سير وأعلام

عبدالمحسن المنقور: الاستثنائي معلمًا ودبلوماسيًا

Print Friendly, PDF & Email

عبدالمحسن المنقور: الاستثنائي معلمًا ودبلوماسيًا

سيظلّ الخير في أهله متوارثًا يحمله الأواخر عن الأوائل، ولذا تبرز منارات في الأسر العريقة عبر مختلف العصور، وهذا ما نجده لدى أسرة المنقور التميمية الكريمة في حوطة سدير، التي تنتسب لسيد أهل الوبر قيس بن عاصم رضي الله عنه الذي لم يكن هلكه هلك إنسان واحد وإنما بنيان قوم تهدّما، بينما يرجعون من قريب للعالم الفقيه والمؤرخ الشيخ أحمد بن محمد المنقور (1067-1125) أحد أبرز علماء نجد في زمانه.

من رموز هذه الأسرة وأعلامها المربي والمعلم، والملحق التعليمي في لبنان، ووكيل الحرس الوطني بالمنطقة الشرقية، الشيخ عبدالمحسن بن حمد العبدالمحسن المنقور (1344-1427) حيث نال نصيبه من بركة جديه وصلاحهما، وبرّ والديه الذين اجتهدا وصابرا في سبيل تعليم أنجالهما، ثمّ سار على نهج أعمامه المشاركين في بناء المملكة وجمع كلمة أهلها.

وإذا أردنا البحث عن مفتاح هذه الشخصية فلن يعجزنا، إذ هو التعليم بلا ريب أو تردد، فقد ترك الفتى دياره صغيرًا لطلب العلم في الرياض، ثمّ انتقل في يفاعته المبكرة إلى الأحساء، فدرس فيها، وأصبح معلمًا في مدرستها ومديرًا لها خمسة عشر عامًا إلى أن أُصطفي ملحقًا تعليميًا في السفارة السعودية بلبنان، ومن هناك أشرف على الطلاب السعوديين المبتعثين إلى عدّة بلاد، واستمر كذلك سبعة عشر عامًا، وعليه يقترب مجموع سنواته التعليمية من ثلث قرن، وما ألذها من ثمرة.

أما سر روحه فيما بدا فيكمن في خلوها من الدسائس والغلّ وسوء الظن واحتقار ثقافة مجتمعه، وعمرانها بالنبل والقناعة ونكران الذات وحب الناس، فلم يتطلع إلى مال أو شهرة أو جاه، ولم يسعَ للارتقاء على أكتاف غيره، أو يتخذ أخطاء الآخرين سلمًا يتزلف به؛ ولذلك صرف جهوده مع الطلاب الدارسين في لبنان وغيرها، وعالج ما وجده من شطحات أو ميلان لدى بعضهم، دون أن يكتب عن أيّ أحد منهم حرفًا يعرضه لمشكلة أو مساءلة، وتلك سمة النفوس البهية الكبيرة المصلحة.

وقد تعاظم عمله في لبنان وغدا أكثر من ملحق تعليمي، فحمل الأعباء الضخمة عن السفارة من تلقاء نفسه الرضية دون منّة أو تذمر، وقلّ أن يزور مواطن لبنان ولا يجد من الشيخ المنقور استضافة أو عونًا ماديًا أو معنويًا ولو كان حجز موعد، أو إرشادًا لخيار هو الأفضل، والقصص في هذا كثيرة، وليت أنّ أحدًا ينشط لجمعها قبل أن يرحل أصحابها ورواتها، فالمنقور مثل معالي السفير الشيخ محمد الشبيلي الذي طارت بأخباره المجالس، وتطرب السامعين سيرته العذبة.

لأجل ذلك صرح بعض الناس أنهم يهربون في بيروت من كرم المنقور، وقد يختصرون مدة مقامهم فيها حتى لا تصطادهم شباك كرمه التي لا يفلت منها أحد إلّا بأعجوبة، والأعجب من ذلك أنّ الشيخ لا يعدّ ذلك فضلًا منه أو كرمًا زائدًا، ومن نتائج صنيعه الحاتمي تسابق علية القوم من علماء ومربين وأثرياء ووزراء لاستضافته إذا حلّ في الرياض حتى لا يجد وسيلة أفضل من التسلل من العاصمة كي لا يرهق أصحابه مع أنهم يتنازعون دعوته، ويعدون موافقته مكسبًا يظفرون به.

ومن طرائف ما اتفق له أنه أقام ثلاث ولائم غداء في يوم واحد في ثلاثة أماكن متفرقة لثلاثة رجال كبار في العلم والمكانة قادمين من السعودية، ويظهر لي أنه أراد تكريم كلّ واحد منهم على حدة؛ لأن الاشتراك ربما ينقص من ذلك بحسب اجتهاده المتوافق مع العادات تلك الأيام، وربما أنه لم يجد من المناسب جمع بعضهم في مناسبة واحدة، وإذا كانت هذه الولائم المتزامنة واقعة لافتة، فمشاركته فيها كلّها دون أن يفقده أحد من الحضور أمر أشد لفتًا للنظر.

كذلك من قصصه ما روي عن رجل من فلسطين أنه أحتاج للعلاج في لبنان وليس لديه مال، ففزع لأبي حمد الذي تكفل بمصاريف العلاج والإقامة وأعطاه مبلغًا إضافيًا لمصاريفه الخاصة، وفوق ذلك أخبره بأن هذا المبلغ من مؤسسة إغاثة ولم يكن على التحقيق إلّا من خاصة ماله، ولكنه أراد رفع الحرج عن الرجل العربي، وهرب من نسبة المعروف لنفسه، وإن الأخفياء لمن خيار المنفقين.

كما تورط مريض سعودي في مستشفى ظهر الباشق بلبنان حين ارتفعت تكلفة علاجه إلى مبلغ أزيد مما معه، فقال له بعض العاملين في المستشفى: اتصل بالملحق السعودي عبدالمحسن المنقور وسينجدك! وهو ما كان فعلًا إذ هبّ المنقور من فوره دون سابق معرفة ودفع قيمة العلاج، وحجز لمواطنه غرفة في الفندق، وتذكرة عودة، ولم يتركه إلّا في المطار بعد أن ضمن صعوده إلى الطائرة، وحفظ صاحب القصة للشيخ موقفه، وأحب  بسببه جميع آل المنقور كما أنبأني الصديق البار بأسرته محمد بن عبدالكريم المنقور.

أيضًا يمتاز الشيخ بالوفاء وحسن العهد، ولذا منح الأحساء والمنطقة الشرقية أكثر وقته وعمله، وتعلّم فيها ثمّ أصبح أحد رموز التعليم والحركة الأدبية والصحفية فيها، ولم ينس منطقته من الإحسان؛ فبنى في حوطة سدير مركزًا طبيًا بالاشتراك مع إخوانه ورفضوا بالإجماع تسميته بأسمائهم، وبقي الرجل حتى آخر عمره يذكر بالخير والمعروف زملاءه وأصدقاءه ورؤساءه في العمل، ويثني عليهم بما يحفظ لهم المكارم وحسن الصنائع، ويورد عنهم ما يجلب لهم المحمدة والأحدوثة الراقية.

بينما صنع الشيخ لنفسه وسفارته موقعًا متميزًا في لبنان ذات التفرعات والانقسامات التي حيّرت الرئيس الفرنسي ديجول، وأصبح شخصية محبوبة مقبولة الشفاعة لدى أطراف متنازعة، وفي بيروت الفاتنة إذ ذاك شارك بمجالس عامرة بالنبل والمعرفة كما يصفها شيخ الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر؛ ولا غرو ففيها الشيخ عبدالعزيز الصقير والشيخ سليمان الغنيم وأمثالهما، ويرتادها من أصدقاء المنقور مؤلفون ومفكرون من لبنان مثل عبدالله العلايلي، وأحمد أبو سعد، وفؤاد الخشن، وإن استقطاب خيار الناس وعقلائهم ليضفي رزانة على المجلس ومن يمت إليه بصلة من عمل وبلد، ولأن ابن منقور مغرم بالثقافة فقد غادر بلبنان بثروة قوامها خمسة آلاف كتاب!

وروى عنه الخويطر في وسمه مرات عديدة، وأشار بأن الصفحة التي يرد فيها اسمه تضيء، وأثنى عليه ثناء يمتد لأسرته إذ قال: منقوري وكفى، والحقيقة أن البركة ظاهرة في هذه الأسرة التي برز منها رجال كرام أمثال الشيخ عبدالمحسن، وأخوه الوجيه الشيخ سعد، وأخوه معالي الشيخ ناصر، وابن عمهما الشيخ عبدالعزيز المحمد المنقور الملحق الثقافي الشهير بالولايات المتحدة الأمريكية طيلة سبعة عشر عامًا من القرن العشرين.

كما سمعت في لقاء تلفزيوني مع الأستاذ الوجيه فيصل الشهيل أجراه الأديب والكاتب الأستاذ محمد رضا نصر الله، أن الملك سعود زار الطلبة السعوديين المبتعثين إلى لبنان للدراسة في الجامعة الأمريكية، فاستعظم الملك خلو المناهج الدراسية من المواد الدينية واللغوية، وأوكل إلى السفارة في بيروت علاج هذه المشكلة، ومن الطبيعي أن تحال المعالجة للملحق الشيخ عبدالمحسن المنقور الذي تعاقد مع أساتذة مميزين لتدريس طلاب المملكة علوم الدين واللغة، وحجز لهم قاعات دراسية داخل مبنى الجامعة حفاظًا على أوقات الطلبة، وتابع نجاح هذا الأمر وتمامه حرصًا على عقول الدارسين وقلوبهم وهويتهم.

مما لاحظته في هذا البيت المنقوري المكون من أب وأم وثلاثة أبناء فقط، أن التعليم استولى عليهم جميعًا، فتحملوا في سبيله بيع الممتلكات، وصرف الأموال عليه، وطول الغربة والافتراق لأجله، وقطع المسافات لتحصيله والاستزادة منه في وسط البلاد وشرقها وغربها، ثمّ صوب أماكن بعيدة وأبعد، حتى تناءت البقاع التي قبضت فيها أرواحهم، فكانت في الرياض ومكة، وبيروت، ولندن، والأحساء، والله يتولاهم وأموات المسلمين بالرحمة والمغفرة.

ومع ما كُتب عن المنقور من مقالات بقلم زملائه وتلاميذه ومحبيه ونوّال معروفه، إلّا أن الرجل يستأهل المزيد، وعسى أن يُجمع ما كتبه تلميذه معالي الوزير د.محمد الملحم، واللقاء الفخم الذي أجراه الأستاذ المؤرخ محمد الوعيل ونشره ضمن معلمته “شهود هذا العصر”، والمقالة الطويلة بقلم الكاتب والمؤرخ الأستاذ محمد السيف، وغيرها كثير لتكون ضمن سياق واحد، فالشيخ الوقور عبدالمحسن المنقور جدير بالتخليد العاطر حتى يغدو أنموذجًا للمخلصين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 27 من شهرِ شعبان عام 1441

20 من شهر إبريل عام 2020م  

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)