إدارة وتربية

مصحفك: الأنيس والميراث الخالد

Print Friendly, PDF & Email

مصحفك: الأنيس والميراث الخالد

دخل إلى مسجدنا المجاور للمنزل -قبل أقلّ من عشرين عامًا بقليل- جار مسنٌّ حديث السكنى، وكنت أسمع وقع عصاه وهو يمشي، ثمّ اقترب مني في روضة المسجد ليؤدي الراتبة أو التحية، ونظر إليّ وأنا أقرأ القرآن من جهازي “الكيوتك” أو “الآيميت”-قبل ظهور الأجهزة الذكية المنتشرة الآن-، وأشار بالعصا نحو رفوف المصاحف الورقية التي أمامنا وخاطبني بنبرة غاضبة مؤدبة قائلًا: المصحف هذا وليس الذي معك! اقرأ منه وليس من الجهاز فالمصحف لم ينزل في الأجهزة!

لم أناقشه لأخبره أن المصاحف لم تنزل حتى في الورق الذي نراه بين أيدينا، ثمّ أقفلت جهازي وأخذت أحد المصاحف لأكمل القراءة منه، وآثرت هجر جداله والظفر بأجر ترك المراء؛ فهو جار جديد، وشيخ كبير، ونحن في مسجد ولا أدري عن طبع الرجل وأخشى لو حاورته أن يتطور الأمر إلى لجج وإزعاج لا فائدة منه حتى لو حججته، ورابع سبب لتجنب الجدال معه أحتفظ به لنفسي ولو سُألت عنه لربما أخبرت بعض السائلين. ولإتمام الحكاية أقول إن الرجل لم يمكث في الحي وعاد إلى بيته القديم المألوف لديه، وأما أنا فقد خفضت من قراءة الكتاب العزيز عبر الجوال إلّا للضرورة ليس بسبب رأيه وإنما لتفضيلات شخصية.

وإني لأغبط كلّ ذي مصحف يقرأ فيه آناء الليل وأطراف النهار ومتى سنحت له الفرصة، أو يراجع فيه حفظه، وأذكر من هذا الباب أن حافظًا أعطاني مصحفه ليراجع حفظ سورة من طوال القرآن، وحين فرغ سألته ونحن في طريق سفر بري بعيد: لم لا يكن معك مصحف من الطبعات الحديثة مثل طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة فهو من أحسن الطبعات الموجودة إن لم يكن الأحسن؟ فقال: مصحفي هذا قديم معي وقد ألفته وعرفت فيه المواضع كي أتخيلها لو ضاع شيء من الحفظ، وفوق ذلك أبقيه لأولادي أو أوقفه على أيّ مسجد عقب وفاتي.

فطارت بي الذكرى حينها لمصحف والدي عليه رحمة الله ورضوانه، فلم يكن المصحف ينزل من بين يديه إلّا لضرورة، وبناء على ذلك فما أكثر ختماته التي شهدتها والله يجعلها من حسناته المتقبلة المضاعفة، وليتنا حين توفاه الله في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول عام (1413) احتفظنا بمصحفه معنا لنقرأ القرآن منه، وتبقى لنا فيه ذكرى الوالد وموضع يديه ورائحة عطره وريشة التوقف، والله يكتب له أجر المكان الذي أُودع فيه مصحفه، وأما مصحفه الدائم الآخر في المسجد فهو من الأوقاف التي لا يجوز إخراجها من موضعها.

ثمّ تذكرت فيما تذكرت أولئك الأشياخ الين هم إلى وصف العوام أقرب، بيد أنهم عبّاد ولكل واحد منهم مصحف ملفوف بقماش يميزه، ويضعه في مكان يعرفه ضمن رفوف المسجد، حتى يقرأ فيه قبل كلّ صلاة وبعدها، وما أكثر مكوث بعضهم في المساجد ويالها من سعادة وانشراح لا نظير لها في أيّ بقعة أخرى، وكم رأيت بعضهم يحتضن مصحفه وينفرد به، ثم يتلو بخشوع وتمهل، ولم يكن يشغلهم جهاز أو غيره.

كما سمعت عن أحد العلماء المعاصرين الذين اشتهرت عنهم القراءة العلمية والثقافية لمدة تتجاوز عشر ساعات يوميًا أنه قال: سعادتي في القراءة الآن مع القرآن فقط، وليتني صرفت جميع ساعات القراءة السابقة لكتاب ربي الذي لا يُشبع منه، ويحكي العالم الرباني- أحسبه ولا أزكيه- ذلك مع أن مقرؤه كله أو جله من كتب الشريعة وعلومها وما تفرع منها، فماذا يقول الذي يهيمون في أودية القراءة يمنة ويسرة؟! فاللهم اجعل لنا من كتابك وخطابك العظيم أوفر الحظ والنصيب، وإن الإمساك بالمصحف لشرف رفيع ولذا فما أكثر الصور التي تلتقط لأناس وهم يحملون المصحف بين أيديهم، فكيف لو كان الإمساك دائمًا خفيًا بقراءة خاشعة وتدبر وعمل وبكاء؟

وإنه ليبهرني خبر بعض النساء الكبيرات أو الشواب وعلاقتهن الدائمة بالمصحف الشريف اقتناء وقراءة وتجليدًا، وأذكر أني وقفت على محل لتجليد الكتب في الرياض، يعمل به رجل مصري أشيب بارع للغاية اسمه عبدالعزيز، وكنت ألحظ كثرة المصاحف التي لديه، وجلّها مكتوب على غلافها الخارجي أسماء نسائية. وبالمناسبة فقد كان ذلكم الرجل المجلِّد يتفنن في تجليد المصاحف ويضاعف العمل فيها، وليته بقي وليت متجره لم يغلق؛ إذ كان المفزع في التجليد لأن أصابعه من ذهب حسبما أقول له فيبتسم ابتسامة رضا واسعة.

فيا أيها الناس: ليكن في بيوتكم مصحفًا أو أكثر، ولا تستكثروا شيئًا على المصحف ونشره وخدمته نظرًا لكبير الحاجة إلى ذلك، ولنكثر من قراءة القرآن الكريم وإقرائه لأهل البيوت والذرية مع جدولة التلاوة والحفظ والمراجعة قدر المستطاع؛ فلربما أن المناهج الدراسية لا تستطيع أن تعطي هذا الجانب المهم قدره الذي يليق به، وهي مسؤولية شرعية تربوية في عنق الأبوين. ومن نافلة القول الحذر من أن يعلو الغبار فوق مصاحفنا، أو تصير على رفٍّ هو إلى الزينة أقرب، أو أن تصبح مكانة المصحف خافية على الأبناء كي لا تنقطع تلاوتهم منه، وحتى يحسنوا التصرف فيه بما ينفع صاحبه عقب ترحله عن الدنيا؛ فهو لعمر الله خير ميراث يبقى.

وأخيرًا فمما روي عن إمامنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ”، وهو حديث مروي في بعض دواوين السنة، وحسنّه الإمام الألباني في صحيح الجامع، فاللهم اجعل مصاحفنا رفيقة لنا في الدنيا، وأجرًا لنا عقب مغادرة الحياة إلى البرزخ والدار الآخرة حتى تنير الأجداث والصراط، وتؤانس الوحدة والوحشة، وتقودنا إلى مرضاتك وجنانك.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 08 من شهرِ محرم عام 1443

17 من شهر أغسطس عام 2021م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خيرا في كل كلمة وحرف خطته يداك في هذا المقال القيم النافع الذاكر . فذكر ان نفعت الذكرى وجعل ماتكتب في ميزان حسنات والديك وحسناتك . وجعل اولادك قرة عين لك ولاامهم .

  2. جزاك الله خير يااستاذ أحمد على المقالة الجميلة واذكر بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي ليس في جوفه شيء من القران كالبيت الخرب صدق الحبيب صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل القران العظيم ربيع قلوبنا وذهاب غمومنا واحزاننا وقائدنا الى جنات النعيم يارب العالمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)