إدارة وتربية

فلسفة طفل رضيع!

Print Friendly, PDF & Email

فلسفة طفل رضيع!

ذكر لي صاحب عزيز قبل ثلاثين عامًا أنه يتأمل في تصرفات أطفاله إلى ما قبل سنّ الفطام، ويقيّد بعض الملاحظات، وأنه لو تفرغ فلربما كتب شيئًا عن ملاحظاته وتأملاته، والحقيقة أني ظننته حينها يبالغ؛ حتى صرت أبًا، وتأملت مع أني لست كصاحبي في تحليل كوامن النفوس، وليته حين يقرأ كلماتي هذه أن ينهض لكتابة مدوناته تلك وغيرها؛ فلديه مئات الأوراق من المسودات التي تنتظر الإذن لها حتى تظهر.

إنّ النظر في سلوك الطفل وهو في سنتي الرضاع، ومراجعة تفاعلاته تطلع المرء على عبر كثيرة يُستلهم منها أشياء لم يخطر على البال بأن الطفل يشير إليها دون أن يتكلم، وسبحان من جعل الفطرة ناطقة مخبرة لمن تبصر وتفكر، وكم في الآفاق وفي أنفسنا من آيات وعبر لو تدبرناها بيد أن الاعتياد مجلبة للتبلد، وهموم الحياة الطبيعية والمصطنعة تحول دون إعمال الذهن، وتحجب إدراك الحقائق عن البصائر والأبصار.

فالطفل مثلًا يبدي رأيه دون التفات لما سيقوله الآخرون عنه أو عن مطالبه أو طريقته أو توقيته، فإذا جاع، أو رغب أن يتخفف من ملابسه، أو أصابه ألم، فإنه يتململ مظهرًا الضيق والضجر، فإن لم يُستجب له كما يريد شرع بالبكاء ليعلم من حوله بأن حقوقه منقوصة، ولا مناص من تلبية مراده وإلّا استمر في نوبات بكاء حتى لو أزعجت القائمين على أمره؛ فمن تولى شأنًا وجب عليه أن يحسن الأداء فيه، ويُصغي للآخرين عنه، وألّا يلوم من يحثه على الإجادة والتصحيح.

وإذا شعر الطفل برغبة في إفراغ جوفه، وطرد الفضلات منه، فإنه يفعل دون استئذان من أحد، بل ودون مراعاة لمقتضى الحال والمكان والزمان؛ وليس في ذلك نقص تهذيب لأن مصلحة الإبقاء على الحياة، ودفع المضار، مقدمة على كثير من المصالح وجميع المحسنات، وأيّ شيء سيجنيه الطفل من الحفاظ على رائحة المكان أو هدوئه وفي داخله معركة تغلي مراجلها وقد يقضي عليه صبره أو يكاد؟ وبعد انقضاء هذه العملية يظلّ الطفل متابعًا لتغيير ملابسه وتنظيف جسده من صاحب الصلاحية أو يثور على طريقته المعتادة!

كما أن الطفل لا يصمت حتى يرضى، وإذا أُعطي شيئًا لا يناسبه فغالبًا يأبى الانصياع، وقلما يستطيع أحد إجباره على تناول شيء؛ فخاصيّة الرفض قوية لديه حتى لو لم يعرف الكلمة الثمينة المكونة من حرفين “لا”، وعنده قدرة على إخراج ما دخل إلى جوفه دون رضاه، مع قذف ما زاد عن حاجته أو لم يتوافق مع طلباته إلى الخارج ولو كان على لحاف ثمين أو حصير مهين، وياله من طفل كبير بصنيعه، وإنما الصغير من يُهان فيرضى ويصمت وربما تتلف أعصابه ويفسد مزاجه دون أن يُعلن غضبه أو يعبر عن غيظه.

أيضًا يمتاز الطفل بمعرفة دقيقة لأولوياته ومصالحه، فيحرص على نفع نفسه أولًا، وهو تصرف طبيعي لأن المرء تزداد بركاته إذا صلحت حاله، ولمصداق ذلك انظر إلى البهجة التي يشيعها الطفل في محيطه إذا كان مرتاحًا لا يعاني من نقص أو ضيق أو إهمال، وقارن بعكس ذلك إذا تنغصت سعادته إذ ينكّد على من حوله غير آبه بمكانهم منه، وتعبهم لأجله، أو إحسانهم السابق له، فهو في النهاية يستهدف ما ينفعه بمقدار وسعه دون عجز أو تردد.

كذلك يسعى الطفل لاكتشاف حقيقة أيّ شيء بالمذاق أو اللمس، ثمّ بالسمع أو البصر، فهو كائن متعلم متأمل دقيق النظر، ويتكامل مع هذه المزايا نزوعه إلى الشك في أيّ تصرف، ولذا يبكي حين يُراد تغيير ملابسه، ويصيح أو يصرخ إذا مُسّ جسده بجهاز طبي، أو جُسّ بدنه بمقياس ولو لم يكن كالإبر المؤذية المؤلمة، وهكذا يجمع الطفل بين خاصيتي الاستشعار والحذر، وهما من مفردات البصيرة والرشاد التي تغيب عن جمهرة من الكبار.

بينما يقتبس الطفل من أهله ومجالسيه الكلام، ويتدرج في المشي حسب المعروف من طبيعته، ويستعين بمن يؤهله لبلوغ مناه وتحقيق مبتغاه، ويراقب التصرفات ثمّ يحاكيها، وهي مسالك تفيد في نظريات التعلّم والاستفادة من الآخرين، وإن غاب عن الطفل التمييز والتحليل، واتصف بالجرأة والإقدام الخطر أحيانًا، إلّا أنه يمكن الإفادة من مسالكه الحسنة، والإضافة إليها بما يجعل الفائدة المتحققة أو المرجوة عظيمة جدًا.

أما خلاصة فلسفة الطفل فهي أنه يعرف ضروراته وحاجاته ومقدارها؛ ويترك سبل التخزين المقيتة، وحشد أيّ شيء دون دواع حقيقية أو محتملة، فهو ليس بطمّاع أو كنوز، وما أجمل الأخذ من الدنيا على مقدار الكفاية والحاجة المتوقعة، ومنها أنه يهفو إلى الحرية فيخرج أطرافه من بين تلافيف الملابس، ويطلق أقدامه ويديه للحركة متى ما أمكنه ذلك وعلائم السعادة تبدو عليه لفوزه بالحرية التي يبتغيها، ومع الحرية يبدو على أنه كيان مستقل لا يفرض أحد -كائنًا من كان- عليه إرادته، ولا يحتقر الرضيع قدراته وأوراق الضغط التي يمتلكها مع أنه ضعيف البنية، ولا يستطيع الكلام ولا الحركة!

وهو أيضًا إنسان حسن الظنّ بالآخرين، يستصحب البراءة الأصلية مع كلّ أحد، ومتسامح للغاية ينسى أخطاء الغير بمجرد لطفهم معه وتضاحكهم وإياه، ومع ذلك لا يخلو من فطنة وتوجس وترقب، ومن سذاجته المحمودة ظنّه أن الدنيا محصورة بمحيطه وآلامه وآماله فلا يجاوز خاصّة نفسه وشؤونه إلّا بعد نيل حدّها الكفائي الأقل، وهو سريع التعبير والفضفضة بالبكاء والصراخ والتبسم والضحك والملل؛ لأنها وسائل التعبير المتاحة له، ولامناص له من استثمارها ليُشعِر الكون المحيط به عمّا يجول بخاطره.

فيا صاحبي الأثير: اخرج كنوزك عن الأطفال وغيرهم؛ فإني أظنها من معرفتي بك ستكون ثمينة نفيسة، والناس بحاجة لها فضلًا عن لوازم اختصاصك العلمي والمهني، ويا جماعة: لنكن في بعض الأحيان أطفالًا بعد الاستعاذة بالله العظيم من الشيطان الرجيم وهمزه ونفثه ونفخه ووسوسته…

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 20 من شهر ِذي الحجة عام 1441

10 من شهر أغسطس عام 2020م 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)