إدارة وتربية

سرُّ المكان الثالث!

Print Friendly, PDF & Email

سرُّ المكان الثالث!

عند كل إنسان مكانان يقضي فيهما جلّ وقته، فالأول موضع مبيته، وموئله، ومقر أسرته، والثاني محل اكتساب رزقه، وقضاء زهرة يومه، وهي أماكن مختلفة بيد أنها موجودة حتى عند من يأوي إلى ظلّ شجرة، ولدى الذي يقطع يومه بالبحث عن عمل، أو بمراكمة البطالة، وحتى قعيد الدار-لأيّ سبب- ينتقل بين بقعتين تختلفان في الغرض منهما، وهو دائم التحوّل منهما وإليهما إلّا في حال العجز التام.

ولدى كلّ الناس مكان ثالث حقيقي أو افتراضي؛ فمنهم من عرفه مبكرًا، ومنهم من لم يحط به خبرًا مع أنه يمضي فيه ومعه من الوقت مثل ما يستهلك في بيته ومدرسته وعمله، وهذا المكان هو اهتمام المرء، والشيء الذي يقضي فيه بقية وقته، وينصرف منه إلى نومه، أو يعود إليه من عمله، ولربما غاص في أعماقه بينهما، واقتطع له قسمًا من وقت المنزل، وشيئًا من نصيب العمل، وهذا المكان سر الروح وبيان حالها الحقيقي.

لأجل ذلك يعبّر المكان الثالث بصدق ووضوح عن الشغف المستولي على الرجل والمرأة، والكبير والصغير، وللشغف علامات تدل عليه وتبين عنه، وجدير بذوي الجدية الإلمام بها وملاحظتها في أنفسهم؛ حتى يكتشف المرء شغفه، ويحكم عليه، ويتخذ لنفسه خطة تعامل معه، أو يبدله لما هو أحسن، وهذه العلامات هي:

  1. لا يشعر الواحد بمرور الوقت مادام مع شغفه.
  2. ‏يستعذب أيّ شيء عنه ويطلب المزيد منه؛ فنهمته له نهمة جائع لا يشبع، وعطشان لا يروى.
  3. يقبل الشغوف أيّ مهمة تتعلق بموضع شغفه دون تردد، ويترك في سبيله كثيرًا من الأشياء.
  4. ‏يشعر الإنسان بسعادة وانشراح إذا أنجز شيئًا له علاقة بالشغف.
  5. ‏لا يستكثر المرء المال الذي يصرفه في سبيل شغفه.
  6. ‏يديم البحث عن كل ما يرتبط بهذا الشغف من بيئة، ومنتجات، وأناس، ومنظمات، ومواقع، وفرص تعلّم.
  7. حديثه عن شغفه ملهم ومحفز للآخرين.

وبعد أن حلّت جائحة كورونا بالعالم، افتقد أكثر الناس المكان الثاني إذ أصبحت الدراسة والعمل عن بعد في غالب تطبيقاتها، ومكث الناس في بيوتهم ضمن حظر تجول كامل أو جزئي، ومن البيوت مارسوا العمل أو انتظموا في صفوف الدراسة، وظلّوا فيه دون خروج، وهي فرصة ثمينة كي يعرف كلّ واحد منا ما هو مكانه الثالث، فيكتشف شغفه، ويعلم أن يضع هو نفسه، وكيف يقيمها، قبل أن يبحث عن قدره لدى الآخرين.

فبعض الناس شغفه يعانق الثريا في سموه، ويصف الجمال والنبل، إذ أنه مع العلم والمعرفة، وبين القرآن والكتب، أو في سماع ومراجعة، أو يصرم ساعاته في اكتساب الجديد من المهارات، والسلوكيات، والخبرات، واللغات، ولربما اقترب من عائلته وأسرته وشؤون مجتمعه، أو ولج إلى عالم البحث والكتابة، وسمعنا وقرأنا الكثير عن أناس فارقوا خلواتهم الاختيارية أو الاضطرارية بمكاسب عظمى، سواء في نقاء القلوب، أو صفاء الأذهان، أو عمق البصائر، ومتين الحكمة، وكريم الطباع.

ويا حسرة من أوقفه وباء الكورونا على حقيقة شغفه، فوجدها مع لذيذ الكسل، أو شهي الطعام، أو كثرة المنام، أو إهلاك الأوقات مع ما لا يفيد من أجهزة ورفقة دونما طائل يشرّف صاحبه في الدنيا أو يسعده في الآخرة، وإنها لوخزة توقظ في الإنسان الحر المؤمن غيرته على ذاته، وتحرك عقله، وتنادي همته، فليس لأجل هذا خلقنا، وعيب كلّ العيب أن يضيع العمر هكذا سدى بين هباء يتطاير، أو جفاء يذهب، فلا أثر يبقى، ولا تأثير يخلد.

كما أنّ الحصيف وأيًا كان شغفه سيراجع مع نفسه أهدافه وأولوياته، ويراعي المرحلة العمرية التي بلغها، والمستقبل المتوقع، فيحجز لنفسه مكانًا ثالثًا يليق بها، فإنّ الاهتمام بالشيء يكسب المرء فيه اختصاصًا وخبرة، حتى يصبح من البارزين فيه أهل المرجعية والتجديد، ومن أتعب نفسه فسيلقى الثمرة، وخير الثمار ما كانت حلالاً خالصة؛ فتلك التي تزدهر وتنمو، وتسر الناظرين في يوم الموازين الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 25 من شهرِ شعبان عام 1441

18 من شهر إبريل عام 2020م 

 

Please follow and like us:

3 Comments

  1. جزاك الله خيرا على مقالتك الهادفة والتحليل الصائب عن المكان الثالث للانسان رجلا كان ام امراة [ياله من تعبير بليغ}في نقاء القلوب . وصفاء الاذهان. وعمق البصائر . ومتن الحكمة . وكريم الطباع جمعت مكارم الاخلاق . وحتى عندما يترك عالمه الثالث ليلتقي بالناس لاتفارقه ثمرة اكتسابته من عالمه الثالث اذا اجاد استخدامها باخلاص . وفقك الله لما يحبه ويرضاه

  2. العبرة ليست بِالزحام ولا بعدد السائلِين ، وإنما بركنٍ دافئ منطوٍ في ثنايا روحك ، تلجأُ إليه كلَّما أحسستَ …” بـ ضجيج العالم ” ..! تذكرت هذه العبارة حينما قرأت مقالتك المميزة، المكان الثالث الذي ينتمي إليه شغفك هو بكل تأكيد المكان الحقيقي الذي تنتمي إليه روحك وستخلد فيه أثرك و ترى فيه مآثرك .
    سلم مداد قلمك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)