إدارة وتربية

زواج يذكر بالموت!

Print Friendly, PDF & Email

زواج يذكر بالموت!

أسأل الله أن يبارك لكل زوجين حديثي عهد بعرس، أو من القدماء الذين يحسن بهما تجديد شؤون الزواج معًا وإنعاش حياتهما ولو بكلمة حلوة، وبسمة صادقة، وهدية معبرة. وإن العرس والزواج لمن مناسبات الأفراح ومواسم السعادة التي تُنسي الموت والحزن، ولذا فما الذي جاء بسيرة الموت هنا؛ ولربما أن وروده الثقيل يفسد بهجة الزواج وسيرته المفعمة بالحلوى والعسل أو هكذا يجب؟

والجواب أن التي أتت به دعوة زواج وصلتني عبر الواتساب، وهو زواج لابنة قريب كان من أصدقائي وزملاء الدراسة. وبعد أن سعدت بخبر زواج الفتاة، وسألت مولاي لها ولقرينها التوفيق في الحياة والبعد عن المنغصات، رجعت بي الذكرى مرغمًا إلى مكالمة تلقيتها من والدتي رحمها الله تخبرني بأن زميلي خالد قد توفي في حادث سيارة لم يمهله بل صرعه مباشرة، وخلّف وراءه زوجة وطفلة أو طفلتين -إحداهما هي العروس-، فأدركني لأجله الحزن، وأدركتني لأجلهما الرحمة، غفر الله له.

ثمّ جلبت لي ذكرياتي مع خالد صورة زميلنا المشترك أحمد، الذي كان من أقوى زملائه جسدًا، ومن أنضرهم لونًا، ولذا أصر على الزواج بفتاة أجمل منه، وهو ماكان إذ رزق بزوجة أمها من بلاد تشتهر باللون الأزهر المشرب بياضه الناصع بحمرة طفيفة. وقد عاش معها سنوات قليلة أنجبا خلالها طفلين، وفي ذات يوم دخل بينهما الشيطان فتغاضبا حتى أضطر أحمد للخروج من داره والحنق يملأ نفسه، وربما أعمى عينيه؛ فقاد سيارته دون تركيز يكفي بسبب ألم النفس من نكد الشريك، وتعرض لانقلاب أودى بحياته، وفيما بعد صارت أرملته زوجًا رابعة لرجل أعرفه من خيار الرجال، لكنه ما لبث أن مات فجأة، رحمهما الله.

وتآزرت ذكرياتي بخالد وأحمد معًا، واستحضرتا لي قصة زميلنا المشترك محمد الذي كان معنا في المدرسة، وقد غضب عليّ مرة لأني نُقلت لفصله الدراسي فأصبحت الأول عليهم، وتأخر ترتيبه إلى الرابع؛ فقلت له: أنا لم أؤثر على موقعك لأنك تبادلت المواقع مع الثالث، وإنما أقصيت الأول إلى المركز الثاني الذي خلا بانتقال صاحبه إلى فصلي، فاقتنع. ومختصر حكاية محمد أنه تخرج ضابطًا في كلية عسكرية، وأراد السفر إلى مدينة عمله في ليلة مطيرة مظلمة، ولم تمكنه شاحنة هوجاء من ذلك حين طحنت مركبته بمن فيها، ومن الموافقات أنه رأى نفسه قبل مدة يسيرة من وفاته يقرأ سورة “التكاثر”؛ فقال له عابر شهير يرتبط معه بمصاهرة -على غير عادة العابر بالتصريح-: يا محمد احزم حقائب الرحيل! والله يسبغ عليهم جميعًا عفوه.

آما آخر شخص في هذه اللمحة السريعة التي استدعتها رسالة جوال قصيرة، فهو زميلي نايف، ونايف هذا على قيد الحياة حينما تفارقنا؛ وأذكر تعلّقه الشديد بوالده وأخيه الذي يكبره مباشرة واسمه مشعل، وكان أبوهما يبدو للناظر في مثل عمرهما من شبابه وحيويته. وحين حلّت ساعة القدر اشترى أبو مشعل سيارة كبيرة، واصطحب نجله الأكبر للسفر عليها، وفي الطريق حدث مالم يتوقعه أحد، إذ تحطم عمود السيارة وتقلبت على الطريق وفي جانبيه وفوق الرمال المحيطة به عدة مرات لتنهي حياة الأب وابنه في لحظة حزينة واحدة، وبعدها انقطعت العلاقة مع نايف لأنه ارتحل مع بقية أسرته إلى حيث يسكن أجداده وأعمامه، والله يجعل الراحلين في جنانه.

إن المرء لقصور علمه لا يدري عن الخيرة الخفية والأقدار المكتوبة؛ فلربما أن الذين سبقوا وهم في شرخ الشباب قد نجوا من فتن، وعصموا من قواصم، والله يبارك فيمن بقي وله وعليه، ويحمينا من الشرور والزلات ومضلات الفتن. وأسأل الله الرحيم الغفور أن يكتب لخالد وأحمد ومحمد ومشعل وأبيه ولكل من ذكروا ولجميع أموات المسلمين العفو والدرجات الرفيعة، وأن يجعل البركة واليمن حليفًا لمن دفعتني إلى هذه الكتابة التي لم يكن لي فيها من غاية سوى عظة نفسي، واكتساب الدعاء لصحب الطفولة وأول الشباب وآخرين معهم، وأدعو المولى الرؤوف أن يعفو عن الجميع، وينير لهم قبورهم، ويجعلهم في ضياء ونعيم وحبور.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 09 من شهرِ محرم عام 1444

07 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)