شريعة وقانون عرض كتاب قراءة وكتابة

اللغة العربية والقانون

Print Friendly, PDF & Email

اللغة العربية والقانون

تتدخل اللغة في جميع شؤون الحياة؛ فيتناغى بها طفل رضيع، ويتناجى بواسطتها جليس ورفيق، ويتقاضى بها سائر الناس في جلّ تصرفاتهم حتى تنتهي. ومن أظهر تداخلات اللغة التصاقها الشديد بالقضاء والقانون، ولذا تزداد الحاجة إلى إتقان فنون الكتابة والصياغة لدى العاملين في الرواق العدلي، ذلك أن ألفاظهم المكتوبة والمنطوقة بحاجة إلى تحرير دقيق، وتحريز من الإيهام شديد، وإلى الوضوح والمباشرة، ولا بد لها من أن تكون جامعة مانعة، وتلك خصائص تجعل البراعة اللغوية، والتمكن من علوم اللسان، أمرًا بالغ الأهمية والضرورة.

لذا حرصت على قراءة هذا الكتاب المختصر وعرضه للقراء، وهو في الأصل محاضرة ملقاة، وما أحوجنا لنقل كثير من المحاضرات وحفظها مكتوبة كي يعم نفعها ولا تضيع؛ ففي بعضها كنوز تضاهي أغزر المؤلفات. أما عنوان الكتاب الذي أعنيه فهو: اللغة العربية والقانون، تأليف: أ.د.أحمد عبدالظاهر، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1439=2018م)، عن مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية.

يقع كتابنا في (104) صفحات، ويتكون من مقدمة، وفصلان، فالخاتمة وقائمة بالمراجع التي تناهز العشرين، وهو عدد غير قليل بالنسبة لمحاضرة. ويختص الفصل الأول منه بالحديث عن لغة القانون، وفيه ثمانية مباحث تشريعية ولغوية، وآخرها يروي طرائف لغوية تشريعية، بينما يعرض الفصل الثاني صور الحماية القانونية للغة العربية في سبعة مباحث، تشمل عدة مجالات في القضاء، والتعليم، والإعلام، والثقافة، والإدارة، والأنظمة.

ونقل المؤلف في المقدمة عن شاعر قوله: اللغة هي الأمة، ولا ريب والحال كذلك أن نستطيع التأريخ لحياة الأمة باللغة. ولأهمية اللغة أضحت قاعدة دستورية ملزمة للدولة وسلطاتها وشعبها، وملمحًا دستوريًا للحفاظ على الهوية؛ فالعمل بها مظهر من مظاهر السيادة، واستعمالها جزء من النظام العام، وغدت اللغة المنطوقة والمكتوبة من أهم مكونات التراث الثقافي غير المادي، ولأجل هذا أصبح يوم الحادي والعشرين من شهر فبراير كل عام يومًا للغة الأم بجهود اليونسكو، وأعلنت الأمم المتحدة أن سنة (2008م) عام دولي للغات بالتنسيق مع اليونسكو.

كما أكد بعض الباحثين أن اللغة ثروة اقتصادية، وجزم عالم الاقتصاد الأمريكي “روبرت لولوا” بأن التعليم باللغة الأصلية استثمار طويل الأجل، وعلى مؤسسات التعليم حسن إدارة هذا الجانب الذي يعاني من الضعف والتفلّت في بلاد عربية عديدة. وساق المؤلف عبارة رئيس الوزراء البريطاني “جوردون براون” عندما كان وزيرًا للمالية؛ إذ قال: إن بريطانيا يمكنها أن تحقق التوازن التجاري لوارداتها المتزايدة من الأجهزة والأزياء والبضائع العينية الأخرى بتصدير شيء واحد هو اللغة الإنجليزية! وأتصور أن في اللغة العربية ثروة اقتصادية تحتاج من يبادر للفوز بمرابحها من العرب أهل اللسان والمال والمكان.

ثمّ طاف بنا المؤلف في محاضرته المكتوبة مع لغة القانون الذي يوصف بأنه أسمى تعبير عن إرادة الأمة، وعليه فلغة القانون في البلاد العربية هي لغتهم العربية، وإن أجاز بعضهم استخدام لغة أجنبية عند الحاجة، وفي بعض القوانين إشارة صريحة إلى اللغة الكردية أو الفرنسية، وفي بعضها ألفاظ أجنبية بحروفها أو بحروف عربية، وهو أمر مستغرب خاصة مع وجود خبراء باللغة والصياغة والتحرير، فإما أن يُكتب اللفظ العربي المقابل للأجنبي، أو يورد الأجنبي بطريقة تشعر القارئ بأن العزة للعربية وسنن لسانها القويم. وقد ختم المؤلف بأمثلة على كلمات وأساليب من الأخطاء المشتهرة، وهو باب واسع فيه أقوال وآراء متفاوتة.

وجاء الفصل الثاني عن صور الحماية القانونية للغة العربية سواء في لغة التقاضي والمحاكم، أو في لغة الأنظمة والقوانين واللوائح، ومثلها في لغة التحكيم، والقرارات والتعاميم الإدارية، ومما لفت النظر الحرص على السلامة اللغوية في النحو والإملاء؛ كي لا تغدو الأخطاء فيها مثيرة للتندر والاستهزاء، ورحم الله عبدالملك بن مروان الذي شيبته المنابر خشية أن يُروى عنه لحن أو غلط! وواصل الكاتب حديثه الموجز عن لغة التعليم، والثقافة والخطابة، وعن لغة الإعلام والإعلان، وختم المؤلف هذا الفصل بعرض مختصر عن جعل إجادة اللغة العربية شرطًا لاكتساب الجنسية السعودية، علمًا أنه في فصلي الكتاب يستشهد بأنظمة الدول العربية أو أغلبها.

إن اللغة العربية قوية جدًا لدى طلبة الشريعة ودارسيها نظرًا لعمق ارتباطهم بالنصوص الشرعية التي تجعل من الناظر فيها متمكنًا بعلوم اللسان، وقويمًا في الحديث والكتابة إذا وفقه الله لذلك، وهي سمة في علوم الدين كافة، وحتى في علوم الملل الأخرى التي توثق العلائق مع لغاتها. وعليه فقمين بكليات القانون وأقسامه تعظيم هذا العلم لدى الطلبة؛ فاستقامة اللسان تعني استقامة التفكير، وحُسن العرض، وجمال الإبانة، وروعة الأداء البياني والخطابي، وفوق ذلك هي جزء من العزة كبير الذي يحتاجه المدافع عن الحق والحقوق.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الجمعة 22 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

16 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)