سير وأعلام

الحصين: أمين المدينة المكين

Print Friendly, PDF & Email

الحصين: أمين المدينة المكين

ترتبط بعض الأسماء بأماكن وأحداث لدرجة التلاصق الشديد، وما أبهى أن يرتبط اسم الإنسان بمكة والمشاعر المقدسة ارتباطًا فيه قدر كبير من الأحدوثة الحسنة في الدنيا، ورجاء الأجر العميم في الأخرى، ومثله الارتباط بمدينة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم. ومع أن نفع الناس والإخلاص للبلاد عمل جليل في أيّ بقعة، إلّا أن ثوابه أعظم وخلوده آكد حينما يكون للعمل صلة بالديار المقدسة، وبالحرمين الشريفين، زادهما الله حفظًا ومنعة وتقديسًا، وكلما عظمت المسؤولية وموضعها فالأثر سيكون أعلى، والموفق من هداه الله للبر والتقوى؛ والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

أقول ذلك حين بلغني نبأ وفاة معالي المهندس عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سليمان الحصين (1371-1444)، الأمين السابق لمنطقة المدينة النبوية، ولا أعرفه بغير هذه الصفة البهية. تخرج أبو أسامة في كلية الهندسة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران عام (1395)، وعمل في وزارة المواصلات أربعة عشر عامًا ثمّ انتقل لأمانة المدينة النبوية عام (1409)، وظل بها حتى عام (1433) ممضيًا قريبًا من ربع قرن في أمانتها، وكان متعاونًا مع أمرائها، والمسؤولين فيها، والعاملين لأجلها، والناصحين لها، وما أجلّ حضور المهندسين ذوي العقول النيرة، والنفوس الزكية، فهم من معاقد الآمال لنهضة وثابة.

فللمهندس الراحل بصماته الواضحة في مشروعات توسعة المسجد النبوي، وتخطيط المنطقة المركزية، وخدمة مقبرة البقيع، وإنشاء الطرق في المدينة والإشراف عليها تحت الشمس وخلال ثلاث رمضانات متوالية، وتوسعة الأحياء، وتوزيع الأراضي على المواطنين عبر المنح الرسمية، ومتابعة أعمال تصريف السيول، وتخطيط مسارات الطرق بما يعين على الانسيابية ويخفف من الزحمة، إضافة إلى المبادرة المبكرة لتحويل أعمال الأمانة من الورق إلى النظام الإليكتروني تيسيرًا وتسريعًا.

وروى لي الشيخ محمد الحمد العساف الذي تبوأ مناصب وظيفية عليا في رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي رئاسة شؤون الحرمين، أنه زامل المهندس إبان عمل الشيخ في المدينة؛ فكان أبو أسامة متعاونًا مع الهيئات الشرعية بمنحها المواقع المناسبة في المنطقة المركزية بالمدينة النبوية التي تمتاز بصبغة شرعية لصيقة بها. ويكمل الشيخ محمد مضيفًا بتأثر لفراق رجل أحبه ويصفه بنعم الأخ ونعم الصديق أنه كان يراه ضحوة كل سبت يذهب إلى مسجد قباء لأداء ركعتي الضحى فيها اقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يمشي على أقدامه من منزله بالحرة الشرقية إلى المسجد النبوي ليصلي المغرب والعشاء مثل عامة المصلين، وينهي شيخنا شهادته للمهندس بالتواضع والتقوى وحسن الخلق، وأن هذا السمت لا يستغرب من رجل اشتهرت أسرته بذوي العلم والزهد وطيب المعشر.

ليس هذا فقط هو شان مهندسنا الذي ارتحل عن الدنيا يوم الأحد التاسع من شهر الله المحرم، بل له شؤون أخرى نستعرضها على عجل من باب التذكير والإشارة. فالمهندس الذي ولد في المدينة النبوية وتعلّم بها وعمل خلال جلّ خدمته الرسمية في أمانتها، ارتبط قلبه بهذه البقعة الطاهرة الميمونة، وتمنى أن يموت فيها، وحين جاء إليه تيسير أمر العلاج خارجها لم يذهب حتى تقبض روحه في هذه المدينة، ويدفن في بقيعها المخصوص باحتضان أجساد الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم، وكيف يغادرها وهو الذي يعلم ترغيب النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام بالموت فيها؟ ولذا فلا يستغرب أن يعدّه أهل المدينة الكرام واحدًا منهم كما كان أبوه من قبل.

وليس هذا فقط؛ فالرجل تربع على أحد أرفع المناصب المهمة في منطقة حيوية مقصودة، وهو من المناصب المشغلة للوقت، المنهكة للجسد، الكادة للذهن، الجالبة للضجر من كثرة الإشكالات والطلبات، والمستلزمة للضبط الشديد حذار الخلل، ومع ذلك لم يقصِر نفسه على هذا الجانب مع شدة إرهاقه للجسم وإزهاقه للوقت، وإنما جعل من جهده نصيبًا مفروضًا للعمل الخيري في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مؤسس لجمعيات، ومعين لأخرى بما يسعه من صنوف العون المعنوي والمادي، وحامل لهم الفكرة الخيرية معه أينما توجه، ومن أبرز ما سيطر على نشاطه الخيري شؤون الأيتام عبر منجزات مؤسسية متميزة، ومن يسكن مدينة الرسول، ويخدم زوارها، ولا يهتبل فرصة عمل مضمون لفاعله مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولن نعجب من تتابع الرثاء والنعي له من مؤسسات العمل المجتمعي في المدينة، فضلًا عن أمانتها الوفية.

كما أنه ليس هذا فقط، فقد اشتهر الرجل بصفات عمل رفيعة، فهو لا يحتجب عن الناس، ويرى نفسه خادمًا لهم، والأصل لديه أن يخدم المستفيدين، ويستمع لهم، ويسعى في مصالحهم دون أن يرجو منهم جزاءً أو شكورًا. ومنها التبكير إلى العمل، وتحفيز العاملين معه بأبعاد قيمية تجعل العمل عبادة حقًا، ولربما أنه أدرك أن المدينة مزار دائم للمسلمين، والواجب لها يتعاظم في نفسه، ويتسامى بنفسه أيضًا، وتلك واحدة من بركات الحرمين الشريفين.

ومن حسن القصد، وحسن الإدارة، وتطلّب المصالح العامة والعليا، والسعي الدؤوب فيما يحقق الغبطة والمنافع المجتمعية، استحق الرجل أن يوصف بأنه رجل دولة يعلم بأن الولاية فرصة لامتحان الإنسان، ويعرف أنها نوع من البلاء الجدير بمراقبة الذات لأجله، ويعي أن هذه الولاية فرصة لتحقيق حاجات الناس، والنجاح في بلوغ مطامحهم. ويوقن فوق ذلك أن الإحسان منجز ينسب للعاملين كافة بلا استثناء، ولا يجوز أن ينفرد به شخص واحد؛ مع أن هذا الشخص على أكمل الاستعداد لتحمل مسؤولية أيّ خطأ أو قصور.

وإن أتجاوز فلست بناس أن المهندس الحصين ينتسب لأرومة كريمة، وأسرة عريقة، فيها علماء ووزراء ومفكرون ومهندسون وكتّاب وآخرون من أهل الفضل رجالًا ونساء في مختلف الأعمار والاختصاصات، فمنهم والده الشيخ عبدالرحمن الذي عرف بالرحلات الدعوية مع شيخ المدينة وقاضيها الأشهر وإمام مسجدها لنصف قرن الشيخ عبدالعزيز بن صالح، وفيهم ابن عم أبيه رجل الدولة الكبير الشيخ صالح الذي بسيرته تُستعذب الجلسات وبمثله تسعد المناصب، وتبتهج العقول بمداد فكره، وإنها لأسرة نجيبة منجبة، والخير سمة ظاهرة فيمن بقي من أفذاذها وطلائع أفرادها.

وإذا كان الإيمان يأرز إلى المدينة، وهي محمية من الدجال الأكبر، فلعلّ البركة قد اجتمعت لمن تسنم فيها المراتب الرفيعة كي يجيد العمل، ويجوّد الأداء، ويبتغي الثواب، ويرنو ليوم المعاد، وتلك موضع غبطة أحسب أن المهندس الأمين قد وفق لبلوغها، ولأجل ذلك أفاض عليه الناعون وصف النزاهة، والمسؤولية، والأمانة الجديرة بكل مسؤول، والخلق شهود في الأرض، والله ربنا هو العليم الخبير.

ألا ما أسعد المرء بالخدمة العامة، والسعادة تكتمل إذا كانت الخدمات مبذولة في بلاد مقدسة ترتبط بسيرة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام وصحبه المرضي عنهم بحكم الله وأمره، ثمّ تكتمل البهجة إذا تواتر ثناء الناس على صاحب السيرة بالنزاهة، والصدق، والجدية، حتى أحبوه حيًا، وتواصوا بالدعاء له مريضًا، وشاركوا في الصلاة عليه وتشييعه ميتًا، ثمّ حرصوا على تأبينه بكلمات الوفاء التي تصف محاسنه بعدما غدا من عداد أهل البرزخ الذين يفرحون بدعوة من صادق، وعمل صالح من محب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين يوم عاشوراء عام 1444

08 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. أحسنت أخي الفاضل

    لقد قلت حقا و صدقا عن رجلا تفانى في خدمة المدينه و جعلها من اوئل مدن المملكة بالتخطيط و النظافة و انسياب حركة المرور تجد لها السبق بين مدن المملكة في عدد الحلقات الدائرية و سرعة الوصول إلى أي موقع في المدينة كذلك للمدينه السبق في العمل الإلكتروني في أعمال الأمانة الذي أثر و ساعد بقيت الإدارات الحكوميه بالمدينة بالعمل الإلكتروني.
    لم يأتي هذا الإنجاز من فراغ و إنما افرزته التربية الإسلامية الحسنة التي كان أساسها التوحيد و العقيدة الصحيحة عقيدة السلف باتباع أمر الله عن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم و بما عمل به صحابة رسول الله رضوان الله عليهم.
    إذا كانت تربية الشخص مستمدة من السنة المطهرة و من مكارم الأخلاق يكون الإنتاج صالحا و طيبا.

    غفر الله لوالديه على حسن العناية و التربيه الصالحه و غفر الله لوالدينا على ما قدموا لنا من تربية و نصح
    لهم منا البر و الدعاء.

    غفر الله لأخينا الغالي ابو اسامة :
    معالي المهندس عبدالعزيز الحصين
    لقد عرفته عن قرب و عملت تحت إدارته عدة سنوات
    كان اداريا حازما باحثا عن الأفضل باستمرار و التجديد لذلك كانت أمانة المدينة ايام أمانته و عمل فيها من أفضل أمانات و بلديات المملكة العربية السعودية و خاصة في الحاسب الآلي و كان التجديد و حسن العمل لأفضل النتائج هو هدف المهندس عبدالعزيز الحصين.
    أرجو من الله العلي القدير أن يكون جميع ما قدم في ميزان حسناته، و ان يتغمده الله برحمته و لا يكله لعمله.

    اللهم صل على نبينا محمد
    و على آله و صحبه و سلم.

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    تحية من ضفاف البسفور.
    آمين جزاكم الله خير . وأرجو الله أن يثبيكم على اعمالكم الجليلة عن سير أشخاص لم يعطوا ما يستحقون من الثناء في حياتهم او بعد موتهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)