سياسة واقتصاد سير وأعلام قراءة وكتابة

محمد بن سعود وأربعون عاما من التأسيس والإمامة

Print Friendly, PDF & Email

محمد بن سعود وأربعون عامًا من التأسيس والإمامة

قرأت أمس نسخة إلكترونية من كتاب عنوانه: ‏الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى دراسات تاريخية، صادر عام (1445) عن دارة الملك عبدالعزيز، ويقع في (168) صفحة مكونة من مقدمة، ونبذة تاريخية، وعشر دراسات مختصرة، كتب كل دراسة باحث أو باحثان. وفي الكتاب صور جميلة عديدة، وليتهم وضعوا صورة الإمام التخيلية في المقدمة، وأضافوا مشجرًا أسريًا يربط بين صاحبي الرؤية الإمام محمد، وحفيده الأمير محمد. ولأن العمل البشري لا يخلو من ملحظ؛ فقد ورد في المقدمة أن سنة التأسيس كانت عام (1729م) والصواب قبل ذلك، ووصف الإمام بأنه “أيقونة” وهو وصف لا أراه ملائمًا لأحد عظماء تاريخنا.

وتكاد المعلومات الواردة في هذه الدراسات العشر عن الإمام المؤسس محمد بن سعود (1090-1179=1679-1765م) أن تكون متشابهة لحدٍّ كبير، والسبب أن المتوافر عن إمامنا من معلومات ليس بالحجم الذي يستحقه، وهذا “الشح” فرصة للتحليل والاستنباط والربط، وهو عين ما فعلته هنا، مستفيدًا من بعض تحليلات الكتّاب ومضيفًا إليها، وهي تحليللات تشمل حياة الإمام كاملة، خاصة مسيرته عقب التأسيس عام (1139=1727م).

فمن الموافقات اللافتة جدًا، ولم يشر إليها أيّ باحث في الكتاب، أن الإمام محمد بن سعود هو الحفيد السابع لجده الأمير مانع المريدي المؤسس الأول للدرعية بعد انتقاله الجريء إليها، ويشاء الله أن تظلّ سيرة الإمام والحفيد السابع سيرة لم تأخذ حقها من إعادة البعث بالبحث والتحليل إّلّا في عهد الملك سلمان، وهو الملك السابع في الدولة السعودية الثالثة، ثمّ تزداد هذه الجهود العلمية انطلاقًا من رؤية المملكة (2030) التي يقودها ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، وهو زعيم الطبقة السابعة من أجيال الأسرة الملكية العريقة بعد الإمام محمد بن سعود.

ومن الاستنتاجات المهمة بناء على ما روي في الكتاب ضمن أكثر من دراسة، أن الإمام محمد فقد ولديه الكبيرين فيصلًا وسعودًا في حروب الدرعية المنبثقة عن مشروع الإمام، مما يدل على القيمة الكبرى لهذا المشروع الذي يودي بحياة الأبناء والذرية. وحينما حضرته الوفاة، اختلى الإمام المؤسس بولديه الفارسين الإمام عبدالعزيز والأمير عبدالله، وقال لهما: “لا تفجروا الصخر”، وهي كلمة فُهم منها ألّا يثقلوا على أنفسهم ودولتهم الحديثة بالمعارك خاصة مع قوى لا طاقة لهم بها، وهذه حصافة ظاهرة لا تستغرب؛ بيد أنها تخفي دلالة أخرى أجلُّ وأعظم لم تلفت نظر دراسات الكتاب.

إذ لا يمكن أن يقول الإمام هذه الكلمة المختصرة لولديه وأذهانهم خلو من شيء أكبر سابق متوافق عليه، ولا يتصور أن يقتصر الرجل الخبير على كلمتين فقط، وهو يودع الحياة وتنقطع صلته بإنسانها وأرضها وأحداثها، وتنتهي علاقته بالمشروع الذي صرم لأجله الأيام والليالي. وعليه فمن المؤكد بالاستنباط أن بين الإمام وولديه لغة خاصة، وتفاهمات، ومشروعات يجري التدبير لها على الأرض؛ فقال لهم هذه الكلمة الحكيمة الجامعة، ليؤكد على إستراتيجيات في التفكير، وطرائق في التنفيذ، وليضمن بقاء المشروع، وسلامته، ومضائه إلى حيث أراد له الإمام المؤسس، وحيث يعلم شريكاه ونجلاه، ويا لها من كلمة تعبّر عن التدبير المتقن، والتوافق المسبق، والرؤية المستقبلية.

هذه الرؤية التي اشتهر بها الإمام؛ فاستطاع استقطاب المنافع الدينية والتعليمية والاقتصادية لبلدته التي ستصبح قاعدة الملك ومنطلق الحكم، حتى غدت سبيلًا آمنًا لقوافل الحجاج والتجار، ومقصدًا لتبادل البضائع من أنحاء الجزيرة العربية، وبلدة ذات مواسم متعاقبة، وفيها مواسم للرجال وأخرى للنساء، ومزارع، وأسواق للأنعام وغيرها. وفوق ذلك كله ازدهرت الحركة العلمية بالتدريس، والحفظ، وكتابة الرسائل والمخطوطات، وفيما بعد ازداد العمران للأحياء والمساجد والأسواق والأماكن العامة، وفاض المال حتى ظهرت الأوقاف بأنواعها.

ومما ظهر لي من خلال الكتاب، وهو فيه جليّ للغاية، أن الإمام احتفظ منذ صغره ويفاعته بأخبار الملك والساسة والدول عبر مجالس أسرته الملكية العريقة، ومصاحبة والده وجده، واستقر في نفسه الشعور الملكي وحتمية الزعامة، ثمّ حقق هذا الإيمان عبر مشاركات حربية جريئة، والإقدام على موارد الهلكة وفاء بالعهد وحفاظًا على المجد، حتى استتب له الأمر برضا الناس وقبولهم، فكان منه قطع دابر أي شقاق، والحيلولة دون نشوب أي نزاع، إذ وضع خطًا للتوارث العمودي للحكم في سلالته، واستبان لكل ذي عينين وعقل المسار الذي لا يزيغ عنه إلّا مريد الشر لنفسه قبل غيره، ونعمت الأرض وسكانها بالوحدة والاستقرار بعد أزمان من الانقسام والاضطراب.

كذلك من حسنات الأمير المؤسس غير الحكمة التي نقل فيها الدرعية من إمارة إلى دولة، وغير الشجاعة التي قادته لخوض لجج القتال، وغير الحكمة التي استمال بها القلوب والعواطف، وحال بها دون جعل جيرانه ملاذًا للمخالفين، وغير النظرة المستقبلية التي جعلته يستضيف من يكون إضافة تقوي المشروع ويتكئ عليها في سبيل تحقيق المراد، أنه سعى لتكثير شعبه بالتشجيع على الزواج، وتيسيره، والعناية بالأسرة والنسل، وأنه جعل من نفسه وبلدته المغيث لمن جارت عليه الحوادث؛ حتى لو منح أموالًا طائلة لرجل لا يعرفه حقّ المعرفة، وإنما أراد استبقاء الكرام، وتضييق الفرص على ارتقاء السفلة كما علل تصرفه لمن سأله. ومن حسن تدبيره الاعتماد على الإبل أكثر من الخيل؛ لأنها أصبر وأيسر مؤونة، وعنايته بالمال والعدل فيه وفي أهله وسبل جمعه الشرعية.

كما أن تصرفات الإمام تدل على حسٍّ أمني وسياسي عميق، ولذلك لم تتعرض الدرعية لغزو خلال عصره إلّا مرتين، واحدة من الأحساء والأخرى من نجران، ولم يظفر الغزاة بالغاية والحمدلله، هذا غير سبع عشرة محاولة خائبة من أمير الرياض، الذي لم يحفظ للأمير نصرته إياه قبل سنوات كاد أن يهلك فيها على يد بعض الأهالي. ومن سياساته البصيرة الحرص على استقلال الدرعية عن أي قوة مركزية أو أكبر منها، وقدرة الإمام محمد على إقناع أمراء بلدات قريبة بالانضمام السلمي له، وتزويج ولي عهده الإمام عبدالعزيز من أسرة المعمر إحدى أهم الأسر المجاورة، واشتراطه على الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن يبقى في الدرعية ولا يتركها أيًا كان السبب أو البديل.

ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن الدرعية كانت المكان الأنسب لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية؛ لوجود إمام متدين وزعيم قوي، وأسرة حكم ترتبط بعلائق قديمة مع الشيخ، إضافة إلى علماء وطلبة، واستعداد ظاهر لقبول الدعوة وإجراءاتها؛ ولذا حلّ الشيخ معززًا مكرمًا آمنًا بضيافة زعيم الدرعية والأسرة السعودية. ولأنه زعيم حصيف فقد اقتنص هذه الفرصة كما قال السير هارفرد جونز بريدجز: “إن استعباد سكان الجزيرة العربية مستحيل، والحاكم السعودي يعرف ذلك، وقد أجبر الجميع على الخضوع لأحكام القرآن والسنة، المدنية والجنائية إضافة إلى الأحكام الدينية بكل نقائهما وصفائهما”. ومن المناسب هنا التنبيه إلى أن أسرة الشيخ العريقة حملت لقب “آل الشيخ”؛ لأن الإمامة كانت حصرًا للإمام محمد، وللحاكم من نسله وآله من بعده.

هذا هو الإمام المؤسس، والزعيم المتفرد بتاريخنا المحلي، وقد استقر له الأمر والحكم أربعين عامًا خلافًا لسابقيه، مما يلمح إلى سمات شخصية، وقدرات عملية، وبعد نظر، مع التوفيق من ربّ العالمين أن منحه الصواب والقبول. وهو الإمام الذي حمى مشروعه وفكرته من عوادي الخارج، ومن اجتهادات الداخل، وسعى ما وسعه الجهد للتوحيد أولًا، والتوسع ثانيًا، والتنظيم الرشيد ثالثًا، وعقب ذلك تكثير الخيرات، وإشاعة المكارم والعدل، فأعانه كل ذلك على نجاحه في التأسيس الراسخ المتين، ليدخل ضمن عظماء مؤسسي الدول عبر التاريخ، رحمه الله وأعلى منازله.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 13 من شهرِ شعبان عام 1445

23 من شهر فبراير عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)