إدارة وتربية سير وأعلام

جوخ جدتي النجفي!

Print Friendly, PDF & Email

جوخ جدتي النجفي!

دخلت على والدتيرحمة الله ورضوانه عليهافوجدت معها عباءة ثقيلة جدًا، ولون سوادها كثيف لافت؛ فسألتها: ما هذه العباءة يا ماما؟ فقالت: هذاجوخوالدتي! فأبديت إعجابي الصادق بالجوخ، وصرحت بدهشتي؛ لأني لم أشاهد هذا الجوخ على الجدة الحبيبة أبدًا حسب ذاكرتي التي يدركها الكلال والنسيان.

فأخبرتني الوالدة عن قصة الجوخ وقالت: رأت جدتك هذا الجوخ على امرأة من أقاربها فراق لها، وسألت عنه فقيل لها: هو جوخ نجفي يُباع في سوق الأحساء الشعبي؛ لذلك لم تتأخر الجدة إذ أوصت من اشترى لها الجوخ عام (1388) بثلاثمئة ريال، وعندما وصلها ضبطت مقاسه على ما يناسبها بثلاثين ريالًا؛ فمجموع التكلفة ثلاثمئة وثلاثون ريالًا في ذلكم الزمن، وربما يساوي هذا المبلغ في أيامنا عشرة أضعاف ذلكم الرقم.

ثمّ سألت الوالدة: لمَ لم تكن الجدة تلبس هذا الجوخ فيما أذكر؟! فأجابتني: كانت تلبسه لكن بعد أن كبرت في العمر، وقلّ خروجها، وضعف جسدها، لم تعد تلبسه بسبب ثقل حمله، إلى أن أعطتني إياه فيما بعد، فأنفس شيء لدى جدتي الصالحة وحيدتها البارةرحمهما الله-. ولأن الوالدة لم تكن ترتديه حسب علمي؛ فقد سألتها وما فعلت بالجوخ أنت؟ فأخبرتني أنها غسلته وعطرته وغلفته ثمّ علقته للحفظ، واعتادت أن تخرجه من الخزانة لتراه بين فينة وأخرى؛ فتستذكر والدتها وإن لم تكن قد نسيتها من الدعاء وصالح العمل ودائم الذكرى، ورؤيتي له كانت على إثر هذا الخروج المبارك.

عندها اهتبلت الفرصة، واستوهبت الجوخ من أمي، فوافقت وقالت: هو لك على أن تعتني به وتكرمه! فأخذته من فوري، وذهبت به لسوق الزل في الرياض، وطلبت من خياط مختص أن يعيد ضبطه على مقاسي، ويفتح أكمامه المغلقة، فوافق وعيّن يومًا لتسلمه بالهيئة المرادة. وبعد أن حضرت لتسلّم جوخي الأثير سألني الخياط: هل كان هذا الجوخ لامرأة؟ فقلت له: نعم، هو جوخ جدتي؛ لكن كيف عرفت؟

فأخبرني أنه لاحظ قفل الأكمام، وهذا من فعل النساء قديما إمعانًا في إخفاء الجسد، ووجد أن طوله من الخلف أزيد من طوله الأمامي، وهكذا كانت تصنع النساء فيما سبق زيادة في الستر! ورحم الله أولئك النساء الغافلات، وأكثر فينا من الفتيات والنساء المحتشمات الصينات، البعيدات عن الاستجابة لشبه الشياطين، وشهوات المفسدين، ودعوات المجرمين، فوالله ألف مرة إن لباس المرأة لا علاقة له بتمدن ولا تطور، ولا يعني أيّ تقدم أو تأخر، وهو ليس منالحريةفي شيء!

المهم أني عقب ذلك صرت ألبس الجوخ داخل المنزل، وعند الأسرة القريبة، وفي البر، وذات مرة تجرأت فصليت وأنا ألبسه، ولم أخلعه إذ كنت قادمًا من جلسة أسرية، وبعد خروجي السريع من المسجد، تبعني إمامنا المحب وسألني: من أين أحضرت هذا الجوخ النجفي! فقصصت عليه الحكاية، وسألني عنه فيما بعد المؤذن العزيز، فأعلمته عن نبأه، وهو ما يزال يستخبر عن الجوخ المميز وما صنع.

ثمّ اصطحبت الجوخ معي للحج غير مرة، وكانت أمي تسعد كثيرًا كثيرًا بهذه الصحبة؛ لأن جوخ أمها وافى الموسم الميمون مع ابنها ووقاه من البرد، وفي أيام التشريق لبسته فوق ثوب أسود، وعلى رأسي طربوش أسود كذلك؛ فتعجب الجيران في المخيمات القريبة من مظهري ظانين أني قادم من قم أو النجف، وكنت حريصًا ألّا أخرج من المخيم وأنا ألبسه لكني نسيت حينها، وسبب الرغبة في ألّا أظهر به في الأماكن العامة هو الخشية من كونه لباس شهرة.

أما داعي الكتابة فهو أني أخذت هذا الجوخ في خروج قصير مع الأولاد للبر عقب صلاة الجمعة، وتحديدًا في نفود الطوقي بجوار ملهم وحريملاء شمال الرياض، ورويت لأنجالي حكاية هذا الجوخ، وأوصيتهم عليه استجابة لشرط أمي ووفاء بعهدها، علمًا أني أحتفظ لديّ بشيء من خاصة أشياء والديّ وجدي وجدتي رحمهم الله جميعًا، وأضعها أمامي أو قريبًا من ناظري، واستخدم عصا الأب والجد، وعباءة الأم والجدة، متى سنحت لي الفرصة. وقد رويت هذه الذكرى هاهنا لعلّ قارئًا صالحًا أو متقبل الدعاء أن يسأل ربنا الرؤوف لي ولهم الرحمة والمغفرة والرضوان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالطوقي

ahmalassaf@

الجمعة 20 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

13 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)