سياسة واقتصاد شريعة وقانون عرض كتاب

مجالس الحكم المفتوحة في السعودية

Print Friendly, PDF & Email

مجالس الحكم المفتوحة في السعودية

زرت الأمير الدكتور في مكتبه بإمارة القصيم لغرض علمي، وبعد نهاية اللقاء تلطف بإهدائي مؤلفاته، ومنها هذا الكتاب بعنوان: المجالس المفتوحة والمفهوم الإسلامي للحكم في سياسة المملكة العربية السعودية، تقديم: خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، تأليف: الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود، صدرت طبعته الأولى عن مكتبة العبيكان عام (1422=2001م)، ويقع في (257) صفحة، ويتكون الكتاب من الإهداء والتقديم والمقدمة، ثمّ سبعة فصول، وبعدها المراجع العربية والأجنبية وعددها خمسة وثلاثون مرجعًا، وأخيرًا الملاحق وفهرس المحتويات.

أهدى المؤلف كتابه إلى جده الملك المؤسس عبدالعزيز ورجاله الأوفياء -رحم الله الجميع-، ثمّ استهل الكتاب بتقديم ملكي فخم كتبه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وذكر مقامه فيه أن سياسة الباب المفتوح في السعودية من مظاهر الحكم ذات الأصل الشرعي، وأن سر نجاح هذا الأسلوب يعود إلى تمسك القادة والشعب بالدين عقيدة وشريعة ومنهاجًا، كما يستبين من هذا الكتاب بما فيه من تعليل وتحليل، حتى خلص الملك الحاكم إلى نتيجة ثابتة مفادها أن المجالس المفتوحة مضمار متعقل متزن لتبادل الآراء من أجل خدمة الدين، ونهضة البلد، والمحافظة على الاستقرار والأمن.

أما مقدمة الأمير المؤلف فحكى فيها قصة كتابه هذا الذي صيره أطروحة لنيل شهادة الماجستير؛ إذ كان المؤلف يدرس اللغة الإنجليزية في معهد لغة بجامعة واشنطن في أمريكا عام (1406=1986م)، وقد سأل المدرس طالبًا سعوديًا عن نظام الحكم في بلده؛ فتلعثم الطالب وذكر على استحياء لا مسوغ له أنه نظام ملكي! فشعر المؤلف بالمرارة من شعور الانكسار لدى الطالب، وشرع يبحث في إحدى المكتبات المحلية حتى وجد كتابًا لأستاذه د.عبدالله القباع، وفي أحد فصول ذلك الكتاب تحدث د.القباع عن المجالس المفتوحة باعتبارها أحد العوامل الرئيسة لصنع القرار في المملكة؛ وحينها رأى المؤلف أن تكون هذه المجالس موضوعًا لدراسته العليا.

ومع أن موضوع الدراسة روض أنف إلّا أن الله قد فتح على المؤلف ويسر له بعض المراجع، ثمّ وفقه بمساندة من الملك المؤرخ إبان إمارته للرياض سواء بالحوار معه، أو فتح مكتبه ومكتبته له، وعونه في إكمال الاستبانة العلمية مع مراجعي الإمارة ومجلس الأمير الحاكم. وقد تأخر المؤلف في طباعة كتابه لأسباب عديدة؛ بيد أنه حمد هذه الأناة بعد صدور مزيد من الأنظمة السعودية كي يلحقها في آخر كتابه الأول، ويضعه أمام ناظري القارئ المنصف، والموافق أو المخالف بعلم وحلم واتزان.

يدرس الفصل الأول الإطار النظري للموضوع، مستعرضًا بعد التمهيد النموذج السعودي للحكم، ودور الدين في نظام الحكم السعودي، وللعلم فللدين أثر حتى على النظم العلمانية الصرفة، وفي هذه المسألة عدة كتب ودراسات. ومما ذكره المؤلف أن النموذج السعودي ينظر إليه ضمن النموذج الإسلامي؛ فالشعب مسلم، ونظام الحكم يرتكز على دين رب الأرض والسماء، ومن مفردات النظام السعودي تطبيق الشورى بمعناها الواسع، ومن سبلها المجالس المفتوحة.

وفي إشارة ذكية واستشهاد عميق لمقولات المفكر العربي د.إدوارد سعيد في حديثه عن الاستشراق، لفت الباحث النظر إلى الموقف العقلي المتحيز للغرب في تقييم غيرهم؛ إذ يجعل الغرب واقعه ونظامه مقياسًا يحاكم الناس والمجتمعات والحكومات إليه، ولأجل هذا مثلًا تتشابه آراء الغربيين صوب نظام الحكم في المملكة، وأوضاع النساء، ومسائل شرقية أخرى؛ والسبب فيما يظهر أنهم يتكئون على معلومات ناقصة أو مغالطات متوالية، وفوق ذلك يأتي تحليلهم من زاوية واقع مجتمعهم ومضمون أفكارهم. وقد نقل الأمير كلمة مختصرة معبرة عن الملك فيصل -رحمه الله- هي قوله: ” ينبغي أن يكون التقييم الحقيقي لأي نظام معتمدًا على إنجازات ذلك النظام وإخلاص قادته للشعب وليس الاسم الذي يطلق عليه”.

وأوضح الفصل الثاني مصادر المعلومات وأدوات جمعها، وتحدث عنها وهي: المراجع المتوافرة عن المملكة، والمقابلات الشخصية، والاستبانة، وختمها بالخلاصة التي يلّخص بها كل فصل في منتهاه. ومما جاء فيه نقلًا عن مراجع أجنبية أن المجالس من أعمدة الحكم في المملكة، وأيّ مواطن أو مقيم يستطيع الوصول لصانع القرار، وفي ذلك اتصال مباشر، وتعبير حر صريح عن الرأي، وإن أخذ عليه بعضهم غياب المشاركة في أصل اتخاذ القرار. وبعد المراجع جلس المؤلف إلى اثنين من كبار أساتيذ الجامعات في أمريكا، ووزع استبانة مختصرة وواضحة مكونة من اثني عشر سؤالًا، وكان التوزيع على عينة من الحضور في مجلس الملك سلمان في إمارة الرياض، ثمّ حللها كما سيأتي.

أما الفصل الثالث فأوقف القارئ على الخلفية التاريخية والطبيعة الجغرافية للمملكة العربية السعودية، وهو فصل يجعل القارئ على صلة معرفية بالواقع تاريخيًا وبلدانيًا كي يحسن تصور المسألة التي يقوم عليها الكتاب، خاصة لمن لا يحيط بالتاريخ السعودي بداية من عصر الإمام المؤسس محمد بن سعود -رحمه الله- إلى أيامنا الحاضرة. وفي هذا الفصل معلومات موثقة عن مناطق المملكة الإدارية، ولمحات موجزة عن التطور السياسي السعودي، وعن تاريخ مجلس الوزراء.

ثمّ بحث رابع الفصول الأسس الدينية والحضارية للدولة الإسلامية، وفيه درس الكاتب بنية النظام السياسي، وسلطات الدولة، ونموذج الحكم السعودي بما فيه من حدود لسلطة الملك تلتزم بالشريعة والنظام وتحقيق المصالح العليا، مع غياب واضح للفصل النكد بين الدين والدولة، وأخيرًا النموذج القبلي، فالقبيلة مكون مهم جدًا في مجتمعنا المحلي والعربي، وهي وحدة مؤثرة في المجتمع وإن لم تكن الوحيدة.

وعقد المؤلف الأمير مقارنات دولية في الفصل الخامس، حلل فيها وجهات النظر حول العلاقة بين نوع الحكم وأسلوب الحياة، وسرد قواعد مهمة قبل إجراء أيّ مقارنة تتلخص في فهم التاريخ والأنماط الحضارية، والإحاطة بطبيعة المجتمعات وأناسها. وذكر أمثلة سعودية عن تغيير بعض القرارات بعد مداولات في المجالس المفتوحة، وهي نقاشات شخصية مباشرة بين أفراد من الشعب مع الحاكم الذي يمثل الأمة وينوب عنها ويسعى لتحقيق الخيرات لها.

كما صور لنا الفصل السادس بعنوان المجالس المفتوحة: الإجراء والوظيفة تلك المجالس عبر مفهومها وتاريخها ومستوياتها بدءًا من مجلس الملك، وولي العهد، والنائب الثاني إن وجد، ومجلس الوزراء، والمجالس المفتوحة بأنواعها عند وزير الداخلية وأمراء المناطق. ثمّ نقل المؤلف الدكتور فعالية تطبيقية فيها حوار عن المجالس المفتوحة مع الملك سلمان إبان إمارته للرياض، واطلع القارئ على نتائج الاستبانة.

لذلك خلص إلى أن المجلس سمة سعودية ذات استمداد من تطبيقات العصر النبوي والراشدي، ونقل عن الملك سلمان الذي يقابل في مجلسه بالإمارة يوميًا ألف مراجع تقريبًا أن المجالس تقليد عريق، وقد اعتاد عليه الناس والقيادة، وهو تطبيق مرض للأغلبية، ومن المهم استمراره حتى مع المشقة فيه، وجزم الأمير الحاكم -الملك سلمان- بأن المجلس أحد أدوات قياس الرأي العام، وهو مفتوح للجميع دون استثناء.

ثمّ أورد الباحث نتائج الاستبيان؛ فنصف العينة جاءت لأجل مشكلة شخصية، وخمسهم أتى لحل أمر مع الحكومة، والخمس الثاني جاء لأسباب مالية. وعلّل نصف المشاركين قصد المجلس مباشرة بأنهم يثقون في تفهم صاحب المجلس وفي عدالته، وأجمع المشاركون على أنهم لم يواجهوا صعوبة في حضور المجلس، وأنهم قابلوا المسؤولين بسهولة، ودون حاجة لموعد سابق. وقد حضر أكثر من نصفهم للمجلس عدة مرات، ورأت الغالبية أن الحل الذي خرجوا به كان عادلًا أو مرضيًا، ولذلك قال 90% منهم إن فكرة المجلس ممتازة، ودرجة رضاهم عنه أرفع من هذه النسبة، وحدد الثلث الوجهة البديلة بالمحاكم، واختار الخمس الصعود لمجلس أعلى، وقرر النصف تكرار المحاولة مع المجلس نفسه؛ لأن الأكثرية يجدون أن الحصول على الجواب في المجلس سريع، ولذلك حضر جميع أفراد العينة بأنفسهم دون تفويض أحد.

أخيرًا وصل المؤلف إلى أن الوعي السياسي ومستوى التعليم في أيّ بلد عامل مؤثر، وأن طبيعة المجتمعات تختلف، وعليه فليس من الحنكة والصواب نقل طريقة كما هي من مجتمع لآخر؛ فعملية الزرع الاعتباطي لتجارب الآخرين ستؤول إلى نتائج عكسية ربما. وأكد الباحث على توافر الحرية المسؤولة والمنضبطة في المملكة في إطار ما أسماه بالشمولية الحضارية التاريخية، ولا يعني هذا الجمود، فسمة نظامنا الثبات حيث يجب الثبات مع وجود مساحات للتطوير.

وألحق الأمير المؤلف د.فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز في آخر الكتاب نص الاستبانة التي وزعها، وأمرًا من الملك فهد للمسؤولين يتعلّق بموضوع الكتاب، ونصوص النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق. ومن اللطيف لغويًا أن المجلس يحسّ بالنفوس، ويجس الهواجس والخواطر والألفاظ؛ بغية جلب المنافع ودفع المفاسد، ولأجل ذلك فمجالسنا الحاكمة مع الهيبة المحيطة بها، لا تفتقد الحنان والرحمة، ومن المؤكد أنها عملية منجزة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 16 من شهرِ المحرم عام 1445

03 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)