سير وأعلام

حجيلان: أمير بريدة الأغر

Print Friendly, PDF & Email

حجيلان: أمير بريدة الأغر

أجد في نفسي سرورًا عريضًا حين أستعرض سير المؤثرين، ذلك أن إحياء مآثرهم، وإبراز خصالهم، وتجلية مكامن النبوغ لديهم، يبعث سنة الاقتداء الحسن فينا، ويؤكد أن هذه الأمة نجيبة تختزن الكثير من المواهب والقدرات التي لم تنبعث من مراقد سكونها بعد، وفي الاقتداء نجاة، وفي النجابة أمل بمستقبل أحسن إذا صلحت النوايا، وكان معها تأييد من الحكيم العليم.

ومن الشخصيات التاريخية الباهرة اللافتة أمير بريدة الأشهر حجيلان بن حمد آل أبو عليّان (1150-1234)، الذي ولي الإمارة أربعين عامًا (1194-1234)، فنقل بلدته ومعها القصيم نقلة تاريخية لا يجحدها منصف، واجتمعت فيه صفات القيادة من بعد النظر، والحكمة، والحزم، والشجاعة، والحميّة لقومه، وسيرته تشهد له بهذه المزايا كما سيأتي، ونال من اسمه نصيبًا وافرًا، فهو الأظهر سيرة، المحمود شأنه، العالية أعماله، والآخرة خير وأبقى لمن اتقى وأحسن.

لم يكن حجيلان قبل الإمارة إلّا رجلًا من أسرة عريقة كبيرة استوطنت بريدة بعد مغادرة موطنها الأصلي في ثرمدا، وتعود أسرته القريبة آل أبو عليّان إلى الأرومة الضخمة وهم العناقر من بني تميم، وحين شاء الله أن يبرز حجيلان سلّط أمير بريدة على أهلها وعلى بني عمه من آل أبو عليّان الذين ضاقوا به ذرعًا، فقرروا التخلص منه، على أن يكون حجيلان هو قائد فرقة الخلاص، وفي اصطفائه من أكابر أسرته لهذه المهمة الحرجة دليل على فراستهم الصائبة التي اهتدوا إليها من ملاحظة الرجل، وفحص قدراته، ومعرفة نبوغه، وتحققوا من ذلك لما رفض حجيلان أن يشارك معه أحد ليس على استعداد لتحمل المغامرة وتبعاتها.

وبعد أن استولى حجيلان على الإمارة شرع من فوره ببناء سور عظيم حول بريدة وما يحيط بها، وأقنع أصحاب المزارع المجاورة بالمشاركة سواء بالدواب أو بالطين المتوافر عندهم بكثرة وجودة، وتعاون رجال بريدة على بناء هذا السور الشامخ الذي حمى الله به البلدة وأهلها من عدوان قوى مجاورة، ومن حملات بغي من بلاد بعيدة، مع أن المعتدين كانوا أولي عدد، وعدة، وبأس شديد.

لذلك وقف جيش الأحساء الضخم بقيادة سعدون بن عريعر عاجزًا عن اقتحام بريدة عام (1196)، وظلّ الجيش يحاصر السور وأهله أزيد من أربعة شهور دون جدوى، وفي هذه الحملة قُتل عدد من العلماء والأئمة بالقصيم إلّا من كان منهم في بريدة، وحاول ابن عريعر استمالة بعض الطامعين من بني عم حجيلان كي يفتحوا الأبواب أو يخرقوا وحدة المجتمع، فلم يمكنّهم الأمير المتيقظ من ذلك، وأجهز على المتآمرين وإن كانوا ذوي رحم.

ومن ذكاء الأمير حجيلان أن تزوج من قرينته الثانية لولوة العرفجية خلال مدة الحصار، فلما سمع سعدون أصوات الفرح والدفوف، وعرف بعد سؤال أنها تعود لعرس الأمير، صاح بجيشه إيذانًا بالعودة، فلا مغنم يرجوه، ولا نصر يؤمله، من بلدة يحتفل أهلها بزواج أميرهم علانية، وجيش الحصار على الأبواب، فما أعظم بركة التلاحم والتضامن بين القيادة والناس.

ثمّ بعد أن قفل جيش الأحساء وابتعد، استنهض حجيلان جيشه للفتك ببلدة الشماس المجاورة التي كانت تطعن بريدة في خاصرتها، وساندت الجيش الأحسائي، فأجلى سكان هذه البلدة، وألغى وجودها على الأرض، ليأمن من اتخاذها قاعدة للتجسس أو الهجوم، وقطع دفع زكاة بريدة لها كما كان فيما مضى، ومنح لبلدته الاستقلال الكامل في قرارها ومالها، وإن طعم الحرية لألذ من أيّ لذيذ ومشتهى.

كما حرص حجيلان على تكثير سواد مدينته وأناسها ببصيرة وانتقاء، فأغلقها إلّا عن تاجر أو صانع أو مزارع، وأما من يطلب العمل فيها، ولا مجال لاحتوائه فليس له مكان في بلدة أهلها أحق بخيراتها، وحثّ تجار بريدة وشبابها على المسير في قوافل العقيلات، ولا عجب أن يكون أهل بريدة أكثر العقيلات عددًا، فانتعشت في عهده المديد الأسواق، وزادت الدكاكين، والسلع، والمنتجات، والمصنوعات، وصارت بريدة مغرية لذوي الآمال بعد أن كانت بلدة مغمورة.

بيد أنه لم يقصر جهده على التجارة والصناعة والزراعة مع أهميتها فهي قوام الحياة، وإنما تسامت همته للعلم الشرعي، ونشر الدعوة الصحيحة، فاستضاف من الدرعية أحد علمائها الدارسين على أشياخها الكبار وهو الشيخ عبدالعزيز بن سويلم، وزوجه وأكرمه؛ فجلس في جامعها الكبير، وانبثقت حلقات العلم، حتى صارت بريدة مركزًا علميًا، ولولا العوائق لأصبح جامعها قرينًا لجوامع الإسلام الكبرى في التدريس، والتخريج، والتأليف.

أما دهاء حجيلان السياسي، ودقة تقديره للموقف؛ فيستبين من تحالفه مع الدرعية القوة الصاعدة في الجزيرة العربية آنذاك، والمعتمدة على دعوة توحيدية نقية، وكانت له مواقف مناصرة مع الدولة السعودية الأولى إذ قاد الجيوش لصالحها، وضم حائل وجبلها تحت جناحها، وأخضع لها حواضر الشمال وقبائله حتى تخوم العراق والشام، وشارك في إدخال الأحساء تحت رايتها، وبرأيه استنار إمام الدرعية فغلب على بعض المدن العصية بيسر، ودون قتال كبير، ولذا فليس بغريب أن تصفه الوثائق العثمانية بالمعاون الأول لحاكم الدرعية والوزير الأول له، ووصفته بعض المراسلات بأنه أمير القصيم.

ومن بعد نظره أن رجلًا اشتكى آخر بتهمة إطالة النظر نحو نسائه، والمُشتكى منه قناص ماهر لا تكاد أن تخطئ منه رمية في الحرب، ويبدو أن المعترِض قاس مهارة عينيه إبان السلم على دقة تصويب بندقيته في الحرب؛ فأدركته الغيرة على محارمه، فما كان من حجيلان إلّا أن قال للمدعي: لو جاز شرعًا لزوجته من عشر نساء كي ينجب لبريدة أولادًا بمهارته وحذقه، وأنت يسعك أن تكف نساءك وتأمرهن بالستر!

كذلك لم يغب عن فقه الأمير إشاعة عمل الخير في دياره، فجعل من قصره ملاذًا للعجزة والضعفة، وذوي الحاجات، والفقراء، حتى أضحوا موضع عناية المجتمع بكافة طبقاته، وكلّ على قدر سعته، فالناس على منهج كبرائهم، فما يروج عند سراة القوم ينتشر بسرعة لغايات التزلّف والمشابهة، أو هو نوع من التقليد الطبيعي للأكابر مع خلوه من الأغراض الشخصية، ويبدو لي أن ثقافة العمل الحر، والعمل الخيري في بريدة الغالية وأهلها الكرام من أثر تلك الأيام، وهما في نمو كمًا وكيفًا حتى اليوم.

لأجل ما سبق ظفرت بريدة باستقرار سياسي كبير، وخيرات متتابعة، وأمن سابغ، وسلمت من سيطرة قبيلة أو فئة عليها، فصارت الحياة فيها رغيدة، والتوافق والتكامل سمة مجتمعية بعد سنوات عجاف من التنازع على السلطة أو الوقوع تحت ضغط الجوار، وارتفع عدد سكانها إلى أضعاف ما كانت عليه في بداية حكم حجيلان، وصمدت أمام حملة ثويني بن عبدالله شيخ المنتفق عام (1201)، وغدت مرجعية لأكثر بلاد القصيم، وإن التوفيق من رب العالمين يناله المخلص الذي يطلبه بالدعاء، ويتبعه برشيد الرأي، وجميل العمل.

أما حين ابتليت الجزيرة العربية ومنطقة نجد بالحملات المصرية العثمانية التي سيرها حاكم بأمر سلطان وكلاهما بعيدان عن الشريعة والعدل، فقد سار حجيلان على رأس جيوش مكونة من بلدات نجدية لمواجهة الجيش الغازي في سنوات هجومه الأولى، وفي ذلك دليل على مكانته لدى أمراء الدرعية، وبعد عودة الجيش بقيادة إبراهيم باشا لم يتعرض لبريدة، وربما يكون السبب معاناته من ضراوة مقاومة أهل الرس، وتركيز القائد المصري على الدرعية، وخشيته على أهدافه من عواقب قتال البلدة المحاطة بسور ضخم.

وبعد تخريب الدرعية وأسر ساداتها، عاد إبراهيم باشا واصطحب معه حجيلان الذي ترك نجله الوحيد عبدالله أميرًا على بريدة، وفي المدينة النبوية أدركت حجيلان المنية ودفن هناك، ولربما أن الله حماه من الذهاب أسيرًا إلى مصر أو تركيا، واختار له الموت في المدينة التي يتمنى المؤمنون مفارقة الحياة فيها، والرقود تحت ترابها، وذلك الفضل من الله في المحيا وفي الممات.

لم تقف مآثر حجيلان هنا، فحين أغتيل ابنه ثأرت أمه-زوجة حجيلان الثانية- لولوة العرفجية لوحيدها بطريقة فيها تخطيط وجرأة، ولا غرو أن تفعل وذاك الأمير الهمام زوجها، دون قصور بأهلها وهم لزوجها أبناء عمومة، وأيضًا فلحجيلان أربع بنات، وتحفظ لنا الروايات أخبار ثلاث منهن، إذ تركت “قوت” وصية ووقفًا، ينفق منه على صدقات لها ولأبويها ولزوجها وأولادها، ولم تغفل عن رعاية العلم، والأئمة، والمساكين، وكذلك صنعت أختها “طرفة”، وإحداهما والدة عبدالعزيز بن محمد آل أبو عليان من مشاهير أمراء بريدة، وأما أختهما “مريم” فكانت زوجة لمهنا الصالح أبا الخيل الذي تزوج أربع نساء كلهن من آل أبو عليان، ونازعت أسرته آل أبو عليان في الزعامة على بريدة، حتى تولى أربعة من آل المهنا أبا الخيل إمارتها على فترات متقطعة خلال أزيد من ثلاثين عاما، في مقابل ثلاثة قرون من حكم آل أبو عليّان وعشرات الأمراء منهم.

هذا إلمام سريع بخبر رجل دولة كبير، وزعيم تناقل الناس أخباره ومواقفه وأيامه بتقدير فخم، إذ جمع مع القوة الرحمة، ومع شجاعة القلب والبدن بصيرة العقل وحكمة التصرف، وفاضت محاسنة حتى حجبت غيرها، وكم في البلاد، والأسر النبيلة العريقة، والقبائل العظيمة، من أفذاذ يستحقون أن نعرفهم، ونعرّف بهم، فنحن أمة الإسناد والرواية، وما أنفع الرواية التي ينتج عنها الدراية والاحتذاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 06 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441

29 من شهر إبريل عام 2020م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. بورك جهدك
    لكتاب السير في منطقتنا،نمط تقليدي،سرد كل المعلومات الممكنة عن الشخصية،انجازات وتبجيل.لايوجد تحليل عميق وتقييم موضوعي،وذكر للأخطاء والإخفاقات.حجيلان شخصية هامة في المنطقة،لكن هناك جانب لم يكتب عنه،نقضه لاتفاق مع إحدى البلدات،واستخدامه للعنف ضد الأبرياء ونهب ممتلكاتهم.ستبقى للتاريخ

    1. أهلا هشام، وشكرا لك.
      ماكتبته مقالة عابرة فيها تحليل ولم تستقص لأنها ليست بحثا طويلا، ولم أدون جميع ما لدي.
      وهو في النهاية أمير، وما ذكرته من ملحوظات تكاد أن تكون سمة مترافقة مع طلاب السلطة إلا مارحم الله، ولا يعني هذا تبرئة أحد أو إدانته، والحساب عند الله، والله يمن علينا وعليكم وعليه بالعفو.

  2. “فلحجيلان أربع بنات، وتحفظ لنا الروايات أخبار ثلاث منهن.”

    الرابعة هي فاطمة، زوجة راشد العثمان الجلاجل ولهما ابن وحيد هو عثمان، رحمهم الله أجمعين، وعثمان هو جد جميع أسرة الجلاجل في بريدة.
    انظر اسم فاطمة مذكور في هذه الوثيقة:
    https://twitter.com/mhna19134912/status/952968002911330305?s=20

  3. مقال رائع وإلمامة سريعة بسيرة الرجل، المقصد تسليط الضوء على أهم المنجزات فجزاك الله خيرا على جهدك.
    أما التحليل وتقييم الشخصية فهذا له موضع آخر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)