عرض كتاب لغة وأدب

وجد الجوانح في رثاء الزوجات!

Print Friendly, PDF & Email

وجد الجوانح في رثاء الزوجات!

حضرت قبل أيام في مقبرة النسيم شرق الرياض لحظات دفن الأستاذة المربية نورة بنت محمد العديليرحمها اللهعقيلة معالي د.فهاد بن معتاد الحمد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات الأسبق. وخلال الدفن لاحظت أن د.فهاد المعتاد يقف بعيدًا عن القبر الذي نزل فيه أنجال الفقيدة وأشقاؤها لإكرامها بالدفن وفق السنة، ثمّ فقدت د.المعتاد تمامًا إلى أن وجدته بعد بحث في مكان قصي يتلقى العزاء؛ فتحدثت معه أطول ممن سبقني، ومما قاله لي: لم أستطع رؤية هذا المنظر، ولم أثق بقدرتي على تحمل هذا الوداع فاستأخرت إلى هاهنا!

يقول ذلك وهو الرجل الصلب الذي خبر الحياة بصعوباتها المتنوعة، ونجح في التغلب على عوائق وعثرات كثيرة، ويحكي عن نفسه هذا الشعور الأليم وهو الذي لم يفارق قرينته طوال سنوات مرضها الماضية؛ فكان لها المرافق والمعالج والمؤانس؛ بل ربما أنه قصر حياته عليها، وأعاد جدولة نفسه ويومه وليلته فيما يخدم زوجه وعلاجها ومتابعاتها الداخلية والخارجية، ومن يعرف أبا راكان أو تعامل معه خلال السنوات الثمان الفائتة يعلم ذلك علم اليقين.

وحين رجعت إلى منزلي، ومع أن الوقت في يوم من أيام نهار رمضان الذي يستقبل الناس بعد نهايته أول ليالي العشر الأواخر من الشهر المبارك، إلّا أنني ذهبت لمكتبتي مباشرة، ولقسم الشعر والدراسات الشعرية تحديدًا، وسحبت منه كتابًا شريته وقرأته فيما مضى. عنوان هذا الكتاب: ديوان رثاء الزوجات من الشعر السومري إلى قصيدة النثر، تأليف الأديب العراقي: محمد مظلوم، صدر عن منشورات الجمل الطبعة الأولى منه عام (2013)، مكونة من (733) صفحة، تحتوي بعد المقدمة على عدد ضخم من القصائد، ثمّ قائمة بالمصادر والمراجع مرتبة في عشرين صفحة تقريبًا.

ففي يوم الاثنين 17 من شهر أكتوبر عام 2008م، دهمت آلام غريبة زوجة المؤلف فاطمة وهي حامل بتوأم ذكرين في شهرها التاسع، فماتت هي ومن في أحشائها بأحد المشافي بدمشق، وعندها ضاقت عليه دمشق والدنيا بأسرها، ووجد في الخلوة قارئًا وكاتبًا العزاء؛ فاعتكف يكتب مرثيته التي صدرت فيما بعد بعنوانكتاب فاطمة، ومع ذلك واصل العزلة الثقافية، واستطاع بعد قراءة فاحصة طيلة أربع سنوات استقصاء المرثيات التي كتبها الأزواج الشعراء لزوجاتهم الراحلات في مختلف عصور الشعر وأنواعه ومراحله؛ ولأن رحيل فاطمة هو الحافز الأساسي لهذا السفر الصعب فقد اجتمعت حشود الشعراء من مختلف العصور يؤبنون نساءهم، وكأنهم هبوا من أبديتهم البعيدة ليؤبنوا فاطمة مع زوجها المكلوم كما كتب.

حدد الباحث للرثاء ثلاثة معان هي البكاء، والتأبين بالمدح، وتعزية النفس والآخرين، لكن الشأن المهم هو أن هذا الفعل يؤدي إلى استشفاء داخلي لمن وقعت عليه مصيبة الفقد. ولا عجب عقب ذلك أن تكون المراثي أشرف الأشعار؛ فالقلوب محترقة وهي تقولها، والأكباد منفطرة من لظى الفراق حينما تبوح بها، وأحسن المراثي كما نقل أبو حيان عن المبرد ما خلط مدحًا بتفجع، واشتكاء بفضيلة، لأنه يجمع التشكي والمدح.

والرثاء خلاصة لتجربة عميقة تجمع بين الذاتي والموضوعي، ولا تقف عند ضفاف الشخصية المفجوعة أو المتفجع عليها، وإنما تتفاعل داخليًا لتغدو سؤالًا قاسيًا وصعبًا يحاور الخلود والفناء في عالم الإنسان؛ ولذلك يصبح الرثاء بلا أغراض شخصية ترجى من راحل هو إلى الباقين أحوج منهم إليه، وقد انقطعت منه الحيلة والقدرة، وما أسعد الميت بمن يذكره بدعوة أو بعمل صالح، أو يزور جدثه مسلمًا وداعيًا له حتى لو طال به العهد تحت أطباق الثرى.

كما أن الرثاء هو أصدق الشعر لأنه لا يعمل رغبة بعطاء ولا رهبة من عقاب في الغالب، ويرى ابن رشيق أو غيره أن أشد الرثاء صعوبة وأضيقه مجالًا أن تُرثى امرأة أو طفلًا لأسباب مختلف في تعدادها ما بين قصر حياة الطفل وهو ما تغلّب عليه شعراء منهم المتنبي، أو بسبب عوائد وظنون تنسفها المرويات المتوافرة من أشعار الرثاء في مقطوعات وقصائد بل ودواوين كاملة كما سيأتي. ولم يُعهد عن العرب ابتداء شعر الرثاء بالنسيبفلا يجتمع حزن وغزلحسبما قال ابن الكلبي مؤكدًا أنه لا يعرف مرثية أولها نسيب إلّا قصيدة دريد بن الصمةأرثّ جديد الحبل من أم معبد“.

أما رثاء الزوجات فمعروف منذ القدم، ولبعض الشعراء قصيدة أو مجموعة قصائد في رثاء زوجاتهم مثل الطغرائي، ولبعض المعاصرين ديوان كامل في رثاء زوجته كما صنع عزيز أباظة في ديوان بعنوان أنات حائرة الذي قدّم له د.طه حسين، ومثل ديوان عبدالرحمن صدقي الذي جعل عنوانه من وحي المرأة وكتب عنه العقاد مقالة صارت فيما بعد تقديمًا له. ولنزار قباني ديوان حزين في رثاء زوجته العراقية بلقيس الراوي القتيلة بانفجار السفارة العراقية في بيروت.

ولا يختص الكتاب بالنثر، وأذكر من قراءة سابقة أن الكاتب خليل ثابت رثى زوجته التي توفيت عام (1936م) بمقالة عنوانها: امرأة فاضلة: إلى زوجتي، وكانت مقالة بليغة في رثاء صاحبته التي ارتدى لأجلها ثياب الحداد ثلاثين عامًا كما ينقل وديع فلسطين، ومن شبه المؤكد أن البحث سيقودنا لغيرها. ومما يقترب من الرثاء القصيدة الجميلة التي كتبها الشاعر والأديب عبدالله بن إدريس وهو على مشارف التسعين عن زوجته بعد أن أصابهما المرض معًا؛ وقال في قصيدته الذائعة: (أأرْحَلُ قَبْلكِ أمْ تَرْحَلين*** وتَغرُبُ شَمْسي أمْ تَغرُبين)، وفيها سبق فني، ووجدان، وعاطفة، وحب.

وربما أن ابن جبير هو صاحب أول كتاب معروف ومخصص لرثاء الزوجة في الشعر العربي عنوانه نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح، وهو كتاب مفقود وبعض نصوصه منقولة ضمن مراجع أخرى. وأورد المبرد عددًا من قصائد رثاء الزوجات في كتابه التعازي والمراثي، وللدكتور عناد غزوان كتاب عنوانه المرثاة الغزلية في الشعر العربي، ومن المؤلفات أيضًا كتاب بعنوان مراثي الأزواج للدكتور عمر الأسعد، ومع البحث الأعمق ربما يعثر القارئ على المزيد أو الجديد.

ومن بصيرة المؤلف واستقلاليته أنه لم يركن لبقايا التلقينات الاستشراقية؛ بل حذر منها وفسر بعض الآراء النافية لوجود رثاء الزوجات بأنها من أثر بلاء هذه التلقينات التي تزعم أن العربوربما المسلمينيأنفون من رثاء المرأة والزوجة، وهو بهتان مردود بما تعارف عليه أصحاب السير من تسمية سنة وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بعام الحزن، وبما يحفظ ديوان الشعر العربي من مراث تستدر مكامن الدمع، وتقطع نياط القلوب، وبالمعلم الخالد في الهندتاج محلالذي بناه زوج سبعيني هو الإمبراطور شاه جيهان لزوجته ممتاز محل التي توفيت وهي تضع الابن الرابع عشر له؛ فأبهر البناء العالم من شعراء ومفكرين وساسة حتى قال نهرو: هذا ليس قبرًا إنه أغنية من رخام! ووصفه شاعر الهند الكبير طاغور بأنه دمعة صافية تتلألأ على خدّ الزمان!

إن رثاء المرأة أيًا كان نوحًا بالقيثار، أو بكاء بالمرمر، أو تأبينًا بالكلام والأشعار، كلها محاولات لجعل الحبيب المفقود قرينًا للخلود، وهي طريقة لتحويل الأحزان المستبدة بفؤاد الإنسان إلى جماليات باهرة باقية بارعة لتأبيد لحظة لا يتاح لها الديمومة، وكأن الراثي يعلن بحسرة أنه باليأس نسلو عنك أيها الراحل لا بالتجلد، ويكرر بأنه سوف يبكي على حبيبه بكاء مكتئب ما طفقت شؤون عينيه تدمع؛ مع أن كل ذلك الوجع لا يعيد الذاهب إلى العالم الأبدي، ولا يحول دون الرحيل الحتمي لأنه حقيقة ثابتة فلا يلبث القرناء أن يتفرقوا ما كر ليل أو نهار.

وهذه القصائد والأبيات ما هي إلّا مدائح حزينة في غياب الممدوح، وغزل عفيف بلا غايات، إذ تحضر فيه جماليات الغائب دون حضوره الجسدي. وليس فيها طموح لنيل جائزة أو مكسب أو رضا، وهي تنطوي على تصوير اللحظات الأخيرة بين روحين وشخصين عاشا معًا ثم تفرقا، كما تشتمل على رثاء النفس التي بقيت مفردة بعد شريك يومياتها الذي خلا منه مكانه فصار العالم كله مهجورًا، وأصبح يلح على ذهن الأرمل، ويلج على خياله، موعد اللقاء مع حبيبه الفقيد مرددًا مع عمر أبو ريشة قوله: (وألقاكِ بالحبِّ الذي تعرفينهُ *** ولن تسألي عنهولن أتكلما).

وقبل أن أترك القارئ يبحث عن نسخته من هذا الكتاب أشير إلى أن قائلة قد تقول: أوَ كلّ هذا الكتاب الضخم من شعر الأزواج؟ ولربما قالت أخرى: وهل يعرف الرجل الوفاء؟ وبالمقابل سوف يسأل أحدهم: أين مراثي الزوجات؟ فأجيب بأن العلاقة الزوجية علاقة مقدسة وميثاق غليظ أفسدها بعض أطرافها بسوء الفهم أو التطبيق، وأفسدتها بعض الأفكار المنحرفة المساندة دوليًا على مستويات عليا وأصعدة ذات سيطرة وقدرة، والله فوقهم يسمع ويرى ويبطل مكرهم وكيدهم؛ ولأن هذا هو شأن العلاقة فلا غرو أن تنجم عنها دفق من فيضان المشاعر الصادقة ساعة التجلي أو لحظة السمو والتسامي.

ثمّ أكمل جوابي بأني قد رأيت مرة كتابًا عن رثاء الزوجات لأزواجهن، ولم يتيسر لي شراؤه، وهو صغير الحجم قياسًا إلى كتابنا هذا، علمًا أني لم أبحث عن وجود كتب أخرى بهذا العنوان وفي ظني القريب من اليقين أن الباحث سيقع على شيء من هذا القبيل دون إغفال قلة عدد الشاعرات من النساء قياسًا إلى الشعراء كي لا يقع المرء أسيرًا للمقارنة أو للإفك المفترى من شيطان أو شيطانة يفسدون على أهل البيوت سكونهم وسعادتهم، ويتدخلون عنوة في مساحة ليست لهم بلا رشد ولا نصح إلّا ما رحم ربي وقليل ما هم وأقل من القليل ربما!

أما الوفاء فخلق نبيل شريف قسمه الله على أبناء آدم وحواء وبناتهما فمقلٌّ منه ومستكثر، وكم من زوجة كانت لزوجها وفية محبة داعية حتى وإن طال الزمن بين وفاتها ووفاة بعلها كما شاهدت عيانًا من أمي وجدتي رحمهما الله، وبالمقابل فلدى الأزواج من الوفاء والصبر ما تشهد به الوقائع الحاضرة والمحفوظة كما في كتابنا هذا وغيره، وأيّ شذوذ في تصور أو تصرف لا يُقاس عليه حتى لو سعت الشياطين لجعله السمة الوحيدة أو الغالبة؛ فإن كيد الشيطان كان ضعيفًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 25 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

26 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)