سياسة واقتصاد مواسم ومجتمع

مجلس الشورى والنسب التليد!

Print Friendly, PDF & Email

مجلس الشورى والنسب التليد!

ثلاثون عامًا هو عمر مجلس الشورى السعودي في تكوينه الجديد الذي أعلن عن إنشائه قبل عامين من تسمية أول ستين عضوًا فيه عام (1414=1993م)؛ بيد أنه يرتبط مع المجالس القديمة التي أمر بتنظيمها الملك المؤسس عبدالعزيز مع دخوله إلى مكة قبل مئة عام، وأيضًا يتماشى مع السمة التشاورية الدائمة التي امتاز بها الملك عبدالعزيز سواء مع رجاله الأقربين، أو بالسماع من المشايخ والعلماء، أو محاورة لشيوخ القبائل ورؤوس الأسر والبلدان، أو بتداول الآراء مستعينًا بمستشاريه السعوديين والعرب المحيطين به؛ حتى لكأن مجلسه الملكي الفريد جامعة للعرب قبل أن تنعقد لهم جامعة، وهذه الطريقة الملكية سار على سننها أنجاله الملوك من بعده في مجالسهم، ولقاءاتهم، ومشاوراتهم.

كما أن الشورى السعودية عريقة منذ الدولة الأولى وبداية عهد مؤسسها الإمام محمد بن سعود عام (1139=1727م)، ثمّ استمرت مع من تلاه من أبناء وحفدة وصولًا إلى زمن المؤسس الثاني الإمام تركي بن عبدالله فمن بعده، وهم بذلك يقتفون أثر ما تشربوه من مفاهيم دينهم الحنيف إذ حثت آيات القرآن العزيز، وأحاديث السنة النبوية، وتطبيقات الخلفاء الراشدين، على الشورى العامة والخاصة، وحضت على إتاحتها لأهل الرأي والحكمة أولًا، مع فتح الباب لعامة الناس ولو كانوا أغمارًا أو غير معروفين مادام أن لديهم ما يودون التعبير عنه بالطريقة المناسبة، وقد أصابت امرأة وأخطأ عمر الذي هو عمر، وكان حينها على المنبر!

ثمّ إن الشورى طريقة عربية أصيلة عبر النوادي والمجالس المحيطة بكبار القبيلة أو المدينة أو المملكة، وقد وصف أهلها برجاحة العقل، وكمال النفس، والأناة، وحسن النظر، وتمام التدبر، وهذا الحال حتى قبل الإسلام، وعليه فنحن أمة تحمل العراقة الدينية والعربية في هذه الحكمة المتوارثة، والسمة الحصيفة، التي تجعل نسب العمل الشوري فينا تليدًا غير طارف، وله جذور عميقة، ومنابت راسخة شامخة.

فإذا أردنا أن ننظر للتجربة الحديثة بعين متفائلة ترى الحسن ولو كان يسيرًا، وترنو للاقتراب من الكمال؛ لأنها لا تنكر وجود القصور الطبيعي حتى لو لم تذكره صراحة، فيمكن لنا أن نلمح حسنات عدة للمجلس تعود على البلد وأهله بالخير العام والمنفعة حالًا أو مآلًا. فمنها أن الأجهزة الحكومية التنفيذية أصبحت تحسب حسابًا للمجلسيزيد أو ينقص، وهذا الحساب سيبلغ مداه المقبول بالتكامل مع أجهزة حكومية رقابية أخرى، إضافة إلى تنامي الحس العام نحو تقييم الأداء، والإبلاغ عن الأخطاء، والمعاونة بالمقترحات عبر عدة منصات، والنتيجة المرجوة هو دوام التحسين، ومراعاة ما ينتظره المجتمع.

ومنها أن المجلس جمع أصنافًا من الناس ما كان لهم أن يجتمعوا إلّا تحت قبته؛ بسبب تنوع التخصصات، وبعد المسافات، والحواجز النفسية بين أصحاب الأفكار، وتباين الأجيال، واختلاف المراتب الوظيفية، والانهماك في قطاعات العمل، ومع أن الاجتماع منقبة بحدّ ذاته، والوداد الناجم عنه مكسب إضافي، إلّا أن ما تصاحب معه من الهدوء في النقاش، والعلمية في الطرح، والبعد عن لجج الخصام، ومجانبة تعالي الأصوات، والنفرة من السبق المحموم إلى الأضواء، يدل على أننا أمام تجربة تبحث عن العمل، وتنأى عن الجدل.

وقد أسهم هذا الاجتماع المبارك بميلاد عدد من المجتمعات الشورية الحقيقية أو الافتراضية، ولم يفتر بعض أهلها عن تقديم المشورة والخدمات بالرأي والنقاش حتى وإن انتهت العضوية، ومن أبرز الأمثلة الكتاب الذي أصدره ثمانية أعضاء ممن شاركوا في أول ثلاث دورات، وفيه طرح لا يخلو من عمق، ولا يفقد الجرأة، ويكسوه الصدق من كل ناحية. ومنه ملتقيات شورية، ومجموعات وتسية، وتواصل مستمر مع المسؤولين والناس، وقد أوجدت دورات المجلس الثمان السابقة كتلة موفقة من حكماء البلد، وبابها مفتوح لمن سيدخل ضمن نسيجها المتآلف مستقبلًا؛ تحقيقًا للمغانم بلا مغارم.

كذلك جعل المجلس نفسه في وضع طبيعي لا نشاز فيه ولا مخاشنة منه، إذ يعين ولا يعيق، يوضح ولا يجرح، يتابع ولا يجعجع، وأفاد من مرجعيته العليا بلفت الاهتمام إليه من قبل المسؤولين كافة؛ فهو الجهاز الوحيد الذي يحظى بافتتاح ملكي سنوي مصحوب بكلمة ذات دلالة، وهو الجهاز الوحيد المرتبط بالملك مباشرة ويمارس أعمالًا تشريعية صرفة بالدرجة الأولى إضافة لجزء رقابي –لمجلس الوزراء أعمال تشريعية كبرى لكنها ليست عمله الوحيد، وهو الجهاز الوحيد الذي يُسمى أحد أعضاء مجلس الوزراء وزيرًا لشؤونه، وهو الجهاز الأكثر التزامًا بدورية تجديد أعضائه كل أربع سنوات في موعد لا يتخلّف.

ومن حسنات المجلس أن خبرات أعضائه الكثر قد انسابت بلطف تحت قبة المجلس فذابت أمامها أي ممانعة، حتى سمعت منهم وقرأت عنهم أن العمل مع أول رئيس للمجلس الشيخ محمد بن جبير قد فتح آفاقهم إلى أن حرية الرأي وحسن الإدارة وسعة الأفق ليست قصرًا على من درس بالخارج؛ بل قد يفقدها بعضهم، بينما تفيض لدى من تخرجوا في بيئات مشيخية خالصة! وقال لي أحد القضاة من الأعضاء السابقين: من أعظم ما تعلمته في المجلس فنّ الصياغة بالإفادة من الزملاء القانونيين، وهي كلمة قرأتها عن العلامة السنهوري خلاصتها أن الفقه الإسلامي يحتاج لإعادة صياغة كي يفهمه الجميع، ويصير سهلًا على العاملين في الحقول العدلية.

وقد عبّر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي أكثر من مرة عن مجلس الشورى بوصف الجامعة، وأشرف على تحرير نصّ الكتاب الذي تعاون عليه ثمانية من الأعضاء الأوائل. وحدثني عضو سابق بأن أحد زملائهم قال لهم كلمة هي: من أمضى في المجلس أربع سنوات فكأنه نال شهادة البكالوريوس، ومن أكمل ثمان سنوات فهنيئًا له الحصول على الماجستير، أما من أتم اثني عشر عامًا فقد غادر المجلس وهو يحمل شهادة الدكتوراة، وهذا معنى كلامه دون ألفاظه، وهو يؤكد على القيمة العلمية والعملية للمجلس وعضويته، ومن بديع ما سمعته قول أحدهم: طوال عضويتي لم أتلق أيّ توجيه مباشر أو غير مباشر للتصويت بالموافقة أو الرفض؛ فقراري ملك لي، وأنا عنه مسؤول وحدي!

أيضًا تسود المجلس أجواء وطنية عبقة؛ فكل من تحت القبة جاء ليخدم الوطن كله، ولا يرى نفسه وكيلًا عن أحد، أو ممثلًا لفئة مهنية أو بلدانية أو اجتماعية، ومنهم من خدم في مؤسسات حكومية عقودًا من الدهر، وربما بلغ أعلى المراتب، ثمّ أنهى خدمته العامة في المجلس عضوًا ليصب فيه خلاصة التجربة برأي سداد وقول رشاد. وفيهم من انتصف في سجله العملي واختير عضوًا، ثمّ صعد إلى مناصب أخرى في مجلس الوزراء أو في المؤسسات والهيئات العامة؛ فلكأنه فهم البلد بجلاء، وأحاط به بسعة أشمل قبل أن تناط به مسؤولية أكبر!

هذا الفهم الذي يُعدُّ من مزايا المجلس؛ فبعض الناس محصور في مجاله العلمي، أو نطاقه العملي، أو حيزه المكاني؛ لكنه في المجلس سوف ينفتح على مملكته الكبرى بما ومن فيها، وبالتالي فهو درس تطبيقي متين في شؤون عدة تغني عن آلاف الساعات ومئات المجلدات. ومن طريف ما وقفت عليه أن أحد أعضاء المجلس كان عضوًا في لجنة متخصصة من لجانه، وبعد سنوات سمي في منصب تنفيذي رفيع في مؤسسة من اختصاص لجنته الشورية السالفة، وبعد أن أمضى مدة في منصبه الجديد، وعاين الواقع وخبر مشكلاته وعوائقه، دعى رفاق الشورى لزيارته، وأطلعهم على واقع العمل، وكأنه يقول لهم: بعض مقترحات اللجنة سوف نمضيه، وبعضها يتلاشى بقولنا يرى الشاهد ما لا يرى الغائب!

وفي المجلس قامات علمية، وهمم عملية، وذووا تداخل مجتمعي حميد؛ ولذلك انبهر وفد فرنسي بعد أن سألوا أعضاء المجلس عن جهودهم في الشأن العام؛ فوجدوا منهم المؤسس لجمعيات نفع عام ومؤسسات مجتمع مدني في حقول عديدة، وفيهم من شارك بتأسيس عدد غير قليل منها أو انفرد بذلك أحيانًا؛ هذا غير عضوية مجالس الإدارة، أو الإسهام في تسيير أمورها حينًا من الدهر غير يسير. ومما يشار إليه أن لعدد من أعضاء المجلس سير ذاتية مطبوعة، أو مقالات، أو حوارات، أو محاضرات، وفيها شيء عن التجربة العامة والخاصة بالمجلس، ومن الإنصاف الإنصات لهم، فليس راءٍ كمن سمعا!

هذه الخصائص المجلسية هي التي أعانت الشيخ محمد بن جبير كي يبطل غمز برلماني عربي حين سأل الشيخ الوقور: أين الفلاحون والعمال عن مجلسكم؟ فأجابه الشيخ ورجل الدولة بهدوء: أعضاء المجلس يخدمون الفلاحين والعمال وجميع فئات المجتمع بعدل دون تمييز، وبلا حرج التمثيل وضيق المحسوبية، ويصنعون ذلك بناء على مواهبهم العلمية والعملية، وحسب تاريخهم العملي ومنجزاتهم المشهودة، وفيهم فوق ذلك وفاء لثقة الانتقاء، وتقدير لأمانة المسؤولية، والتزام بقسمها الغليظ.

وإن تلك المواهب أيها القارئ المنصف هي التي جعلت الملك فهد يقول في استقباله لأول ستين عضو من أعضاء المجلس فيما سمعت: سألني كثير من الناس كيف اخترت الأعضاء الستين، لكني أنا كنت أحدثهم ليس عن كيف اخترت بل عن كيف احترت! وللتاريخ فأعضاء أول دورة خضعوا لانتقاء فائق التدقيق، ومعياره الوحيد أو الأعظم هو الكفاءة والأهلية الخالصة دون ما سواه، ولم يغب هذا المعيار الرشيد فيما بعد مع وجود غيره بناء على مقتضيات معتبرة ومهمة.

فحري بنا أن نثق بمجلسنا بمن فيه من كفاءات شرعية واقتصادية وقانونية وإدارية وتقنية وهندسية وطبية وتعليمية واجتماعية وصناعية وعسكرية وتجارية وسياسية وغير ذلك، وألّا ننساق مع التعميمات أو الأخبار الملتقطة من أطرافها مع تغييب جسد الحقيقة والقصة الكاملة، وأن نتعاون على البر والتقوى رجاء الوصول للمأمول بتؤدة رويدًا رويدًا.

ثمّ إن ذلك كله لا يحول دون أن نتمنى تطوير الأداء، والقرب أكثر من الجمهور، والشفافية التي تنشد وتجلب الطمأنينة والراحة، فلن يعدم المجلس من أبناء بلاده المحبين المخلصين أيّ وجهة نظر لها حظها من القبول والوجاهة، والحكمة ضالة ونحن أهلها، والمجتمع بمصالحه وعراقته وأناسه، والحكومة برؤيتها وإستراتيجيتها ومكوناتها، أمانة ثقيلة ليست على أحد دون أحد، فلكل واحد مسؤوليته بحسبه، وعلى الله قصد السبيل.

أخيرًا فمما يناسب إيراده مع هذا السياق أن الشيخ محمد بن جبير ومن تلاه من رؤساء المجلس الشيخ أ.د.صالح بن حميد، والشيخ د.عبدالله آل الشيخ يصرون على استخدام اسمالشورىكما هو دون ترجمة للكلمة حتى لا يكون المسمى الأصيل غريبًا على آذان السامعين، وليدخل إلى المعاجم السياسية الدولية. ومع هذا الإصرار فلديهم اعتزاز بالتجربة، وكم استقى منهم المشاركون معهم هذه المشاعر الواثقة العبقة بالانتماء والانشراح دون كدر المقارنة أو غبش الانبهار، ولذلك حضروا في مجتمعات مماثلة إقليمية ودولية ومعهم هذا الشعور السامي بإن تجربتنا متداخلة مع ثقافتنا، ومنبثقة عنها وليست منبتة، وليس بالضرورة أن يرضى عنها المختلفون والمخالفون.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين غرة شهرِ ذي الحجة عام 1444

19 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)