سير وأعلام مواسم ومجتمع

سعد الصويان: اسم إنَّ أم خبر كان؟!

Print Friendly, PDF & Email

سعد الصويان: اسم إنَّ أم خبر كان؟!

في ظهور غير منتظر أو متوقع، استضاف المذيع البارز عبدالله المديفر عالم الأنثروبولوجيا السعودي أ.د.سعد بن عبدالله الصويان، ويعود منشأ الاستغراب إلى ما أشيع عن وضع البروفيسور الصويان الصحي وهو ما استبان أنه مبالغ فيه؛ فحاله أحسن مما قيل والحمدلله، ألبسه الله لباس الصحة والعافية، وجمع له بين الأجر والشفاء، وألهمه رشده وصلاح أمره، وختم حياته بطاعة ورضون بعد طول عمر. وتُعدُّ هذه الاستضافة مكسبًا جديدًا للبرنامج وطاقمه، وإن كان الضيف قد أغضب البرامج الأخرى المنافسة بكلمة مقارنة عابرة، تمامًا مثلما فعل حين أوضح رأيًا ربما لا يرضي عنه أصحاب تخصص الإدارة التعليمية.

أما المفاهيم الدينية، والأعراف القبلية فلها شأن آخر سيأتي، والمهم الذي أقوله الآن أني أعجبت بطريقة تفسيرات الصويان حتى لو لم أقتنع بها أو ببعضها، وسررت باهتمامه فيما يخصّ الموروث وعراقة المجتمعات، كما راقني جدًا أسلوبه الحكّاء الآسر، وربما يكون ذلك من آثار منزله المعمور بالرواية والقصص كما قال عن أبيه وجده. كما بهرني بيانه وافتخاره بالتراث، وحرصه على الانفكاك من أسر الحضارات الأخرى، وأسعدني تأكيده نفي الاغترار بالأسماء الرنانة للمستشرقين ومن دار معهم؛ فهم في النهاية بشر-مثل كل البشر خلا الأنبياء- يؤخذ منهم ويرد عليهم.

مع ذلك لم أفرح بحديثه -الذي لا أجهله منذ عقود- عن قوارير المسكرات، ومحلات “الوناسة”، وإقراره بالإكثار من القهوة، وهو اسم قديم للخمر لأنها -كما قرأت قديمًا وقال هو غير هذا- تقهي أي تذهب بشهوة الطعام، وسبب موقفي ليس كونها منكرًا فقط، ولا لمجاهرته فقط، وكفي بهما إثمًا يوجب النكير، وإنما لأن الرجل الكبير العالِم يعيش الآن في آخر فصول الحياة، وودت له -محبة وشفقة- أن يقترب من الله الغفور الرحيم أكثر وأكثر، فالخمر والوناسة الدنسة ليسا بحاجة لمن يروجهما، والله يوفقنا وإياه للرشد وحسن العاقبة، ويحمي البلاد والعباد بالستر والعافية.

كما ساءتني الإشارات الوثنية في سياق كلامه أيًا كان توجيه ما أورده من عبارات وقصص، فهي لن تنفي عن الناس في أرضنا العربية إيمانهم وتوحيدهم فضلًا عن فطرتهم، وقد يخالط بشاشة الإيمان ألفاظ أو تعبيرات تسللت في زمن غفلة، أو بقيت من آثار ما قبل الإسلام، أو اعتسف تفسيرها إلى تأويلات بعيدة مقصودة لذاتها، وهذا كله لا يسوغ جرجرة الجزيرة العربية وأهلها إلى وثنية اليونان أو غيرهم، بل الأجدى البحث عن بقايا الفطرة لدى اليونان والرومان وغيرهم؛ فالفطرة هي الأصل في الإنسان لمن كان يهتم بعلم الإنسان والشعوب.

أما أكثر ما يلفت الانتباه في حديث أ.د.الصويان الماتع جدًا، فهو موقفه من القبيلة، ودعوته لإذابة مكونات المجتمع بالإجبار أو بتدابير ناعمة، وأتصور أن هذا الرأي سوف يتبعه تفاعلات كثيرة. وهي فكرة غريبة وربما مستهجنة من مثل الصويان لأسباب منها أنه يعلن منهجًا من سماته الانفتاح والحرية والابتهاج بهما، ومقترحه هذا ينافي الحرية تمامًا ولا يتفق مع الانفتاح. إضافة إلى أن جلّ علومه ومؤلفاته التي اشتهر بها تقوم على القبيلة وميراثها الشفهي الضخم الذي جمع بعضه مشكورًا، ودعوته تهدم بنيانه الذي شيّده بالبحث والدرس. هذا غير أن مسألة انتهاء القبيلة كليّة أمر يلامس سقف المستحيل، ولا يعرضه حتى الشيطان في أضغاث الأحلام!

فالقبيلة مكون موجود في كثير من الدول المستقر منها والمتأرجح والفاشل، وكل دولة تتعامل معها حسبما تهديها حكمتها، فقد تصبح القبيلة جزءًا جميلًا من النسيج المتلاحم كما في السعودية بفضل من الله ثمّ ببراعة الملك المؤسس والحمدلله، وربما تغدو جسمًا نشازًا مؤذيًا والمشتكى لله، أو مأرزًا لأفرادها زمن الخلل والاضطراب حمى الله بلاد المسلمين والعرب منهما. ويساند ذلك أن في بعض النصوص الشرعية ما يدل على أن الفخر بالأنساب مستمر إلى يوم القيامة ومنه يُستشف بقاء القبيلة، وأصرح منه النص على مقاتلة قبائل بعينها للدجال آخر الزمان؛ مما يؤكد أن هذا المكون القبلي أساسي خالد، وهذه الأدلة الشرعية أسوقها لعامة القراء، أما صاحب الفكرة فلا أدري عن موقفه المبدئي منها، ولا أريد أن أدري!

كذلك فإن وجود انتماءات عديدة تحت سلطان أيّ دولة وفي بيئة أيّ مجتمع أمر طبيعي للغاية مالم يؤول ذلك الانتماء إلى تكتلات فئوية تخالف المصالح العليا أو تعيقها أو تظلم غيرها أو تكون تلك التجمعات مجرمة من الأصل، أو تخرج العصبية لها عن حدّ الاعتدال، بل وفي وجود هذه الزوايا ضمن الإطار الكبير فوائد جمّة للحكومات لا أظنها تخفى على بصيرة رجل خبير مثل أ.د.الصويان الذي يحلم بانصهار تام بين الشيعي مع السني، وهو أمر لن يحدث البتة بمنطق التاريخ وشواهد الواقع، وخير من نشر هذه الأماني وبثّ تلك الخطرات الدعوة إلى الحسنى والرفق؛ فالحسنى والرفق يأتيان بكل خير وسلم ووئام. وفي المنهج العلمي الذي لا يؤود الصويان انتهاجه حرز من الأحكام التي ينقصها الواقعية أو النضج، أو تدفع إليها مواقف عاجلة أو آراء فطيرة.

ومما أُعلن في اللقاء المطرِب خبر مكتبة الضيف التي أحسن ببيعها لمركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية؛ لأن المكتبة وما فيها ليست موضع اهتمام بنيه، ومن الطريف أن المديفر سأل مستضافه عن سعرها الذي نسيه كما أخبرنا مع أن المال لا ينسى وفقًا للمديفر. وأذكر أني كنت ضمن مجموعة كتبية وتسية قبل سنوات، فروى بعضهم- وفيهم أصحاب أُنس مع الصويان- أن صاحبهم عرض مكتبته للبيع بعدة ملايين، بينما سعرها المعقول لا يصل إلى مليون لخلوها من المخطوطات والوثائق والطبعات الأولى والمفقودة، هكذا قالوا، وحديث الأقران جدير بالشك ووضعه على المحك أكثر من غيره.

أما أنا فلن يضيرني شيء لو بيعت بعشرة ملايين وأزيد؛ بل سأبتهج بذلك، وليت أن كلّ ذي مكتبة يعتني بمصيرها عقب رحيله. وفي السياق الثقافي أشاطر الصويان استغرابه من انصراف جائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه حول الصحراء وهو اللصيق بمشواره العلمي إلى كتاب آخر، ومن باب الثقافة الواسع شعرت بألم الصويان من الذين زايدوا على وطنيته بسبب بعض كتاباته؛ وإنها لبليّة يعاني منها كثير من المثقفين والكتّاب أصحاب الرأي المنطلق عن قناعة شخصية خليّة من أيّ غرض، ملففة بالولاء والحب، ولكنّ بعض قومي لا يعلمون أو لا يعذرون.

أخيرًا لا يفوتني الإشادة بالمشروعات التأليفية التي انفرد بها الصويان، أو تلك التي شارك فيها مع غيره في أعمال موسوعية مدعومة ماليًا، ومن حسنات الرجل أنها متاحة بأجمعها في موقعه الثري، وعلى من يعنيه الموضوع المبادرة لتحميلها فربما يجري على الموقع مثل ما خشي صاحبه من حدوثه على مكتبته من إهمال أو شتات أو فناء، وبعض محتويات الموقع مطبوع في كتب، وبعضها مجموع في مواد صوتية، إضافة إلى مقابلات ولقاءات ومقالات.

إنّ هذا اللقاء الذي جاء على حين فترة من الرجل لقاء تأسيسي مهم، ومن أجود ما فيه من مفاهيم عامة دون تخصيص الاعتزاز بالهوية، والثقة بها، والحذر من الانكسار الحضاري أمام الآخرين، شريطة ألّا يقودنا ذلك إلى جمود أو انغلاق، فنحن أمة لها تراث ديني كبير عريق راسخ لن تغيره الزلازل ولا البراكين ولو اجتمعا مع جميع الظواهر الجوية والأرضية والبحرية، ويساند هذا الميراث الشرعي ارتباط قويم بأصول وأعراف صحيحة، والتزام بعادات نبيلة، واستمساك بمكاسب عظيمة، وتاريخ يحكي أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن الله متم نوره ولو كره من كره.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الاثنين 07 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

10 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. وصلني عبر الواتساب تعليق من الأستاذ القارئ عبدالرحمن:
    أسعد الله صباحكم أستاذنا الكريم آمل أنكم والأسرة الكريمة بأحسن حال قرأت مقالتكم المميزة عن الصويان والصحيح أنها ضربة معلم..كثيرون يجمجمون بالرد فلا يقبلون إطراء الرجل والتلطف معه ولا يرغبون في القسوة حتى لو كانت منهجية..لكنكم سلكتم أسلوباً لا يتقنه غيركم انتصاراً للمعقول الثقافي والمحتذى القيَمي وتجاوزتم حفلة الهراء والخواء التي ولغ بها الكثيرون والكثيرات.. لقد تذكرت المثل الأمريكي الذي يقول: اركله الى أعلى.. عن كل من تريد تجاوزه بلطف سلم بنانك وبوركت أيامك مقالتكم ترغم القارئ على التعبير عن إعجابه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)