قراءة وكتابة

محاولات وتجارب في القراءة

Print Friendly, PDF & Email

محاولات وتجارب في القراءة

دعتني إحدى المنصات الثقافية للحديث عن بُعد حول تجربتي في القراءة لثلّة من المتفاعلين مع برامجها الطويلة والقصيرة، وهم جمع من الجنسين أدعو لهم بالتوفيق وامتلاك ناصية التأثير، والارتقاء على مساقات من العلم والفكر، وهكذا يؤمل ممن أسس نفسه على بنيان متين ومنهج قويم خلافًا لأجيال تعلمت بيد أنها من المحتوى النافع فُرغت، ومن مهارات التفكير والوعي حُرمت، فأصبحت قادرة على القراءة عاجزة عن الفهم والتحليل، والله يصلح الأحوال دقها وجلها.

ولأن الفائدة المؤكدة تنبع من دمج عدة تجارب؛ لذا رأيت أن أحدثهم مازجًا التجربة الشخصية بما سمعته من آخرين أو عنهم، أو قرأته من تجارب منشورة، فضلًا عمّا تفاعلت معه بالحوار والمراجعة، وتبقى القضية الأهم عندي بعيدًا عن أيّ تفصيلات هي أن نقرأ، ونستمر في القراءة، ونفقه ونعي المقروء وزيادة، ثمّ نحسن استثمار تلك الحصيلة بعد تمريرها على الذهن للفحص وإعادة إنتاجها طبقًا لما نقتنع به.

ثمّ إني كسرت الحديث معهم على عناوين حتى يسهل على المستمع حينذاك التركيز، وكي يستطيع القارئ الآن الوقوف مع ما يهمه حسبما يقدّر ويعلم من نفسه وحاجته، والله يبارك وينفع ولو بكلمة أو فكرة أو إشارة.

أولًا: حكاية البداية:

نشأت في كنف والدي رحمه الله، ولم تكن الكتب لدينا كثيرة؛ لكنه اجتهد في نفعنا ثقافيًا من عدّة سبل كما فصلّت في مقالة سالفة، ولذا وجد لدى إخواني الذين سبقوني إحساس يزداد نموًا بأهمية القراءة، فاقتبست منهم هذا المكتسب الجميل، والثمرة من سوق هذه البداية هو التنبيه إلى أهمية البيت لأنه المحضن الأول، مع الإشارة إلى عظم أثر الأسرة، وخطر مرحلة الطفولة التي تضيع الآن في متاهات الأجهزة والألعاب، فلا مناص من إشاعة طرائق القراءة الصحيحة عند الناشئة، فما أكثر ما عانينا في البدايات من خلل في الأولويات، وسوف تزداد المعاناة مع جيل لا يقرأ، أو لا يتجاوز توافه المطبوعات هذا إن قرأ!

ثانيًا: خلاصات من التجارب: يمكن وصف القراءة بأنها:

  1. عمل يومي، كما نصلي، ونطعم، ونذكر الله أطراف الليل والنهار، وحين نتركها نغدو مثل من فقد عِلقًا عزيزًا عليه.
  2. شفاء من ورق أو عبر شاشة، وهي علاج للروح والعقل واللسان.
  3. طريق إصلاح وسبيل وعي ونجاة.
  4. تمنح المعتاد عليها -غالبًا- تقبّل الآراء، وسعة الأفق.
  5. تعين على تنمية مهارات التفكير والنقد.
  6. خير رافد للكتابة والخطابة واكتساب اللغة.
  7. تهب صاحبها سلطة معنوية لا تنزع، وتلقي عليه مسؤولية أخلاقية تجاه محيطه وربما نحو العالم بأسره!
  8. بغيضة جدًا عند من لا يُري الناس إلّا ما يرى!

ثالثًا: أقسام القراءة:

  1. قراءة البداية: يتمرن بها الإنسان على التعامل مع الكتاب وإنهائه كاملًا، والأفضل أن تكون خفيفة وفي مجال محبوب.
  2. القراءة التأسيسية: وهي ضرورية لأيّ مثقف حتى يستزيد من أركان ثقافته-الدين واللغة والتاريخ-، ويغفل عنها أقوام أو يتجاهلونها فيصبح ديدنهم احتقار حضارتهم، وازدراء ثقافتهم، ويظنون بذلك أنهم نخبة، ولو تبصروا لما أخرجوا أمثالهم من دائرة المهزومين الناقصين.
  3. القراءة التخصصية: حتى يجيد القارئ تخصصه فعليه أن يقرأ في تاريخ العلم الذي اختص به، ونظرياته، وأعلامه، ومصطلحاته وتعريفاته، وينهل من أمهات الكتب المرجعية فيه، ثمّ يطلع على ما وجه إليه من نقد وملاحظات.
  4. القراءة البحثية: تستهدف التأليف أو المحاضرة أو الكتابة، ولا مناص فيها من التركيز والانتقاء الرشيد.
  5. القراءة التفاعلية: لمعرفة المستجدات وفهم الأحداث خاصة ممن يتفاعل معها أو يتأثر بها.
  6. القراءة المعجمية والموسوعية: فمن الضروري إدامة النظر فيها، ولها فوائد وفيها لذة لا توصف.
  7. قراءة المتعة والإحماض: لتنشيط النفس على المواصلة في قراءة المتين والعميق، ولكلّ امرئ مجاله الذي يعدّه ماتعًا له؛ وإن كانت كتب السير والتراجم والرحلات من أجود ما يحمِض به القارئ حتى لا تكلّ قريحته، أو يلحقه الملل.
  8. قراءة المجاملة: مثل قراءة كتاب من إهداء مؤلفه، أو اقترحه عزيز، وهي قراءة لا أنصح بها.

رابعًا: الإفادة من القراءة:

  1. تحصيل المعلومات والمعارف.
  2. اكتساب اللغة الراقية.
  3. إتقان أساليب جديدة في البيان والعرض.
  4. الوقوف على فنون التأليف والتفكير.
  5. معرفة سبل الإقناع، ومناهج النقد والنقض.
  6. ملاحظة تاريخ الأفكار والتوجهات وشيوع المصطلحات.
  7. الخروج بأفكار مناسبة للكتابة عنها.
  8. تحديد مزايا الكتاب وعيوبه وفرائده، والإلمام بخلاصاته وافتراضاته.
  9. اتخاذ قرار بتكرار قراءة الكتاب، أو التوسع في موضوعه أو في نقيضه، أو جرد مؤلفات كاتبه ومعاصريه، أو تدوين مراجعة عنه.

خامسًا: ثمرة القراءة رفع الوعي:

  1. ليس الشّأن أن نقرأ ونسمع؛ بل أن نفهم السّياق والمعنى، ونلتقط ما بين الكلمات والسطور دون اعتساف وظلم.
  2. لا يستخفنّ بك مؤلف أو يجعلك ألعوبة بين كلماته، أو جسرًا لنشر ما لا تؤمن به.
  3. اقرأ وكأنك ستدخل إلى امتحان بين يدي أساتيذ أشداء غلاظ.
  4. التساؤل وامتحان الافتراضات والمسلمات حقٌّ لك فلا تتنازل عنه.
  5. سل نفسك بعد كلّ كتاب: ما هي الفكرة التي خرجت بها؟ وما هو المفهوم الذي التقطته؟

سادسًا: مراجعة الكتب واختصارها:

  1. الأمانة والصدق في إيراد ما تعتقده ضرورة لا يساوم عليها.
  2. يمكنك استعراض الكتاب كاملًا أو جزئيًا مع تنبيه المطلع على صنيعك.
  3. في بعض الكتب يكفي التركيز على الخلاصة والمقدمة والخاتمة أو بعضها.
  4. ربما يناسب كتابة مقترحات عملية للتفاعل مع فكرة كتاب سواء بالتأييد أو الإبطال.
  5. سوف تكثر الكتب المهداة لك من المؤلفين والناشرين؛ فلا تكتب عن مادة لا تستحق، أو لم تطلع عليها بما يخولك الحكم المنصف عنها، والله يعينك على ازدحام المكتبة بما لايناسب اهتمامك أو لا يرقى لما تطلب.

سابعًا: فن اللاقراءة:

هو فن يغفل عنه القراء، وأهميته توازي أهمية القراءة ذاتها، ويسهل إجادة هذا الفن المفيد بالتعاون مع مجموعات ثقافية نشيطة، أو متابعة مواقع عرض الكتب، ومشاهدة البرامج المصورة عنها، أو الاستماع إلى اللقاءات الصوتية المسجلة عن الكتب ومختصراتها، وكم في اللاقراءة من فوائد للمثقف والقارئ.

ثامنًا: المكتبة و معارض الكتب:

  1. المكتبة جنة دنيوية وهي رُقية الروح، وهكذا يجب أن تبدو مكتبتك في وعيك ولو كانت من رفٍّ واحد فقط.
  2. الترتيب الذهني لمكتبتك مهم بعيدًا عن أيّ تصنيفات؛ فالمكتبة العربية والإسلامية مترابطة جدًا.
  3. أنت لست وحيدًا مع القراءة، ولا مختليًا حينما تكون في المكتبة، بل تهنأ بالعيش مع رموز ومؤثرين وخالدين.
  4. المكتبة ومعارض الكتب تشيع فينا حقيقة التّنوع؛ فالكتب متباينة في الشّكل، والّلون، والغلاف، والتّصميم، والعنوان، والمؤلّف، والبلد، والمضمون، والسّعر، والنّاشر، ولذلك فالتغيير والتنويع سنن حياتية ثابتة.
  5. في المكتبة ومعارض الكتب إشعال لفتيل الإلهام؛ فمنظر الكتب المتراصّة يلهب الخيال فوق أنّه يجلو البصر ويريح الخاطر.
  6. فيهما تحفيز للتّصنيف؛ فكم من قادر على الإبداع قعدت به ظنون وأوهام وطلب كمال لا يُدرك.
  7. هما وسيلة لتسهيل الّلقاء؛ وهل أجمل من لقيا الأحبّة على هامش جولة في معرض كتاب، أو ضمن زيارة لمكتبة عامة أو تجارية؟
  8. يناسب بين فينة وأختها فرز المكتبة، والتبرع بما انتهت حاجتك منه، مع مراعاة وضع الكتب المهداة لك؛ فمن المحرج أن يرى الناس كتبهم التي أهدوها لك وهي في مكان خارج مكتبتك وأنت حي ترزق!

تاسعًا: وصايا:

  1. كن ثملًا بالقراءة، واجعل ساعتها ماتعة؛ حتى تصير من شغفك الذي لا يترك.
  2. نوع كتبك بين ورقي، وإلكتروني، وسمعي، ومستعار، خاصة مع الغلاء والضرائب.
  3. القراءة السريعة مفيدة إذا أجادها المرء وفق مناهجها العلمية بعيدًا عن المتاجرة بها.
  4. ليكن القلم والمؤشر وفاصل التوقف معك دومًا كي لا تفقد تركيزك، أو تضيع موضع توقفك.
  5. كن شريكًا للمؤلف، واجعل نسختك ثمينة فريدة بتعليقاتها ومختاراتها، وما سطرته فيها من ذكريات الشراء والقراءة وغيرها.
  6. لا تقلّد أحدًا فيما قرأ، وإذا لم يرق لك كتاب فدعه لأنه لم يطبع لك.
  7. لا مناص للقارئ النهم من النظر المستمر في أمهات الكتب وكبريات المراجع.
  8. إن استطعت وضع فهرس لفوائد ما تقرأ، فسوف تجني أعظم النتائج، ومن المهم تسهيل البحث فيها وتيسير الوصول إليها.
  9. إذا وقعت على فائدة في غير مظانها فأشر إليها في مكان جلّي من الكتاب، أو انقلها على هامش كتاب يتقاطع مع موضوعها.
  10. أكبر خطيئة أن تخلد للنوم دون قراءة ولو لبضع دقائق.
  11. الحفظ ليس عيبًا كما يصوره من يظنون أنفسهم أعقل الناس، فاحفظ أحسن المقروء وحدّث به غيرك ليثبت.
  12. لا يناسب المبتدئ قراءة أكثر من كتاب في وقت واحد، وهو أسلوب يناسب الخبير فيما بعد.
  13. ليس لاستيعاب المقروء مقياس دقيق فلا تيأس.
  14. اقرأ تجارب الآخرين مع الكتب والقراءة والمكتبة، وفي السير الذاتية للعلماء والفلاسفة والقراء والكتبيين قيمة مضاعفة.
  15. اقرأ دومًا كتبًا توقظك وتحفزك وتشجعك على إعادة النظر وتقليب أوجه الرأي.
  16. لك على أيّ نص بشري غير نبوي سلطان والعكس ليس صحيحًا.
  17. لا أميل كثيرًا للقوائم بسبب اختلاف مستويات الناس وأمزجتهم.
  18. المكتبة وجه آخر لسيرة القارئ الذاتية، فلا تجعل سيرتك ضيقة في زمانها ومكانها ومكوناتها.
  19. فكر بمصير مكتبتك بعد رحيلك خاصة إن لم يكن في ورثتك من يعتني بها.
  20. لا تنشغل بالمكتبة الصغرى عن المكتبة الكبرى، وتجول في بديع صنع الله وتأمل.

عاشرًا: حكاية النهاية:

ليس المهم كم من كتاب قرأت، وكم كتابًا لديك؛ وإنما يكمن الفرق في كيفية القراءة، والتعامل مع المنشور، وتوظيفه، وتحليله، فرجل صاحب علم وفكر ورأي مثل معالي الشيخ صالح الحصين ليس لديه مكتبة ضخمة وآثاره تنير أيّ مكتبة، واشتهر عن الفيلسوف هيجل أنه لا يقرأ كتبًا معقدة أو عميقه ومع ذلك فهو اسم عالمي لا يمكن تجاوزه في عالم الأفكار، وكم من عالم أو كاتب مات دون أن يعمر ويكثر القراءة ومع ذلك فإنتاجه حاضر على تباعد عصره، أو محدودية الناطقين بلغته، والأمثلة كثيرة من حضارتنا الإسلامية ومن غيرها؛ فاستعن بالله وتاجر في نيتك الحسنة معه، والله يجعلك من المفلحين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 21 من شهرِ ذي الحجة عام 1441

11 من شهر أغسطس عام 2020م  

 

Please follow and like us:

6 Comments

  1. استاذي العزيز احمد نفع الله بعلمك وقلمك وكتاباتك النيره والمحفزه والتي تلامس القلوب وتحدث العقول وتفتح الافكار تقبل فائق احترامي وتقديري.

  2. حقا ان ابحر في محيط عميق فيه من الاسرار والكنوز والفوائد مايدعوني للابحار اكثر بين موجاته وكل ماتعمقت فتح لي طريقا الى الاجمل والاروع
    لااعرف ولكن هناك شيء يلامسني في هذه المدونه
    قد تكون البدايات متشابهه وان اختلفت فالواقع لكن حادثة المدرسه والتعبير تذكرني باول مره احد يشير لتلك الموهبه البدائيه فالتعبير مع انه كان يسبقها رسائل ورقيه قبل ان تتحول الى الكترونيه

    دمت سالما ودامت يدا خطت اروع الكلمات واتحفتنا واثرتنا بالكثير وسمحت لنا ان نتنقل بين مواضيعها الرائعه لنكتشف فينها شغف الالكترونيه الي لم تستهويني يوما كما الكتب وملمس الكتب ورائحة الكتب وذكريات الكتب 👍🏻

    دمت سالما والى مزيدا من التقدم وشكرا من القلب لكل حرف كان له الاثر الجميل بعد قرائته
    فشكرا استاذ احمد

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته استاذي الفاضل احمد الله يسعدك على هالموضوع اولا وثانيا انا مهتم بالقراءة ولله الحمد اجني ثمار القراءة واود ان ادعوك الى مجموعة نادي القراء في الواتس اذا تشرفنا في القروب وشرف لنا ان تكون من ضمن الاعضاء الذي يستفيد منه الشيء الكثير الله يسعدك ويوفقك وييسر امورك ويرزقك من حيث لاتعلم وشفت لقائك في بودكاست كاف وكان لقاء رائع تقبل تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)