إدارة وتربية سير وأعلام

مصحف ماما حصة!

Print Friendly, PDF & Email

مصحف ماما حصة!

يخرج أخي أ.د.عبدالله بن عبدالمحسن العساف من منزله إلى المسجد في أوقات الصلوات الخمسة، وهو يحمل في أغلب هذه الأوقات بين يديه مصحفًا شريفًا مغطى بتجليد فخم مكتوب عليه ماما حصة، فلا يكاد أحد أن يرى المصحف معه حتى يدعو للوالدة الراحلة بالرحمة والغفران كما سمعت من غير جار عزيز، هذا غير ما ينالها من ثواب تلاوة الأخ البروفيسور منه، وأجر من اقتدى به في التلاوة، أو اتخذ لنفسه مصحفًا ثمّ ورثه لمن بعده؛ وفضل الله واسع، وعطاؤه غير ممنون ولا مقطوع.

ولمصحف أمي هذا قصة خلاصتها أن المصحف أهدي لها في آخر عمرها من إحدى نسائها، فأبقته الوالدة لديها بضع سنوات، وحين دهمها المرض، وشعرت بعد تعاظم قوته بدنو الأجل، آثرت أن تهدي المصحف لأخي عبدالله، وقالت له ساعة تسليمه أثمن هدية: لقد اخترتك ليكون هذا المصحف لك شريطة ألّا تركنه على الرف، وأن تديم القراءة منه، فوعدها خيرًا، وقد أوفى، والله يعينه على ذلك طوال العمر، ويكتب لأمي وله وللمهدي الأول حسنات التلاوة والهداية والاقتداء.

وقد ذكرني هذا المصحف بمصحف والدي رحمه الله الذي ختم به القرآن الكريم مئات الختمات على الأقل، فلما توفي جعلناه في مسجد والله يتقبل، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذته لي؛ علمًا أن صورته راسخة في ذهني بغلافه الأخضر، وريشته السوداء. وتذكرت كذلك أن الوالدة غفر الله لها، قد تكفلت بإهداء عداد من المصاحف المجلدة لجمع من الفتيات والنساء، وعن طريق هذا الإهداء تعرفت إلى دكان يجلّد الكتب بمهارة، وصارت لي معه علاقة وحكايات أسردها لاحقًا. ومما صنعته الوالدة من هذا الباب أنها كانت تتعاهد العمالة الأجنبية لديها بنسخ من ترجمات المصحف بلغاتهم، ولم يعمل عندها أحد دون الظفر بنسخة من الترجمة، والله يجعل ذلك في موازين حسناتها.

كما أجدني سعيدًا بتحقق معنى هذا الحديث الحسن كاملًا في حقّ الوالدينرحمهما اللهبصورة مباشرة أو غير مباشرة بجهود الإخوة والأخواتحفظهم الله تعالىإذ روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ“.

ومما يرتبط مع هذا الأمر، ويتشابه في الفكرة، أن الوالدةنور الله قبرهاحرصت ألّا يبقى في بيتها كتاب لا يستفاد منه، وكم من مرة ومرة أعطتني مجموعة من الكتبتزيد أو تنقصلأتصرف فيها حسبما أراه؛ فلا فائدة من خير مكدّس في مكان، وبالإمكان إبرازه للناس كي يستفيدوا منه. وإن ثقافة تصريف الزائد، والحيلولة دون الكنز لغير حاجة أكيدة او متوقعة، لمما يخفف على البيوت، ويقلل الإسراف، ويعين على قضاء الحوائج، ولو تفقد كل إنسان منزله وممتلكاته لوجد فيها خيرًا يمكن الاستغناء عنه بلا عناء، ولا حتى شعور بالنقص، وكم في المجتمعات من حاجة لذلكم الفائض لو كنا نعلم!

ألا ما أجمل الهدية وأحسن وقعها على النفس، وخير ما تكون الهدايا حينما تلبي رغبة سابقة عند مستقبلها، ولن تكون أيّ هدية في مقام المصحف الشريف أو حتى تدانيه، فهو كتاب ربنا، وكلامه المنزل، ووحيه المحفوظ، ومن الجدير أن تحمله أو بعضه الصدور، وتحتوي البيوت على نسخة واحدة منه على الأقل، وأن تحظى بالتجلّة والإكرام، في القراءة والإتباع، خاصة بعدما طاشت عقول الغرب، وأظهر الله أضغانهم بأفعال شنيعة، وجرائم قبيحة، والله يجعل المصحف عاليًا في النفوس، وفوق الرؤوس، وفي كل موضع وحال وزمان، ويجعله أنيس الحياة والبرزخ والمبعث لنا، والشفيع عند الحساب، ومما ورثناه لمن بعدنا.

والشيء بالشيء يذكر؛ فمع الفرح والحبور بالمشروعات العديدة الرقمية والإلكترونية للمصحف الشريف، وتوافرها حسب القراءات، إضافة إلى التفاسير المتنوعة، والترجمة إلى لغات عالمية وإسلامية، وبتلاوات صوتية مختلفة، مع سهولة البحث والتوقف وغيرها من الخدمات، إلّا أن وجود النسخ الورقية ضروري للغاية، ولذلك فما أعظم أجور العاملين في هذا الأبواب التقنية الحديثة، ومثلهم أولئك العاملين في المطابع التي ترعى أكثرها حكومات المسلمين، وأجلّها حتى الآن فيما أعلم مصحف المدينة النبوية الصادر عن مجمع الملك فهد، وإنه لمجمع مبارك حقًا وصدقًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين 27 من شهرِ المحرم عام 1445

14 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. اللهم اغفر لهما وأرحمهما ووالديهم الى يوم الدين وتقبل الله تلاوة البرفسور ورفعه في الدنيا والآخره .. وجزاك الله خير وبارك الله في علمك وقلمك على جميل ماتكتب

  2. رحم الله والدتكم حصّة، أم النشاما والرجال الغاليين، وأسكنها فسيح جنانه، ورزقنا الله صحبتها ووالدينا ومن نُحب في الفردوس الأعلى، وسقانا الله جميعاً شربة هنيئة من حوض نبينا محمد ﷺ.

  3. الله يجزاكم خير جميعا
    ويغفر لوالديكم ويسكنهم الفردوس الاعلى من الجنه
    وان شاء الله انكم علي الطريق الصحيح والله يرزقكم بر أولادكم

  4. الكاتب الفاضل والاديب احمد حفظه الله ورعاه ، لم انسى اول تعليق لي كتبه لك وانزلته في مدونتك ، شكرالك دوما ،وعرفاني بجميل خلقك ، لن انساه ، والان اعود واقرا كل تعليقاتي التي انزلتها وهذا عملك واحترامك لكل قراءك وتعليقاتهم ، وانا اقراء مصحف والدتك الطاهرة النقية التي يعود الفضل لها ولوالدك لهم الفضل في توجيهكم التوجيه الصحيح ، حفظكم الله العلي القدير،ورعاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه ، وانت يا اختي الكريمة حصة رحمك الله انت وزوجك وجعل قبوركم روضة من رياض الجنة واسكنكم فسيح جناته ، وانتم ومن تحبون ، كرمك وصل لي وانا بعيده وغريبة عنك ، لان امنيتي كانت ان اراك والتقي بك بحج او عمرة لاهنك على ما يكتبه ابنك حفظه الله ، وما يستفاد منه القراء ، ولكن رايتك برؤيا في المنام قبل وفاتك ،وانا ،اسال اين والدة الكاتب احمد ، ليشيرو عليهابوجة ابيض ووجه متورد ، ونظره جميله بوجهها ، فاحتضنتها وانا مسرورة ، ، والان وفي كل وقت من صلاتي اطلب لها ولزوجها وولوالديهم ووالدين والديهم الرحمة والمغفرة ، اكراما لهم .

  5. غفر الله لها ورحمها رحمة واسعة، لا يسعني أن اقراء مقال يخصها دون أن يعبرني حزن حقيقي و ألم الرثاء لسيرتها،حتى أني أفقد السيطرة على سكينتي لشدة ما يؤثر فيني اسمها او طرف من ذكرها؛ فقد من نحب بالموت يرعبني لا أذاقنا الله إياه ..هذا المقال خلع قلبي من منتصفه، البروف عبدالله -حفظه الله- رجل نبيل جدًا أنجبته امراءة عظيمة، يتلمس هداياها بقدسية المشتاق، ويحتضن أقرب اشيائها لصدره، يتأجج محبةً ويتجمّر حزنًا إليها فينكب على قراءة مصحفها ابتغاء الأجر، ما أحوج الحياة للأنقياء الأوفياء مثله، موقفه يدّرس كنموذجًا يُحتذى به، فالرجولة لا يسعها الضعف بل أن تكون فخورًا بمن تحب وأن تكسر كل بروتكولات الحياة لأجل من أحببت، فكيف لو كانت أمًا تُخضع لها كيانك دون تردد، فخورين جدًا في البروف عبدالله وبأصالته التي لا تتكرر وأعلن محبتي وانتمائي للصادقين مثله!
    الأمر الآخر تصرفها -غفر الله لها- يدل على كرم نفسها وعلو أخلاقها وشهامة نادرة منها بأنها لم ترجع الهدية لصاحبتها وهذا يحمل كثير من الحكمة، رجوع الهدية على صاحبها فيه ذكرى ومشاعر لا تحتمل ولا تطاق، لذا آثرت أن يكون الخير متصلًا لا منقطعًا.. وجعلته مستمرًا بين يدّي العبد البار-عبدالله- أعلى الله شأنه ورفع قدره!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)