء الأول من كتابه عنوانه: حول انعدام النزاهة الفكرية على وجه العموم، وابتدأه المؤلف بمكانة المثقفين في فرنسا؛ حيث يُعدون ملوكاً اتكاءً على عصر التنوير وإسهامات المثقفين التي صنعت فرقاً في القضايا الجدلية المثارة، فضلاً عن التزامهم بقضايا عالمية، وجعلهم شهرتهم في خدمة من لا شهرة له، وما تميزوا به من إخلاص في تبني الموضوعات التي خاطروا في خوضها لأنها تجابه السلطات القائمة الظالمة. وبعد نهاية عصر هؤلاء اختلف المفكرون حول دور المثقف أهو البحث عن الحقيقة دون التزام يقود إلى الانحياز، أم هو الالتزام المطلق بالنضال ضد المظالم؟
ثم يقترح الباحث طريقة للتفريق بين المثقف الملتزم بقضيته، والآخر المزيف والمزور المتاجر بها، وهي طريقة عملية ليس فيها خوض بالنوايا الخفية، وتتلخص في سؤالين:
- هل يلجأ المثقف في دفاعه عن قضية ما إلى حجج صادقة، أم أنه لا يتردد في الكذب، ولا يراعي الحقيقة أو ضرورة الالتزام؟
- هل خاطر المثقف على المستوى الشخصي والمهني في سبيل إبداء رأيه، أم أن أقواله متفقة دوماً مع توجهات عمله؟
وفي المقالة الثانية من هذا الجزء يحمِّل المؤلف وسائل الإعلام مسؤولية انحدار مستوى المثقفين، حيث تغريهم بالحضور الدائم، والظهور المستمر على المنصات الإعلامية؛ وبالتالي لا يجد الواحد منهم وقتاً لتقديم إنتاج فكري حقيقي، وأصبح من تصلح صورته للظهور، ويبدو ظريفاً جيد التعبير؛ مفضلاً على من يفكر بنموذج سليم متسق، ولم تكتف وسائل الإعلام بالجناية على المثقفين؛ بل تجاوزتهم إلى الخبراء ذوي التخصصات التي لا يحسنها المثقفون.
ونبه الكاتب إلى أن وسائل الإعلام تطمح إلى التأثير على الرأي العام وليس مجرد إعلامه، فلا بد من التمييز بين الوقائع وبين التعليق عليها، والحذر من المزيفين الذين يحتلون مكاناً دائماً على الشاشات؛ لأنهم يقولون الشيء الذي هُيئ الجمهور لسماعه وقبوله، وتزداد حظوة المثقف كلما ساير الأفكار المرضي عنها؛ لأنه لو خاطر وخالفها فلن يُدعى للظهور مجدداً، وفي الظهور فتنة تقصم الظهور!
وفي مقالة بعنوان أخلاق خادعة، أشار المؤلف إلى أن المعركة التي يخوضها المزيفون بمقابل مادي ومعنوي تهدف إلى التأثير على الرأي العام لصالح من يدفع الثمن، وهي خيانة فاضحة للجمهور، وفوق ذلك يستخدم المثقف الجمهور لمصالحه بدلاً من وضع نفسه في خدمتهم. وفضح المؤلف استخدام المزيفين المفرط للحجج الأخلاقية وتحويلها إلى “مكارثية” حقيقية تعبُر بهم من الجدل الفكري إلى الإرهاب الفكري، والتضليل الإعلامي.
فمن أمثلة التضليل الاكتفاء بمناصرة واقعة واحدة دون أي موقف تجاه السياق المشابه لها؛ كمن ينتقد المجازر في دارفور لكنه يصمت عنها في غزة، ومن التضليل استخدام القوالب الجاهزة مثل قولهم: إذا لم يكن جميع المسلمين إرهابيين؛ فإن جميع الإرهابيين مسلمين! ومنع التفكير بأسباب المشكلة؛ فالكثيرون يقتاتون من فضح الإرهاب؛ بيد أن أحداً لم يكلف نفسه عناء البحث العلمي الجاد عن أسبابه.
ومن التضليل تصنيع مفاهيم وأوصاف جديدة، فارغة فكرياً لكنها براقة في صياغتها مما يضمن لها الرواج؛ مثل عبارة “الفاشية الإسلامية”، مع أن الإسلام عابر للقارات وليس قومي النزعة، ومع وجود اختلافات كبيرة بين تياراته، ويحكم الكاتب بأن فبركة مفاهيم جديدة خيانة أخرى يرتكبها المثقفون المزيفون، وبدلاً من مساعدة العامة على التفكير في ظواهر معقدة يعمدون إلى اختزالها، ومد الرأي العام بمواد مشوهة وسامة فكرياً. وفي خاتمة الجزء الأول يصل إلى نتيجة مفادها أن أكاذيب المزيفين لم تعد تخدع كافة الجماهير، ولذا تعاني النخب-مع ما تخُص به من دعم وتأييد- من الرفض الشعبي، وفوق ذلك ترتفع عند الجماهير أسهم من ناشتهم سهام المزيفين.
القسم الثاني جعل المؤلف عنوانه بخصوص بعض “المزيفين” كل بمفرده، وذكر في التمهيد أن خلافه معهم ليس بسبب أفكارهم، بل لأنهم لجأوا إلى الكذب؛ متحملاً ما سيلاقيه من عداوتهم خاصة أن لهم نفوذاً وسطوة كغالب المزيفين الذي يخدمون الطغاة والأنظمة الفاسدة. وذكر أنه يرفض التواطؤ الداخلي الذي يحتم على المثقفين تجنب انتقاد زملائهم، وروى أن العرافين في الإمبراطورية الرومانية لا يستطيعون منع أنفسهم من الضحك عندما يتقابلون؛ لأنهم يعلمون يقيناً بأن ما يحكونه ترهات وأباطيل!
وأشار إلى أن الجمهور هم الضحية الأولى لهؤلاء المزيفين الذين يشتركون في رفضهم لأي نقاش أو جدال، وسعيهم الدؤوب لإسكات من لا يشاركهم الرأي، فهم يلوحون بمبادئ فولتير، لكنهم يتصرفون كموظفي رقابة عديمي الشفقة، ومصداقاً لقوله يمكن تتبع ما يقوله رؤوساء الصحف ومديرو الشبكات التلفزيونية عن الانفتاح، وحرية الرأي، وحرمة الإقصاء، ثم لنبحث كم من صوت في الصحيفة أو القناة يخالف توجهاتها!
وبعد ذلك استعرض المؤلف ثماني شخصيات فرنسية من المثقفين المزيفين أو المزورين، والذي يهمنا هنا الصفات المشتركة فيهم التي نجدها في المزيفين والمزورين المحليين، وأما أسماؤهم وأعمالهم وسيرهم، فيمكن الرجوع لها ضمن هذا الكتاب الماتع الفاضح.
فمن سماتهم الثقة المطلقة فيما يقولونه لدرجة تجعل الاعتراض عليهم مجازفة، وبعضهم يروي وقائع وكأنه كان حاضراً مع أصحابها! ومواقفهم متسقة دائماً مع الأغلبية الحاكمة؛ وما أشبههم بمساحات السيارات تذهب يميناً وشمالاً مع قطرات الماء ولا تثبت على مكان واحد. ويرى المؤلف أنهم يكثرون من التأكيدات القاطعة، والتشخيصات الجنونية، ومخالفة جل الحقائق، والعجيب الذي نقله المؤلف في سير جل أمثلته؛ أن كتبهم تحصد الجوائز، والمقالات المادحة، ونفاد الطبعات، لكن هذه الكتب لا تروق للباحثين الجادين، ولا يقبلها الأكاديميون المنصفون، بل يقول النقاد بأن فضلها الوحيد طرافتها وجلبها الضحك لمن يقرأ صفحاتها! وأن معلومات المقاهي أنفع من معلوماتها.
ومن خصائصهم الحضور في كل الشؤون تقريباً، ولا ينفي المؤلف الموهبة عن بعضهم، بيد أنهم أضاعوا مواهبهم في سيل جارف من الكذب والهراء، ويرى أنه لو أجري فحص لكشف المزيفين كما يُكشف عن تناول المنشطات لبان عوار كثير ممن يشار إليهم بالبنان. ومن أدق ماذكره الكاتب الذي يشغل منصب رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس أن هؤلاء المزيفين ينسبون لخصومهم مواقف تستحق اللوم؛ لكنها عند التحقيق ليست مواقفاً لهؤلاء الخصوم، وإنما هي محض افتراء، وفي الغالب تغلق الأبواب الإعلامية أمام هؤلاء الخصوم فلا يستطيعون الرد.
ومن صفاتهم التأكيدات المجانية دون استشهادات تؤيد ماذهبوا إليه، وأن تطرف بعضهم في معاداة بعض التيارات تصيرهم “خبراء” في الإعلام، وضيوفاً دائمين في الاستوديوهات، وأي ظلم للحقيقة حين يكون الموقف المعادي والوشاية بالخصوم شهادة خبرة لصاحبه! وذكر أنهم يوردون بعض المصطلحات بتكرار ممل دون أن يقدموا تعريفاً واحداً لها، ومن طريف ما يبتلى به المزيفون ادعاء الخطر على حياتهم أو حرياتهم بمجرد توجيه الانتقاد لهم، وشبَّه انتقال المزيف من موقف إلى آخر نقيض له –ليس عن قناعة وإنما تبعاً لمصلحته الشخصية- بمثل من يبحث لنفسه عن عذرية جديدة بعد أن تهتكت القديمة وبليت.
ومما يمتازون به كثرة الألقاب التي تسبق أسماءهم بهدف تقديم ضمانة علمية لكلامهم، بينما لا يضطر الواثقون بأنفسهم لحشد كتيبة من الألقاب قبل أسمائهم، ويالهول ما قاله باسكال: كم من عميل متخف في شكل بروفيسور، وماذاك إلا لأن من يدفع الثمن يختار صفة المنتج، وما على البائع سوى التنفيذ. وقد أشار المؤلف إلى أن رهان المزيفين على نسيان الجمهور يجعلهم في راحة وهم يمارسون البهلوانية الفكرية، وأن بعضهم تجعله ممارساته كأنه عضو في محكمة تفتيش! وذكر أن سمة الباحث الاستقلال، وتقديس الحقيقة، والاستناد للوقائع وليس للقناعات، وهذا ما يفتقده تماماً المزيفون والمرتزقة؛ لأن أبحاثهم موجهة، ولا تنسجم مع المعايير العلمية.
وقد فهم المزيف أن دخوله في دائرة النخب وقبوله في ناديهم يوجب عليه أن يقول ما يفكرون به هم لا ما يفكر به هو، ولو غير رأيه بمقاس 180 درجة، ومن العبارات التي يكررها المزيفون عن خصومهم أنهم لم يفهموا شيئاً من دروس التاريخ، والعلامة المسجلة في كلام المزيفين هي الصيغ اللاذعة، والأحكام القاطعة!
ومن طباعهم استخدام نفوذهم القوي ليس من أجل تكذيب المخالفين وفضحهم بالحق؛ فهذا أمر من حق أي أحد، بل من أجل إسكات هؤلاء المخالفين ومنعهم من إبداء آرائهم، وهو ما يوصف بالتعدي والإقصاء. وبين هؤلاء المزيفين روح نقابية تحول دون أن ينتقد بعضهم بعضاً؛ بل الغالب أنهم في خندق واحد ضد أصحاب المبادئ، ومن طرائق عملهم الانتقائية في الاستنكار، والتعلق بالثنائيات، وإيراد الوقائع المضللة، والشهادات الكاذبة، وهي أمور يكثر المؤلف من تردادها لأنها سمة المزورين والمزيفين.
وكنت أنوي التمثيل ببعض الوقائع والاستشهادات، لكني أغفلتها تاركاً لفطنة القارئ الكريم ذلك، علماً أن مجال التزييف والتزوير قبيح في أرباب الكلمة من الإعلاميين والكتاب والمثقفين والمفكرين؛ بيد أنه أقبح حين يكون ممن يظهرون للناس بزي العلم والدعوة، فعلوم الشريعة ترتبط بتقديس الحق، وإعلاء قيمة الصدق، وليس بالانغماس في هوى الكبراء، ومحاباة الأهواء، وإلباس الباطل المحض لبوس الحق الواضح.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 20 من شهرِ رمضان عام 1435
18 يوليو 2014
8 Comments