سير وأعلام عرض كتاب

الطريقي في مرافعة تتجاوز السيرة!

Print Friendly, PDF & Email

الطريقي في مرافعة تتجاوز السيرة!

هذا كتاب ذو محتوى فكري وتاريخي وثقافي مع سباحة ماهرة في أغوار نفس نسمة مباركة من أهل صحراء بلادنا العربية الأصيلة العريقة، وهو واضح من عنوانه: معالي وزير البترول الأول في المملكة العربية السعودية عبدالله الطريقي (1337-1418) قراءة تحليلية في فكره وسلوكه، تأليف: أ.د.عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي، صدرت الطبعة الأولى منه عن دار الثلوثية عام (1443=2022م) ويقع في (520) صفحة مكونة من المقدمة فتمهيد ثم فصلين أولهما عن فكر الطريقي، والثاني عن سلوكه، ويشتمل الفصلان على بضعة مباحث وفروع حتى يصل بنا المؤلف إلى الخاتمة. وعلى الغلاف الأمامي صورة للوزير مع نجله صخر.

ونستطيع أن نستخلص من المقدمة التفصيلية، والمراجع عددًا ونوعية وتباينًا، وفهارس الأعلام، ومدة العمل على إعداد البحث، إضافة إلى العنوان المباشر للكتاب، أنه ليس كتاب سيرة صرف، ولا كتاب منجزات فقط، وإنما هو كتاب يغوص في أعماق النفس، ويدرس تحولات الفكر، ويلاحظ أطوار الشخصية، ويراقب مجريات السلوك وما طرأ عليها من تحول، ثمّ يفسر ذلك كله استنادًا إلى طبيعة المجتمعات والنفوس البشرية بعامة، مع التركيز على طبيعة المجتمع السعودي وتكوينه، ونشأة الشيخ عبدالله الحمود الطريقي وتربيته ومنطلقاته.

ولعلّ الكتاب قد استطاع بذلك إزالة الغموض المحيط بهذه الشخصية التاريخية من خلال تفكيك الطلاسم الناجمة عن موقف أو كلمة أو تعليل؛ حتى تعود الأمور إلى نصابها الصحيح بعيدًا عن التشويه أو التوجيه المسبق أو التزكية التامة. ويُعدّ هذا الكتاب من خلال طريقته إضافة مثرية لعالم السير والتراجم، ويفتح العين على ضرورة التقصي المنصف قبل الحكم على الشخصيات والأحداث. كما لا يخفى ما فيه من إحسان المؤلف وبره بقريبه وبأسرته العريقة وبوطنه القريب والكبير.

فغاية الكتاب تحليل شخصية الطريقي بناء على فكره المثبت فيما كتبه أو تحدث به أو روي عنه، وبناء على سلوكه المشتهر عند الأقربين منه في شتى تقلباته الحياتية، مع التركيز على القضايا الدينية والوطنية وكشف حقيقتها بحسب اجتهاد الباحث دونما تزويق أو إخفاء أو إرسال للآراء بلا بينة تسندها؛ حتى لا ينساق أحد مع الرأي الجزاف القائل بأن أبا صخر شخصية قومية لا دينية لا تقيم للدين وزنًا، ولا تعترف لوطن بولاء! وما أعظم الفرية حين يكتمل السياق المبتور من الحجج بمقولة ظالمة مظلمة مفادها بأن وزيرنا البصير ختم حياته بإحباط قاده إلى الدروشة، وكم من كلمة كبرت حينما نطقت بها أفواه أو لفظتها أقلام، ولله المشتكى من عمه الجرأة، وعظيم الدعوى.

وقد أحسن المؤلف عندما وصف للقارئ عصر الطريقي من جميع نواحيه الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ لأن مثل هذا الاستحضار ينشط العهد الذهني لدى القارئ فيقف على حال ذلك الزمان فيفهمه كي لا يحكم على شأن بالقياس إلى واقع أيامنا وأحوالنا. وخلص البروفيسور الطريقي إلى أن الوزير ابتعد عن الخوض في الشأن الديني والاجتماعي بالجملة، بينما كانت له مشاركات سياسية وثقافية واقتصادية بطبيعة عمله وعنايته. ثمّ استعرض الطريقي المؤلف سيرة ابن عمه الطريقي الوزير منذ البداية إلى أن استوزر وأعفي واختار العيش خارج البلاد لأقل من عقدين قبل أن يعود فيجد من الاحتفاء ما هو أهل لمثله وأزيد، إلى توفي في مصر بعد أن كتب وصية لا يخطها سوى رجل صالح يوصي بالصلاة والصدقة وتقوى الله، ويحسن الاستعداد للقاء مولاه.

درس الفصل الأول فكر الطريقي عبر مبحثين عن التفكير عنده، ونتاج هذا التفكير، واطلعنا المؤلف على نتائج استقرائه لمصادر التفكير ومقوماته لدى أبي صخر وعلى رأسها أركان ثقافته من دين ولغة وتاريخ إضافة إلى الفطرة والنشأة وما فقهه من دراسته بأمريكا. وأوضح لنا منهجه في التفكير وعلى رأس المنهج استعمال التحليل والمنطق واستدعاء التاريخ. أما نطاق تفكيره ففي المجالات الفكرية المتنوعة، ولخصائصه صفات أبرزها الأمانة والدقة وسعة الاطلاع وجمال الأسلوب مع الوضوح والموضوعية وحضور الإحصاء والأرقام فيها. 

لذلك كان من نتاج هذا التفكير استقلال شخصية الشيخ الوزير الطريقي، وتميز إنتاجه بظهور بصمته وسماته عليه، وما أجمل العلم مع التواضع والهدوء، وما أكمل الحديث المكتوب أو المنطوق عندما يتزين بالشواهد من النصوص المقدسة وآثار العرب وخلاصات الأبحاث والتجارب والخبرات وأقوال أهل الحكمة والبيان مع الحمية والغيرة وصدق المشاعر والآراء، ثم تأتي هذه المعلومات والأحاسيس المنبعثة من روح صاحبها المستقلة الصافية وهي تتهادى بتواضع أهل العلم وذوي الثقة، دون أن تنوء بحمولات غريبة، أو تلبس من طيلسان الغرور والانتفاخ والتعالم ما يهوي بها في قعر سحيق، أو يحيلها الاعتساف إلى شيء يشبه الهراء وهمهمات المجاذيب والمخذرفين.

ثمّ اختص الفصل الثاني باستقراء سلوك الطريقي خلال ثلاثة مباحث عن التدين، وأخلاقه، وعلاقاته الاجتماعية. وأوقفنا الباحث على علاقة الوزير مع الصلاة والقرآن ومراقبة الله التي صيرته غير ذي ثراء مع جسامة المهمة التي اضطلع بها وتوافر المغريات للاستنفاع مع انتفاء الموانع، وذكر في هذا الجانب أمورًا مهمته عن نظرته لشؤون المسلمين وغيرها من القضايا الدينية. كذلك استعرض أخلاقه وطبائعه وعاداته وهواياته المتنوعة، وقسم أخلاقه إلى طبيعية وعقلية وقلبية ونفسية مع التمثيل عليها، ولم يفت على الشيخ المؤلف الالتفات إلى روابط أبي صخر الاجتماعية في محيط القرابة والصداقة والجوار والزمالة، وأيضًا مع المريدين والخصوم سواء في المجتمع العربي أو الأجنبي.

وسوف يجد القارئ في هذا الكتاب كمًا غير قليل من مقولات رجل الدولة الوزير الطريقي في حقول مختلفة، وهي مقولات يصلح بعضها لإعادة الإنتاج والنشر عبر ملصقات أو بطاقات تخليدًا لسيرة هذا الرجل النزيه ومسيرته التي لم تحد أو تجنح بصاحبها بعيدًا عن المعتقد والبلد مع شدة العواصف والتيارات الفكرية والسياسية خاصة في فورة شبابه وقمة نشاطه وحيويته. وسيرى القارئ وثيقة عن الطريقي مترجمة للعربية بعد أن كتبها نجله صخر باللغة الإنجليزية، وفي كتابنا مرويات وافرة عن أقارب وزملاء وأصدقاء ومحللين تقاطعوا مع الطريقي وقصته خلال أزمنة متفاوتة. ويتضمن الكتاب جمعًا غير يسير من مصطلحات فكرية لو استخلصت لظفر منتخبها بمجموع لطيف من المصطلحات ومعانيها، وهذه المصطلحات ضرورية لمثل هذه الدراسة لأنها من المعين على الفهم؛ فالمصطلحات مفاتيح لإدراك كنه العلوم والفنون.

ومن الأهمية بمكان الإشارة بتقدير إلى أمرين مركزيين في الدراسة، الأول منهما أن المؤلف لم يترك المواضع التي توجب الانتقاد والتحفظ على مواقف الشخصية المترجم لها أو أقواله، مع تفسير بعضها أو تأكيد رجوعه عنها، أو ربطه بحقبة كانت سمة الانفتاح أظهر على الوزير قبل أن يستعيد توازنه بحكم السن والتجربة ونقاء الفطرة. والثاني أن كل موضع في الكتاب لا يخلو من شاهد أو مرجع أو أكثر، وهذا الأمر يجعل النزال الفكري مع هذا الكتاب عسيرًا عند من يأبى إلقاء القول على عواهنه بلا توفيق من الله أو مساند من عقل أو رادع من حياء، فلكل كلمة يسوقها المؤلف استشهاد أو أكثر، وبعضه جلي الدلالة، وفيها ما شرحه الكاتب لمزيد بيان، والمهم أنها آراء مبرهنة، وعلى من يخالفها أن يأتي بما يماثلها في المصدر والتعليل.

وعودًا على بدء فإن المفهوم الأساسي المهم الذي تقوم عليه فكرة الكتاب هو أن المرء مهما خالف أو تجاوز في مفردات وهفوات فكرية أو سلوكية؛ فهذا لا يسوغ أبدًا إخراجه عن أصوله ومنابته وتكوينه العريق العميق إلى ساحة النقيض والمعارض تمامًا والمخالف كليّة؛ فجلّ البشر يجتهدون ويخطئون ويغفلون ويضعفون؛ لكن الأسس والأصول تبقى راسخة، وتعيد أصحابها إلى جادة الصواب، ونعيم الصراط المستقيم.

وليس من العدل بحال ما يصنعه البعض بتعميم مجازف لقصد الإثارة أو السبق، أو لتحقيق أغراض فئوية للاستكثار والاستقواء بأسماء لامعة، وحصرها في زاوية تيارية ضيقة استنادًا على بنيات طريق منقطعة غير متوالية وفوق ذلك تتهاوى أمام السياق العام للشخصية، بل وتندثر عند النهايات والخواتيم التي جاءت متينة بقناعة ويقين وقوة، ولم تكن رخوة آتية من خور أو هزيمة أو مجاملة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 19 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

20 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. نشكر لك هذه المراجعة القيمة …
    لطالما سمعنا عن الطريقي وماقيل عنه وكل محاسب بما قال، لكن في الحقيقة لم أصدق يوما ماقيل عنه من ذم وعرفت بعض المقتطفات من هنا وهناك عن فكره وارائه ويبدو انك اليوم أرسلت لي من الله بأن تهديني الى هذا الكتاب القيم الذي اعتقد انه سيضع النقط على الحروف. حتما سأقتنيه ان شاء الله
    دمت بود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)