سير وأعلام

عبدالله العقيل الذي أطاب الرحيل!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالله العقيل الذي أطاب الرحيل!

الموت قدر محتوم على كل حي، وهو من سنن الله في الحياة الدنيا الثابتة بالدليل والتاريخ والواقع والعقل، ومن جليل النعم أن يجعله المرء -ولو كرهه وأبغض اسمه- نصب ناظريه وليس دبر أذنيه؛ لأنه آتٍ بلا ريب مهما تأخر، فسهمه صائب غير طائش، وموعده حقُّ متقرر على كل ابن أنثى وإن طالت سلامته، والله يجعلنا ممن أحسن له الاستعداد؛ فعمل للآخرة كأنه يموت غدًا، ولم ينس نصيبه من الدنيا كأنه يعيش أبدًا، وبهذا يزين المعاش الكائن، ويطيب المرتحل إذا جاءت ساعة الأجل، ودنى الملك المكلف بقبض الروح.

هكذا احسب أن رجل الأعمال والإحسان الشيخ الراحل عبدالله بن عبدالرحمن العقيل (1376-1444) قد صنع في محياه إلى أن أعلن مماته مساء أمس الأربعاء غرة شهر الله المحرم، والله يحرم وجهه على النار، ويفيض عليه في برزخه من الانشراح والسعادة والروح بما يجعله ينتظر قيام الساعة؛ كي تطأ أقدامه نزل الرحمن الرحيم ومستقره لعباده الصالحين، ويحشره مع زمرة الأولياء والمتقين، وما ذلك على ربنا الكريم بعزيز.

فكيف كان استعداد راحلنا ليومه المدون في لوح الأقدار؟ وما هي أبرز العبر من تلك المسيرة التي كانت بحساب الدنيا وأعمار أهل العصر غير طويلة؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في السطور القادمة مختصرًا، والإحالة على سيرته المنشورة بعنوان “بصمة حياة”؛ ففيها القصة كاملة، هذا غير ما قاله وسيقوله الآخرون عنه، علمًا أني كتبت عرضًا لسيرته بمجرد نشرها، وأخبرني صديق مشترك يقع بيننا أنه قرأ العرض، وراق له والحمدلله، وغاية الإخبار كي لا يقول قارئ: إنك لا تكتب إلّا عمن يتوفاه الله!

أول أمر أقف معه في سيرة الشيخ العقيل هو تكوينه الأسري، فعلاقته مع والديه فيها من المحاسن ما لا يخفى على عارف أو قارئ، وتلك لعمركم مكرمة للإنسان فيها طاعات وبر ووفاء، وتكتمل زينة هذه العلاقة بعلائق متينة الحبال، شديدة الأواصر مع الإخوة والأخوات؛ فلهم أعظم الحقوق بعد الأبوين، ويزداد الأمر أهمية وضرورة حين يشترك الإخوة في عمل تجاري، وشؤون دنيوية، والله يصلح الأحوال، ويعيد للبيوت المودة والوئام، فهذا من ديدن الأسر العريقة.

ومن هذا الباب صلته الودودة بزوجه وثنائه الدائم عليها، وهو ملمح يا قوم يزداد قيمة في زمن تجتاح العلاقة الزوجية فيه جوائح عابرة للحدود فيها إفساد، وتمرد، وشذوذ، وضغط دولي لإقرار تنظيمات جائرة، لكسر الأسرة وعمودها المتمثل في امرأة صالحة مستقيمة حافظة محافظة، والله يبطل كيدهم، ويرد مكرهم إلى نحورهم، بثبات المسلمين والمؤمنين، وتعاونهم مع شرفاء العالم؛ كي يبقى الرجل رجلًا، والمرأة امرأة، وليس الذكر كالأنثى، وليس معهما جنس آخر سوى الخنثى المبتلى أو المبتلاة بمرض له أحكامه الفقهية والطبية، وهي حالات نادرة.

كما أن هذا الحديث لا ينتهي دون التأمل والتريث عند أخبار الذرية وحسن تربيتهم صغارًا ويافعين، ثم جمال صداقتهم شبابًا وما بعد هذه المرحلة، وتهيئتهم للمستقبل إن في التعامل الأسري، أو الدراسة، أو الممارسة العملية والتجارية، أو التعاطي مع الحياة، وغير ذلك من شؤون، وإنما ضاعت الأجيال بإهمال الآباء وانصرافهم، وقد كان العقيل على مشاغله التجارية المتشعبة التي بأقل منها يحتج المهملون أبًا وعمًا وخالًا قريبًا من فرعه وفروع آله، بالتوجيه والتربية والرفقة، ولنعم الثمرة.

ثمّ ينتقل بنا الحديث إلى استثمارات العقيل، ولا يظننّ أحد أني سأقف مع مكتبة جرير، أو الاستثمارات الأخرى في العقارات وحقول التجارة المتنوعة، فهذه مهمة، وفيها دروس من الجدية منذ النشأة، والاجتهاد، والبكور، والابتكار، والصدق، والتوسع المتدرج، واهتبال الفرص، وغير ذلك مما يعرفه أهل الشأن والبصيرة، ولربما أن تجربة المكتبة المنشور قسم منها في سيرة أبي محمد تفيد الباحث، ومن المؤكد وجود مواد أخرى وروايات تعزز هذا المنحى لمن شاء الاستزادة.

إنما كنت أقصد ذلكم الإقبال العظيم من قبل الشيخ عبدالله العقيل على الأوقاف، ومساندة العمل الخيري والمجتمعي، والمشاركة في هذا الباب العظيم بالعمل والتطبيق، وبالتنظير والتصحيح والاقتراح، وقد أبرز الراحل هذا الأمر في سيرته المنشورة، وظهر اهتمامه جليًا بهذا الاستثمار حتى غدا أحبّ إليه من المكاسب المالية، وصار يقول عن سعيه في أعمال البر والإحسان: ” أنا أترزق الله”، وأعظم بالرزق الذي يستجلب البركة في الدنيا، والثواب في الأخرى، ويغدو لذوي المال والجاه نموذجًا ومثالًا.

كذلك شغف الشيخ العقيل ببلاده حبًا، سواء في مقامه بها، وسفره بين نواحيها في المدن الكبيرة والصغيرة، أو بقضاء الأيام الأنيسة في البراري، وله خبر عشق مع المكان إن في حرمة والمجمعة أو الرياض، أو مع مكة والمدينة، ولم يكتف بعشق المكان نظريًا فقط، بل عبر عنه بالبقاء والمكث والتخييم، وبالعمل الخيري فيها، وإن خير الناس خيرهم لأهله، ومن كفى قومه سدّ ثلمة، وأعان بلده، ولو سلك كل ذي قدرة مع بلدته وأناسه هذا المسلك لغاضت الحاجات، وازداد العمران والنماء، وفاضت الأموال والبركات.

ثمّ أضاف إلى هذا الحب نوعًا من المحبة لا يستغرب على ابن الصحراء العربية، وتبدى ذلك في إقباله اللافت على الإبل وشؤونها كافة حتى في أدق التفاصيل؛ ولو كان شاعرًا لكانت الإبل وعالمها أحد أهم مرتكزات شعره وقصائده، وهو يؤكد بذلك على أن أحد مؤسسي مكتبة جرير العصرية وأحد ملاكها بما فيها من تقنيات وبرمجيات حديثة ودقيقة، لا يخجل من الصحراء، أو الإبل، بل يحبهما، ويؤوي إليهما، ويعلن ذلك مفتخرًا حامدًا ربه، بل ويعلم عنهما أكثر مما يعلمه عن المخترعات الحديثة؛ وهذا من سمات العراقة المجتمعية التي يصطبغ بها الأماجد في البلاد ذات التاريخ التليد والعمق الراسخ، وهي التي تغيب عن كل غرٍّ طارف حادث ومحدث نعمة.

وكان من توفيق الله لعبده أن جعل في حياته وسيرته المسطورة والمحكية قدوة للأبناء، والإخوة، والأزواج، والآباء، والأثرياء، وأصحاب المجالس والديوانيات، وللواقفين والعاملين في مجالات الخير، وفيها عبر من الحياة التي لا تحلو بغير الطاعات والقربات من صلاة وتلاوة وعمرة وأذكار، وضيافة وتفريج كروب وصنائع معروف، واستمتاع بالأسرة والصداقة والرفقة والعمل، وتوقير للبلد وثقافته وأعرافه، ومن يدري فلعلّ الرجل كان حين يخلو بمولاه يناجيه بصدق وإلحاح بأن يكون للمتقين إمامًا، ولقد أصبح منارة خير في محياه، وفي مرتحله ومماته، لمن اعتبر ونظر وتدبر.

لأجل ذلك حصد أبو محمد في دنياه التي فنت، وفي أيامه البرزخية، محبة الناس وثناءهم عليه، والدعاء الدائم له، حتى حملت وسائل التعبير رسائل الإشادة به، والابتهال له، حتى تضوعت تلك المنابر عطرًا بأخباره وبوفاء مجتمعه له؛ ذلكم الوفاء الذي جعل مسؤولي بنك الدم يتعجبون من كثرة المتبرعين له بدمائهم عندما حانت ساعة حاجته للدم، وعدد كبير منهم لا يعرفونه. ومن لافت الموافقات أنه كان يوقع اسمه الكريم كما في سيرته المطبوعة بثلاثة عينات ( ع.ع.ع.) مختصرًا لاسمه الثلاثي، ولعلها أن تعني مع ذلك العبادة والعمل المجتمعي والعراقة.

اللهم وقد وفد إليك عبدك في يوم قائض شديد الحرارة، فأحزن القلوب رحيله، حتى أطلق الأقلام والألسنة بالدعاء له، والشهادة الصادقة عنه، فاللهم اجعل ذلك كله من علائم حسن الختام له، ومن عاجل البشرى، التي يسلو بها أولاده وزوجه وإخوانه وآله، وأجلّ من ذلك اكتبها له شفاعة عندك وقبولًا ومحبة ورضا، حتى يجيب الملكين بالقول الثابت؛ فيبقى في برزخه منعمًا منشرحًا، تؤنسه صدقاته ومبراته وجلائل فضائله، وتصل إليه حسناتها مضاعفة ومعها دعوات الأبرار والصادقين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس ثاني أيام شهر الله المحرم عام 1445

20 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. قرأت أنا كتابه بعد رأيت مقالك الأول عن الكتاب ، تجربة حياة ثرية بالعطاء والأحداث ، رحمه الله رحمة واسعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)