سير وأعلام عرض كتاب

ناصر المنقور: الفريد موقعًا وأثرًا!

Print Friendly, PDF & Email

ناصر المنقور: الفريد موقعًا وأثرًا!

يهب الله لبعض خلقه خصيصة لم يسعوا إليها، فيجعل لهم في قلوب الناس على اختلافهم من الوداد عجبًا، فيغدوا الواحد منهم كنبع ماء فياض؛ زحامه كثير، ويرتاده الجميع، ولا يكاد أن يكدره شيء، ولا يستطيع أحد غمطه حقه وحقيقته، ويبدو أن معالي الشيخ ناصر بن حمد العبدالمحسن المنقور (1348-1428) إنسان من هذا الصنف.

كان الشيخ الوقور رجل دولة من الطراز الراقي جدًا في صمته وحديثه، في مكتوبه ومنطوقه، في موافقته ومخالفته، في جديته وممازحته، فنعم الذين حوله بالتعامل مع شخصية تحمل قدرًا ضخمًا من الصفاء والنقاء لا يخالطه غش ولا غلّ ولا حسد، وليس أدلّ على ذلك من إبدائه صريح رأيه، وترشيح آخرين للمناصب، وإتاحة الفرصة لمرؤوسيه ليكونوا بجوار كبار الأمراء إذا زاروا البلاد التي عمل فيها سفيرًا، وغيره لا يفعل ذلك إلّا مضطرًا، ونصيحته الصادقة لهم وبها نجى رجل من أن يكون مدبرًا في قصر وأصبح سفيرًا.

ولأبي أحمد فرائد لم تجتمع لأحد غيره، فأولها أنه تولى العمل في “المعارف” مديرية ثمّ وزارة، وخلال عمله جاب البلاد وزارها خفية كي لا يقع ضحية الولائم والمناسبات، وبحيوية حتى لا تهزم عزيمته الصحراء القاسية، وبعد أن استبان له الواقع، وانكشف الحال، كتب بوضوح عن أوضاع التعليم المتردية حتى انتقده رؤساؤه على هذه الصراحة تجاه قطاع هو أحد مسؤوليه، ولم يرفع المنقور بذلك رأسًا لأن التعليم لديه هو الأول وهو الأخير، ولا شيء بينهما!

وفي حقبة التعليم العام شارك بحماسة في نهضة المدارس سواء باستقدام المعلمين، أو برفع تأهيل الموجودين، وتشييد المباني، وتحسين الأثاث والوسائل، وتطوير المناهج، وافتتاح المدارس في أماكن كثيرة، ومنح المكافآت للطلاب، وتنظيم إسكان المغتربين، وإنشاء مدارس ليلية لتعليم الإنجليزية أشرف عليها بنفسه، مع الحضور الفاعل في المؤتمرات الخارجية، واستضافة بعضها.

أما قصته مع الجامعة الأولى فرواية لا تمل، ذلك أنه عارض الاستعجال في إنشائها بذريعة منطقية ملخصها أن بنيتها الأساسية مفقودة، وحين أصر المسؤولون على تنفيذ الفكرة حمل على عاتقه ملف الجامعة الوليدة بكل إخلاص ولم يلتفت لرأيه السابق الذي صرح به دون مواربة، ويشاء الله أن يموت مدير الجامعة الأول د.عبدالوهاب عزام فتحال الجامعة بما فيها عليه ليصبح مديرًا لها دون أن يتخلى عن مكانه في وزارة المعارف، وبذلك صار أول سعودي وخليجي يدير  الجامعة الأم في المنطقة، وأول وآخر مدير للجامعة ليس من طاقمها الأكاديمي، وتلك فرائد ما كانت لغير المنقور.

وخلال أقلّ من عامين حلّق الشيخ ناصر بالجامعة؛ فجهز معامل كلية العلوم، وأنشأ المكتبة وكلية الصيدلة، وابتعث طلابًا للدراسة، واستقطب أساتذة، وعقد في رحابها مؤتمرًا لمديري الجامعات العربية كي يناقشوا نظامها الذي استحدث بإصرار المنقور، وكانت تلك لفتة ذكية منه حين استزار لجامعته أسماء أكاديمية لامعة، تدير جامعات عربية بعضها عريقة، وفي حضورها مزية للجامعة الوليدة وثقة بها، وما أحوج الأعمال الكبرى لذي البصيرة العميقة.

كما سعى لترتيب وضع الجامعة الإداري، وفتح باب الانتساب، وأقام ندوات عامة ألقاها علماء ووزراء وأدباء، ومن اللطيف أن يلقي عميد كلية الصيدلة د.محمد الغمراوي محاضرة عن سينية البحتري! واجتهد المدير المنقور لتوثيق الصلة مع الجامعات العربية، وأصدر مجلة سنوية للجامعة، وساعد الإذاعة بأحاديث إذاعية من إعداد الأساتذة، وأثرى المكتبة بالمراجع والكتب، ولم يتوقف عند هذا الحد بل كان قريبًا من الطلاب لدرجة إيقاظهم من نومهم في غرفهم بالسكن الجامعي، واستقطب للجامعة كل سعودي مؤهل ومن أبرزهم معالي د.عبدالعزيز الخويطر.

بيد أن مقامه بالجامعة وفي رحاب التعليم لم يستمر، إذ سمي فجأة وزير دولة لشؤون مجلس الوزراء، وهو المنصب الذي لم يحمله قبله ولا بعده أحد، وبالتالي فهو من فرائده التي يضاف إليها أنه المواطن الوحيد الذي وصف برئيس مجلس الوزراء، والذي يظهر أن الرجل أدار ملفات مهمة داخل المجلس ومع الوزراء من غير الأمراء الذي تناقص عددهم بالاستقالة تباعًا، فنال صفة تشبه المرجعية لغيره من الوزراء، ومن لطيف الموافقات أن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أسندت للمنقور بعد شهور مع منصبه الفريد، وبعد إقالته أضحى عديله معالي الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل وزيرًا للعمل والشؤون الاجتماعية.

ثمّ انصرف أبو أحمد بعد العمل الحكومي المنهك إلى شؤونه الخاصة، ونوى أن يستثمر في الثقافة والإعلام، فلم يتيسر له ذلك، لكنه شارك في تأسيس صحيفة الرياض وفق نظام المؤسسات وكتب أول افتتاحية لها وتلك فريدة له، ورأس شركات كبرى في القطاع الخاص، وساند طلاب الجامعة للحصول على وظائف فيها بعد أن كان إبان إدارته الجامعة يحثّ الشركات والمصارف على تدريب الطلاب وتوظيفهم.

لكن بقاؤه في القطاع الخاص المحلي كان دون سن الفطام؛ فاختير سفيرًا للمملكة في عدة دول، وأمضى في مهامه الدبلوماسية ثلاثة عقود كان فيها سفيرًا مقيمًا في بلاد، وغير مقيم فيما يجاورها من بلدان، وله تاريخ مشرف من الحضور الدبلوماسي السامق في اليابان، والسويد، وإسبانيا، وبريطانيا التي رغب أن تكون ختام مسيرته مع أنه رشح للعمل سفيرًا في سويسرا، واللافت أنه في سفاراته الشرقية والأوروبية عمل في بلاد ذات نظام حكم متشابه، وإنها لفريدة تضاف لسجل الرجل الذي وصف يومًا بأنه رئيس الوزراء.

وإن جهوده الدبلوماسية لجديرة بالإبراز، إذ ساهم بجمع كلمة المجموعات الدبلوماسية العربية والإسلامية، وظلّ يجول بين جنبيه هم التعليم ولذا كان سببًا في بناء المساجد والمدارس والمراكز الإسلامية، ووقف بنفسه على اختيار طواقمها التعليمية والإدارية، وتبنى أكاديمية الملك فهد بلندن وكأنها أحد أبنائه، وانتزع من شركة الزيت سيطرتها على تمثيل البلد في طوكيو، وحاول استرجاع جامع قرطبة لأصله المرتبط بحضارتنا الإسلامية.

كذلك بنى جسورًا للتعاون مع الإعلام المهاجر، ولم يقطع شعرة التواصل حتى مع أصحاب الأقلام الحادة، وأنجد زملاءه الدبلوماسيين العرب الذين تورطوا بسبب جهالات ذوي الأمر في بلدانهم، وأوجد جمعيات صداقة مع الأجانب لرعاية مصالح بلاده، ولم يغفل عن الطلبة المبتعثين من خلال اللقاءات والحفلات، ومما روي عنه أن راتبه يذهب في نفقات بعض هذه المناسبات، وأنه كان في السفارة بالسويد الناسخ والمراسل والمنسق والسفير دون ضجر أو تأفف من نقص موظفي سفارته، وأدى الأعمال صغيرها وكبيرها بسماحة نفس حتى اكتمل الطاقم معه.

ومن وعيه المتقدم أنه فهم البلاد التي عمل فيها، وعرف كيف يخاطب مسؤوليها، ووصف هذه الديار وأهلها وصف الخبير الدقيق، فالياباني منجز، والسويدي قارئ، وكلاهما يبادل حكومته المحبة والثقة، والإنجليز شعب عريق محافظ على تراثه؛ ولذلك استطاع أن يقنعهم باستحواذ السفارة السعودية على أحد المباني الأثرية دون تغيير معالمه الخارجية، وتاريخه الدبلوماسي فيه من النصاعة والإلهام ما يجعله مجالًا للدراسة لو نشط إليها أحد الباحثين المهتمين.

ويحتف بسيرة المنقور دعوى الانتساب إلى “نجد الفتاة” وهي شبهة تقوم على التصنيف الجائر، والحسد البغيض، وتحميل الكلمات العابرة، والإعجاب البريء، والعلاقات الإنسانية الطبيعية، والقراءات الفكرية، أكثر مما تحتمل، مع الاتكاء على تفسير آراء الشباب المندفعة كأنها باقية مع صاحبها في مراحل الكهولة والأشد، وهي نوع من عسف أوجه الرأي ليوافق هوى في النفس، مع تنبيش في الآثار لتركيب ما يشبه مسرح الجريمة لحادثة لم تقع، ويزيد نيرانها الافتتان بإطلاقات الغربيين وهم أبعد الناس عن فهم الطبيعة الإسلامية والعربية لمجتمعاتنا؛ فضلًا عن غياب موضوعية كثير منهم تجاه قضايانا مثل أسلافهم في الحركة الاستشراقية.

للمنقور تراث مكتوب أو ملقى، وله كلمات مؤثرة منها: سوف نكتسب ما نعتقد جازمين أنه الخير كل الخير لهذه البلاد، ونرجو من الأعماق صادقين مخلصين أن لا نقع في الخطأ، وعندما سأل عن توحيد الزي المدرسي للطلاب اشترط للموافقة توافر شرطين: أن يعبّر الزي أحسن تعبير عن وطننا، وألّا يكون مكلفًا، وأعجبه في مجلة معهد الأنجال الذي يديره الشيخ المربي عثمان الصالح المساواة بين أعضاء التحرير والمشاركين بحسب المهارة دون نظر لكون صاحب المشاركة أميرًا أو من عامة الناس، والدنيا عنده حلقات لا تنفصل عن بعضها ولا تثريب على المرء في ذلك.

بينما يجزم أن المطلوب من الصحافة السعودية: التجرد والواقعية، وترك المبالغة، ويرى أن الحرية شرط للنجاح، وهي الحرية المتزنة الهادئة التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتضع المصلحة العليا قبل أي شيء، ويؤمن بعبارة عكست نهجه الإداري والإنساني، ورافقته في مكتبه أينما انتقل، وهذه العبارة هي: حركات الأفلاك لا تبقي لأحد نعمة، ولا تديم عليه نقمة، فمن ولي منكم أمرًا فلتكن همته تعليق المنن بأعناق الرجال، ومن الطبيعي أن يكون ذلك بما لا يتعارض مع المصلحة العامة.

أما رفيقه في أوقات كثيرة معالي د.عبدالعزيز الخويطر فيقول عنه: ناصر يعرف الرجال، ولا ينفعل، ولا يجلس على سفرته وحيدًا، ويحسن التصرف في المواقف الحرجة، ويحب المساعدة، ويقترح سبل الخير للغافل، ولو استعرضنا فهرس كتاب الخويطر الضخم “سوانح على أديم الزمن” فسنجد كثرة الإشارة للشيخ ناصر، وفي تضاعيف أخباره دعوات عشاء وغداء من رجالات المجتمع، مما يشير إلى محبته التي اتفق عليها هذا الجم الغفير من الناس، ويجزم معالي الشيخ د.محمد يماني، ومعالي الدكتور محمد الملحم بأن المنقور بعيد عن الإقليمية، برئ منها.

يمكن تلخيص حياة المنقور بأنه مسكون بالتعليم والثقافة، وبالكتاب والقراءة، يحب النفع والنجدة، وينأى عن التنغيص والتدليس، ويقدر الناس وينزلهم منازلهم وإن لم يوافقهم، وهو واضح في آرائه ونصائحه، متشبث بثقافة مجتمعه ودينه ولغته حتى أنه استقدم معلمًا خاصًا لأولاده يدرسهم الدين واللغة، واشترط على أيّ طباخ يعمل معه أن يتقن الأكلات السعودية الشعبية التي لم تُفقد على موائده في عواصم العالم، وكان بعيدًا عن التكلف فأوصى أن يُدفن حيث يموت، وهو ما كان حين وافته المنية في لندن، وحال دون إيقاع المشقة بذويه ومحبيه.

هكذا بدت لي شخصية رجل الدولة الكبير معالي الشيخ ناصر المنقور بعد أن قرأت ما كتبه عنه الخويطر وغيره، وقرأت الكتاب الأهم عنه بعنوان: ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة، تأليف: محمد بن عبدالله السيف، صدرت الطبعة الثانية منه عن دار جداول في أبريل عام (2015م)، ويقع في (٥٧٦) صفحة، ويتكون من إهداء ومقدمة، فأحد عشر فصلًا، ثمّ ملاحق وفهارس، وهو من الأعمال الكريمة التي يحسن بها السيف لمجتمعه، ولتاريخ رجالات بلاده، وله في ذلك سابقة موفقة مع معالي الشيخ عبدالله الحمود الطريقي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة غرة شهر رمضان المبارك عام 1441

24 من شهر إبريل عام 2020م 

Please follow and like us:

10 Comments

  1. رحم الله الشيخ الفاضل الوقور ناصر المنقور برحمته الواسعة . وجعل مثواه جنة الفردوس . وبارك الله العلي القدير له في اهله وذريته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)