سير وأعلام

سيد في الإعلام بالقرآن

Print Friendly, PDF & Email

سيد في الإعلام بالقرآن

إنه لرجل عظيم بمثله يُقتدى، خاصة ممن يدرسون العلوم الإنسانية، وقد عرفته على هامش علاقة التلمذة النظامية لشقيقي د.عبدالله عليه في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو الشيخ الأستاذ الدكتور سيد بن محمد ساداتي الشنقيطي (1361-1440)، الذي كان من أوائل دارسي الإعلام محليًا، وفي مقدمة الحاصلين على شهادات عليا في هذا العلم من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مطلع القرن الهجري الخامس عشر.

امتاز الشيخ بكونه من الحفظة المتقنين للكتاب العزيز، بل إن لديه فيه إجازة بالقراءات العشر، وكم تخرج على يديه من حفاظ ومتقنين، وقد نفع الله بكثير منهم أينما حلوا كما نجد ذلك في سيرة الدبلوماسي العراقي باسل الراوي. ومن المؤكد أن طلبته يبلغون عددًا كبيرًا متنوعًا في البلاد والتخصص والعمر، ولربما أنهم انتشروا في الحواضر القريبة والبعيدة حاملين في صدورهم أقدس نصٍّ بعد أن حفظوه وضبطوه على يد الشيخ أبي أحمد في مسجده القريب من منزله الذي يتسابق إليه الحفظة قبل آذان الفجر بوقت، وأيّ مكرمة ربانية تلك التي جعلت لصاحبها أثرًا باقيًا مرتبطًا بالقرآن الكريم في الآفاق!

ومن سمات الشيخ البارزة اعتزازه بدينه ومفاهيمه، وافتخاره بالإسلام وتعاليمه، وحرصه العظيم على القرآن الكريم، فمنه ينطلق في كثير من الدراسات الإعلامية، حتى أن رسالته للدكتوراه كانت عن وظيفة الإخبار في سورة الأنعام، ولا يعني هذا أنه يهجر الدراسات الأخرى الغربية، بيد أنه لا يصيرها أصلًا يأرز إليه، ولا يضفي عليها من القداسة ما يجعلها آمنة من الفحص والنقد والاعتراض، وهما بليتان أصيب بهما كثير من دارسي هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية والتربوية من أبناء المسلمين، وحقيق بهم الاعتزاز بموروثهم الحضاري الكبير، والاقتباس من أنواره المضيئة.

كذلك من تقدير الشيخ للكتاب المهيمن أنه يدعو نجباء الطلبة لديه للحفظ والضبط والحصول على الإجازة ويحثهم على ذلك، ولا يتسامح مع الأخطاء الطلابية في قراءة القرآن حتى أن عضويته في لجان الامتحانات القرآنية لطلاب الجامعة لم تجدّد إذ لم ينجح عنده أحد تعظيمًا منه لقدر القرآن ومكانته! وكان يرفض أن يقرأ الآيات القرآنية في درسه طالب غير متقن، وذات مرة تلا في القاعة آية فيها سجدة فسجد للتلاوة وأطال الخضوع بين يدي مولاه.

وإذا راجعنا مسرد مؤلفاته سنجد فيه سبعة وعشرين كتابًا عن الإعلام بمرجعية قرآنية وشرعية، وأحد عشر كتابًا في علوم القرآن على وجه الخصوص، وتسعة كتب في فنون متنوعة دعوية وأدبية وثقافية وسلوكية. وفي تآليفه ارتباط بالأنبياء والعلماء وصالح الولاة والحكماء، وفي بعضها تأصيل لمفاهيم إعلامية، وبناء منهجية راشدة متينة لمن شاء دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وفتح لآفاق أهل العلم نحو التفاعل مع الرأي العام والتعامل مع الناس.

كما أنه كان كثير التلاوة والختمة، محافظًا على الورد اليومي من القرآن، ويروى عنه من غير مصدر أنه أنهى العمرة ثمّ غادر مكة وابتدأ بالتلاوة من سورة الفاتحة، وعندما أقبل على الرياض بلغ إلى سورتي الفلق والناس ليختم الكتاب العزيز خلال الطريق الذي يستهلك ساعات دون العشر. وقرأت نقلًا عن أحد عارفيه أنه كان لا يرى لنفسه فضلًا على من يحفظ القرآن على يديه؛ بل يعتقد بأن الفضل لهم عليه أن منحوه هذه الفرصة لتعليمهم وكسب أجورهم، وتلك بصيرة تغيب عن كثير من الحكماء.

أما ذكرياتي المحدودة معه، فمنها أننا زرناه في منزله، فأكرمنا بالجلوس في مكتبته العامرة، وأهداني كتبه المطبوعة كلها آنذاك على صغر سني، وقال لي: هذا الكتاب وظيفة الإخبارصعب عليك قراءته، وهي كلمة تحفيزية. وعندما تساءل الحاضرون عن احتمالية قيام حرب بين أمريكا والعراق إبان احتلال صدام للكويت التفت نحوي وقال: هل ستقوم حرب؟ فقلت: أسأل الله ألّا تكون! فرمقني بعيونه المهيبة وقال: لم تأت هذه الجيوش لتعود بلا حرب خاصة أن المعتدي لم يتراجع عن عدوانه، وكان صنيعه درسًا لي في التحليل والتمهل، وعلمت فيما بعد أن استحثاث التفكير، ورفع الوعي سمة لازمة له في قاعات الدرس بالجامعة.

وشاركت معه في مناسبة لا أذكر مكانها؛ فكان مما قاله لنا: حضرت عشاء فيه اثنا عشر طبيبا استشاريًا من تخصصات مختلفة، فأخذوا يتداولون النصائح التحذيرية من الأطعمة وآثارها حتى زهدنا وقررنا أن نكتفي بالماء والقليل القليل من الطعام، ولكن حينما أدخلنا إلى السفرة هجم الأطباء على الخيرات الموضوعة على المائدة، ونسوا كلامهم، فقلنا لهم: وقولكم الآنف! فقال بعضهم: خذ قولي ودع فعلي، والقصة أرويها بالمعنى، والخلاصة أنها سمة بشرية قلّما يسلم منها المرء. والشيخ بالمناسبة يحسن الطرفة دون ابتذال؛ إذ سأل أحد الشباب: هل تزوجت؟ وحين أجابه بالنفي قال له: والله لتندمن!

ثمّ إني أخبرته بأن النادي الأدبي بالرياض سيقيم محاضرة عن العولمة يلقيها د.أحمد بن عثمان التويجري، واتفقنا على أن نحضرها معًا، وحين سعدت بمجيئه معي في سيارتي، ودخلنا بعد صلاة العشاء إلى النادي، تأخرت المحاضرة قليلًا، فلما شرع المحاضر بالحديث لم يستطع الشيخ مقاومة وقت نومه المعتاد؛ فبدأ رأس الشيخ يخفق مرة تلو أخرى من النعاس؛ لأنه ليس من أهل السهر الطويل فيما يبدو، مع أن المحاضرة ماتعة مفيدة، والمحاضر متحدث بارع وكاتب متدفق وشاعر مفلق، وله تقديره عند أبي أحمد. وبعد نهاية حديث المحاضر طلب عدد كبير من المستمعين المداخلة، وحين جاء دور شيخنا الحبيب قال كلامًا يدل على استيعاب ما ذكره المحاضر دون فوات شيء مهم، مع إضافة لم ينافسه في حسنها سابقوه ولا لاحقوه من المتهالكين على التعليق!

وبعد خروجنا دارت بيني وبينه أحاديث كثيرة، وأذكر أني سألته ونحن على مقربة من منزله، فقلت له: يا شيخنا العزيز: ما هو السر خلف تميز أنجالك العلمي والخلقي؟! فسكت برهة ثمّ قال لي: اسمع يابني؛ ليس عندي والله طريقة أو منهج في التربية والتوجيه كي أخبرك به، ولكني أعتقد أن أرجى صنيع تربوي فعلته لأولادي هو أني منذ رزقت بأولهم وأنا ألهج بالدعاء لهم كل حين وخاصة في الوتر، ولا أترك مع الدعاء لهم إشراك ذراري المسلمين وأبناءهم بالصلاح والفلاح، فلعلّ الله قد استجاب ابتهالي حين قال ملك كريم: ولك بمثل!

من أخبار الشيخ في عمله ومع زملائه أنه كان محبوبًا مبجلًا حتى مع صراحته وقوته في النقاش العلمي، ومن ذلك أنه أجرى عملية خطيرة فتقاطر الزوار عليه في المستشفى، وبلغ بهم الحال من كثرتهم أن أصبحوا وقوفًا في صف مرصوص طويل يتناوبون السلام عليه والدعاء له، وهم من أصناف شتى. وروي لي عن أستاذ عربي أنه تخالف مع أ.د.سيد في جلسة القسم، وبعد الفراغ صنع البروفيسور لزميله القهوة فتعجب الزميل، وكرر الموقف مرة أخرى حتى أيقن الأستاذ أنه أمام عالم رسالي غير متكالب على الدنيا وصغائرها، وأنه يتمثل بأخلاق الصالحين وأهل القرآن.

وأخبرني أحد الذين تقدموا بمشروع علمي لدراسة الماجستير أو الدكتوراه، أنه كان ينتظر نتائج اجتماعات مجلس القسم أو الكلية للنظر في مشروعه، ولما خرج أ.د.سيد ووجد الطالب أمامه قال له: يا فلان لقد أجهضتُ مشروعك وفكرتك البحثية؛ لأنها تقوم على معنى هلامي غير محدد! يقول الطالب: فتكدرت وإن قدّرت للرجل صراحته، وأنه لم يبهم الكلام وينسب الرأي لآخرين، وبعد سنوات سجدت لله شكرًا على رفضهم، ودعوت لأستاذي على موقفه الذي أنقذ تاريخي العلمي.

كذلك فمما لا يعلمه بعض الناس أن الشيخ في شبابه الأول كان بارعًا في لعب الشطرنج والبلوت، ويغلب بهما كل من لاعبه، حتى قال له شخص بتخابث: لو جمعت معهما الكأس لكان لك شأن! ويروي الشيخ عن نفسه أنه في شبابه تمنى أن يمتلك مكتبة كاملة لأغاني أم كلثوم! وعندما درس في معهد الملاريا قال له أستاذه المصري: إن مستواك العقلي أرفع من هذا بكثير جدًا. ويشاء الله أن يراجع الشيخ حفظه فلاحظ تفلته، ومن حينها ترك اللعب واللهو وكثير من المباحات، وأقبل على الكتاب العزيز بجدية، ولم يقصر إقباله على نفسه؛ بل نفع به الآخرين، حتى الأطفال يعطي كل واحد منهم ريالًا مقابل أي آية يسمعها له.

غفر الله للشيخ المقرئ الحافظ المتقن، وأعلى له المنازل في الجنان، ولعمركم إني لأجد السعادة في ذكرياتي القليلة معه، وفي الحديث عنه، وكنت ألوم نفسي على تأخر تسطير هذه الكلمات التي أرجو منها أن تستجلب الدعوات المتقبلة للشيخ بالعفو والمغفرة وعلو الدرجات، ومثلها لمن كتب وروى، ومثلها لمن قرأ ونقل، ومثلها لمن قال آمين، وفضل الله واسع يشمل الجميع؛ بكرمه ومننه وعطائه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين 10 من شهرِ الله المحرم عام 1444

08 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. اللهم أنزل على قبر شيخي الأستاذ الدكتور سيد النور والسرور والفسحة والحبور. لقد كان علامة مميزة في خلقه وطروحاته وحسن عشرته.
    وجزى الله الأستاذ أحمد خيرا على كلماته الضافية وأسلوبه الرشيق وتذكيره إيانا بأخينا وأستاذنا ورفيق دربنا رحمه الله وجعل مرتبته في عليين

  2. رحمه الله تعالى وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة كان جاراً لصهري وأبناء أختي بالشفاء بالرياض ولي لقاءات معه في بعض عصريات الجمعة عندما أكون هناك وواكبت بعض مراحل إعداده للدكتوراة واستفدت كثيراً من علمه وثقافته ومخزونه المعرفي ونوادر درره إضافة لكرمه وحسن ضيافته وبشاشته.🌴

  3. رحم الله أبا أحمد أ.د. سيد، العلَم المهيب.. فقد كان جارنا الملاصق لمنزلنا في حي الشفا بدايةً من أواخر التسعينات الهجرية وحتى عام ١٤١٠.. وكنت أذكر جيدا تردد العلماء والزوار على بيته الكريم رحمه الله و لا أنسى أنه علمني في طفولتي مخارج الحروف والقراءة الصحيحة والتجويد،وكنت أستمع لتدريسه القرآن بعد صلاة الفجر وأتعجب من دقته وعدم تفويته حرفًا غير متقن رحمةً بالتلميذ وحرصًا على تعليمه.. ولا أنسى كذلك أن له الفضل في تعليمي أن تكبيرة الإحرام ركن ونبهني عمليًا لإعادة الصلاة بعدما لاحظ أننا كنا نركض مباشرة من الشارع حيث نلعب إلى المسجدلإدراك الركعة دون الوقوف لتكبيرة الإحرام..
    ‏كما أن رائحة مجلسه العامر عالقة في ذهني حيث العود وماء الورد والشاي المغربي المتقن من يدي أم أحمد حفظها الله.. التي كانت تعز وتقدر الوالدة رحمها الله ولا أنسى نعناع المدينة وأطباقها المميزة التي تداوم على إهدائها جزاها الله خيرا .
    كما لا أنسى أبناءه الكرام م. أحمد-رحمه الله- ود. علي وصديق الطفولة أ. حسين و د. عمر و م. حمزة كلهم في الذاكرة وكانوا نعم الجيران ونعم الرجال علمًا وعملًا وخلقا..
    ‏رحم الله أبا أحمد وغفر له وأسكنه فسيح جناته.

  4. أخبرني رحمه الله قصة إتقانه لحفظ القرآن يقول كنت في حارة شعبية بالرياض وأتطلع لتثبيت حفظي على شيخ متمكن وكنا مجموعة على هذه الأمنية فقيل لنا إنه قريب منكم وفي مسجدكم فإذا هو متواضع الهيئة والملبس من جنسية عربية فعرضنا عليه الأمر وقبل بشروط علمية فبدأنا ولمسناتمكنه الذي لم نعهده إذا نحن أمامه كأننا طلاب صف إبتدائي نتهجى السور تهجيا ومضت فترة قصيرة فلم يثبت منا إلاّثلاثة هو واحد منهم وهذا من أسرار إجادته للقراءات العشر غفرالله له، وممايؤثرله وبيته لايخلوا ابداً من العلماء وطلبة العلم الوافدين من شتى المعمورة (على قلة ذات يده وقتها)فإنه لاينسى دعوة جيرانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)