سير وأعلام

عبدالرحمن السويلم: نسمة تسري وسارية تسمو!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالرحمن السويلم: نسمة تسري وسارية تسمو!

هذا الرجل قد لبس فأسبل، وليس في إسباله مأخذ أو مأثم، إذ ارتدى جملة من المكارم فهي له ليست مثل الملابس التي لا يستغني عنها إنسان البتة في الخلوة والجلوة، وإنما أصبحت إهابًا ملتصقًا به لا يتغير. ولم يكتف صاحبنا السامي بحب مناقب الخير، وسلوك سبل الإحسان، ولم يركن لجريانها في أمشاجه، وتوارثها عن أسلافه، وإنما جعلها مثل الكائن الحي الملازم لشخصه، والتابع لظله، وأسس لها في برنامج حياته منذ زمن مبكر سابق على مرحلة التقاعد؛ ليقضي معها خواتيم العمر أطاله الله على سعادة وطاعة، وذلكم -يا قوم- فضل الله يؤتيه من يشاء، والمحروم من لم يكن له من جنس هذا الفضل أيّ نصيب ولو كمفحص قطاة؛ فالفضائل ببعضها تتقوى، والقليل المخلَص منها يتضاعف عند المولى.

لذلك لم يكن الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السويلم استشاريًا بارعًا في طب الأطفال فقط، ولا طبيبًا منتجًا في جمعيات علمية وتخصصية، ولولا صوارفه الكثيرة لكان من الباحثين الكبار حسبما تثبت أبحاثه المنشورة التي تناهز الثلاثين. وأيضًا لم يكن مسؤولًا كبيرًا وفاعلًا في أجهزة صحية عامة علاجية وإسعافية فحسب، ولا عضوًا نبيلًا في مجلس الشورى لا غير، بل هو أبعد من ذلك غورًا، وأعمق مقصدًا، وكم في المجتمعات من فرص سانحة لمن أراد التأثير والنفع، سواء بكثير متنوع مثل أبي سعد، أو حتى بالقليل والمحدود؛ ذلك أن الحسنة مع أختها، تصنع مجتمعًا عظيمًا، ولو منحنا التقدير لأيّ عمل طيب مهما كان حجمه، فسوف تتكاثر أمثالها، ويتقاطر الناس على أضرابها، لترسيخ الخيرية، وتوكيد العراقة، وكم على ظهر الأرض من سعة ومخارج لمن رام المسير برشد وإحسان، ولو اضطر للحراك خطوة خطوة.

ومن الملاحظ أن مجالات الإنجاز لدى د.عبدالرحمن السويلم متنوعة، فقد عمل في وزارة الصحة طبيبًا معالجًا، ثمّ في إدارة مستشفيات ومديريات صحية، ورئاسة المكتب التنفيذي الخليجي، ووكالة وزارة الصحة، ورئاسة الهلال الأحمر التي صير من مسؤوليته عنها سببًا في تطورها وامتداد فعاليتها عبر فرق عمل جاهزة للغوث والنجدة، وبعضوياتها الدولية المقدرة والمطلوبة، وبعلاقاتها الأممية الواسعة. وامتاز خلال خدمته الحكومية بالضبط الإداري الحاسم، والأفكار السباقة، إذ لاحظ وجود أطباء أطفال في قسم بمستشفى لم يفتتح بعد، في حين أن غيره يئن من نقص المتخصصين، فسعى لنقل خدماتهم لمواطن الحاجة حتى يتم تشغيل عملهم الأساسي، وبذلك حفظ للحكومة أموالها، ونفع المستشفى والأطباء والمرضى والمجتمع.

كذلك من خصائصه البهية النزاهة المالية الدقيقة لدرجة المحاسبة على أيّ مبلغ من المال العام وإن تصاغر، ولأجل هذه النزاهة التي صبغت منهجه العملي، غدا موضع الثقة والمحبة عند المسؤولين، وفاز بالجوائز والأوسمة، وسبحان الرحمن فهو من يلقي الحب، ويجعل الود، أو ينزعهما من اللاهث خلفهما بالتزلف والتزين بما ليس فيه. ومما لا يخفى على متابع المكانة العليّة للدكتور السويلم لدى مقام الملك سلمان وأنجاله الأمراء -حفظهم الله-، ويبدو أن النزاهة، والإنتاجية الباهرة المتواصلة، والانغماس في العمل الخيري، والتباعد عن الأضواء، والصرامة، من أهم أسباب وجود هذه المنزلة التي نالها طبيبنا المبارك، وهي الأسباب ذاتها التي سلبتها من آخرين تشققت أقدامهم، وجفت حلوقهم، وتكسرت أعناقهم، وهم يطلبون منها ربع العشر فما ظفروا بشيء!

كما صرف د.السويلم جهوده الخيرية التطوعية صوب المرضى، والأيتام، والمعاقين، وذوي الحاجات الموسمية، والمنكوبين، بتأسيس كيانات غير ربحية، وإدارتها، وعضوية مجالس إداراتها، والمشاركة الفاعلة في العمل الخيري السعودي الرسمي المؤثر خارج المملكة، والسعي المخلص لفتح الباب له؛ ولذلك خلد اسمه مع أعمال فريدة مثل زراعة الأعضاء، وأبحاث الإعاقة ومؤسساتها، وإصدار مجلات وكتب متخصصة، ولجان العمل الطبي مع الحجاج والمعتمرين، أو للعناية بالمرضى في أماكنهم.

وهو عضو باذل للنفس والفكر والوجاهة دون أن ينتظر إشارة أو توجيهًا، ولأجل هذا فربما أن بعض المؤسسات المرتبطة به تعتمد على وجوده وقدراته وعلاقاته، وعلى القبول الكبير الذي يحظى به، وعلى سماته في القيادة، والإنصات، والحسم، وهيبة الحضور، وديمومة العمل والمتابعة والتواصل. وقد أفاد منه عدد من رؤساء مؤسسات خيرية كبرى، فهو يقدم الاستشارة المخلصة العملية لهم، ويقترح الأفكار، ويراعي مكانة البلاد وسمعتها، ويصنع ذلك دون أن يبتغي عليها جزاء أو شكورًا.

ودونكم هذه القصة التي توضح شيئًا من همة الرجل، ونهمه الخيري، ومنهجه العملي، وتربيته؛ إذ أخبرني صديق من إحدى المدن الحدودية أنه زار د.السويلم في مكتبه، لمشاورته في إنشاء جمعية طبية خيرية بعد أن كانت لجنة منبثقة من جمعية البر، ويتبع ذلك طلب إذنه لنيل رئاسته الشرفية. وبعد أن أسدى د.عبدالرحمن نصائحه العملية والمؤثرة للزميل، قال له: سأكون عضوًا معكم وليس رئيسًا شرفيًا فذلك أجدى! فذهل الزائر الذي ما كان يتوقع موافقته لانشغاله. وبعد أسبوعين من ذلكم اللقاء، وصل السويلم للمدينة بسيارة يقودها سبطه، واتصل بصاحبي الذي كان في مكة حينها، فوقع في حرج، لكن أبا سعد هون الأمر عليه، وقال: جئت بلا موعد حتى لا تتكلفوا، وحضر معي ابن بنتي ليتعود على فعل الخير ويرى التطوع وأهله، ثمّ جلس مع مسؤولي الجمعية، وأعطاهم بعض التوجيهات للجمعية الجديدة التي نشأت عقب ذلك ونشطت وصار لها أعمال ومنجزات، وزارها د.السويلم ثلاث مرات كي يقف بنفسه على أعمالها نصحًا لها وللبلد، وقيامًا بواجب المسؤولية.

ثمّ إن هذا الطبيب المسكون بالخيرية، الهابّ للنجدة، والواهب عصارة عمره وعمله وعقله للإغاثة الطبية، وتأمين ضرورات الحياة، قد وفق لجانب من الصنائع المباركة الجامعة للدين والدنيا، ومنها الإسهام البارز مع جمعيات خاصة بخدمة علوم القرآن والسنة، وترجع إداريًا لرابطة العالم الإسلامي، إضافة إلى رعاية مسابقات قرآنية ضمن الجمعيات الطبية والإغاثية، مع العناية بالمساجد، والمبادئ السامية المنبثقة عن ديننا القويم، والمرتكزة على عراقة مجتمعنا وأصوله الراسخة، والحرص على تأمين الأوقاف الناجزة، وضمان الغبطة لها.

وهو مبادر حسب المتاح وبلا يأس من عقبات حقيقية أو متوهمة؛ فحين كان مسؤولًا صحيًا في المنطقة الشرقية، ابتكر فكرة غير مسبوقة، وحثّ أثريائها لغاية دعم لجنة أصدقاء المرضى حديثة النشأة، وهي لجنة مجتمعية تنفع المريض وأسرته، وتؤازر المنظومة الصحية. وعندما اطلع عليها الوزير د.القصيبي عممها على مناطق المملكة الصحية حتى تجاوز عددها الخمسين، وهذا نموذج على أيّ عمل ظاهر الفائدة، والحاجة له قائمة، والداعي له مسؤول ذو ثقة ومصداقية، والداعم له جهاز حكومي متعاون، وبالتالي سوف يتدافع لدعمه التجار وأهل الجدة، ومن لديهم قدرات إدارية وفكرية، ولذلك نجح د.السويلم في بناء أول مستشفى حكومي بحفر الباطن بتبرعات من أثريائها عندما حثهم على ذلك في لقائه بهم. وإليه بعد الله يعود الفضل في تشييد مبنى ضخم لهيئة الهلال الأحمر في منطقة راقية بالرياض، إذ تنافس العقاريون والمقاولون والتجار على التبرع بأرض، أو مواد، أو تخطيط، أو بناء، أو بدفع الأموال، فمما يحسب للدكتور السويلم أنه كان وراء تنفيذ هذا المشروع، وسانده بقوة الملك سلمان إبان إمارته التاريخية للرياض.

ومع هذا الانشغال الكبير الذي عمر حياة د.عبدالرحمن واستهلك يومه، لم يغفل عن أسرته وجيرانه وأقاربه وديار آبائه الأقدمين، ولأجل ذلك يقيم أبو سعد ولائم موسمية سنوية لأسرته من أهمها الإفطار الرمضاني، ويعقد جلسة أسبوعية مفتوحة في منزله، ومجلسه العامر مطروق من طبقات شتى، وهو عند إخوته بمثابة الأخ الوالد لرعايته وشفقته. وله مشاركات متواصلة ضمن أسرته النجدية العريقة، خاصة في رعايته المؤسسية المتقنة لأعمال صندوق أسرته النشط جدًا، وكذلك في إقليم المحمل ومدينة ثادق والتويم التي يرجع إليهما أجداده الأوائل، إضافة لتأثيره ووجاهته في المجتمع الزبيري بالرياض، وهي وجاهة نالها بجهده المضاعف مع وراثته التاريخية لها كما سيأتي. وهو بهذه الأعمال التطوعية يثبت أن مسطرة آثاره الحميدة واسعة متنوعة، وأن وجاهته الكبيرة شملت المهنة، والعمل الحكومي والخيري، والمجتمع الرسمي والشعبي، وأسرته، وعدة مدن ومجتمعات سعودية.

هذا غيض من فيض عن عَلَم موفق محبوب، علمًا أنه فيما يبدو قد ورث هذا الانبعاث الكبير والهميم للخدمة العامة المجانية من جده المباشر الشيخ الوجيه والمحسن المنفق أحمد بن عبدالله بن حمد بن محمد السويلم (1304-1389=1888-1969م)، وهو من سروات مدينة الزُّبير النجدية، وللجدّ أعمال انتفعت منها مدينة الزبير وسكانها في تأسيس المدارس، والمكتبات، والجمعيات الإصلاحية، ومؤازرة العلماء، والمطالبة بتأمين خدمات المياه والكهرباء، وتعبيد الطرق، وافتتاح أوائل الفنادق والمحطات والأسواق، وتنشيط الحركة التجارية، مع الحضور الأساسي في استقبال الملك عبدالعزيز للقادمين من أهالي الزبير إلى الحج، وفي استقبال الملك سعود إبان زياراته الثلاث للعراق -رحم الله الجميع-.

إن التاريخ سوف يحفظ للدكتور عبدالرحمن السويلم آثاره الميمونة في تأسيس وتمكين وتنشيط وإدارة أعمال وجمعيات مثل: الدبلوم العالي في طب الأطفال، والرعاية الصحية الأولية، وجمعية الأطفال ذوي الإعاقة، والجمعية الخيري لرعاية الأيتام “إنسان”، وجمعية عناية الصحية، وجمعية الحج والعمرة الصحية، وجمعية التوحد، والمركز السعودي لزراعة الأعضاء، وجمعية طب الأطفال، وجمعية البرهان لخدمة السنة والقرآن، وعضوية مجلس الشورى لثلاث دورات، إضافة لأعمال مجتمعية وتاريخية وتراثية جليلة، واجتذاب سروات المجتمع لهذه المؤسسات وللعمل الخيري والمجتمعي، وهذا شيء من حسنات هذا الرجل الفذ الموفق، الذي حظي بمكانة رفيعة لدى الملك فهد، والملك عبدالله -رحمهما الله-، وعند الملك سلمان -حفظه الله-.

والعجيب أن مَنْ هذا جزء يسير من سيرته يأنف من الحديث عن نفسه، ويرفض أيّ دعوة لذلك، ويعتذر بحجة أن لا شيء عنده، مع أن أيامه كلها حافلة بالإنجاز والعمل دون كلل حتى مع ضعف الجسد والبصر، وأحاديثه المختصرة فيها من لذيذ العلم وجميل التجربة وجليل التواضع، بلفظ واضح خالٍ من بهرج الادعاء، وخالص من شوائب التباهي بالإنجاز وإن كان حقًا، وقد ناصر عمليًا الضعفة وذوي الحاجات فقواه الله وأعانه على خاصة شأنه وعمومه، فاللهم احفظ تلكم الروح السمحة بما أسبغ الخالق عليها من كريم السجايا، واحفظ هاتيك الطلعة المضيئة المريحة للناظر، واحفظ لنا هذا النموذج وأمثاله؛ فالواحد منهم مثل سارية شامخة بالفضائل تسمو، ومثل نسمة عليلة لها فيضان من المحبة في النفوس يسري.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 08 من شهرِ رمضان عام 1445

18 من شهر مارس عام 2024م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. ‏السلام عليكم ورحمة الله واسعد الله صباحك بالخير ،،، حبيبنا الغالي أنت موفق بحمدالله ما شاء الله تبارك الله في هذه السلسلة من المقالات والاختيارات ،، لكن وجهة نظر أخرى ربما تقول لك حبيبنا : أن الكتابة عن الأحياء ربما تكون فيها بعض المحاذير الشرعية او المنطقية من الافتتان او العجب ،،، والذي أعرفه عن معظم التدوين التاريخي أن الكتابة هو لأعلام النبلاء من الأموات رحمهم الله،، وربما يكون هذا الرأي مني خطأ يحتمل الصواب ، وتحيات محبك .

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وجهة نظر مقدرة، لكني أسأل الله له ولنا ولكم الثبات، وهذا من حق الفضلاء علينا وهم أحياء، ولعلها من عاجل بشراهم.
      بالمناسبة: حين أكتب عن راحلين يقال لي: لم لا تكتب عن الأحياء؟!
      وسأكتب عن القسمين وغيرهم بإذن الله.
      ولكم الشكر مجددًا.

  2. أحسنت وبارك الله فيك، وشكراً لك على ما كتبته عن قامة وهامه كريمة العم الدكتور عبدالرحمن السويلم حفظه الله.
    تقبل تحياتي

  3. شكرا جزيلا على هذا المقال الضافي عن شخصية مهمة وأرى ان الحديث عن الاعلام الأحياء ينفع القارئ اكثر من الحديث عن الأموات فهو يلفت النظر لهم لتقديرهم اولا وللاستفادة منهم ثانيا. فكم من الشخصيات لم نعلم عنهم حق العلم الا بعد وفاتهم.
    فشكرا ثانية.

    1. شكرا لكم يا عبدالمحسن، والكتابة عن القسمين مهمة إذا روعيت المصالح واجتنبت المحاذير.
      حياكم الله دوما.

  4. شكراً على هذا المقال المتميز كالعادة ، شخصية فريدة متميزة، لا ازيد على ما سردت استاذنا الفاضل الاّ مامر علي من تجربة مع هذا العَلَم ،

    لدينا تجربة تأسيس لجنة صحية منبثقة من احد الجمعيات بأحد المناطق الطرفية وكان للجنة تعاون مع جمعية عناية بالرياض التي يرأس مجلس ادارتها دكتورنا الفاضل ، وبعد طلب والحاح وافق الدكتور عبدالرحمن ان يكون رئيساً شرفياً للجنة ولله الحمد بعد ان تمت زيارته في الرياض ، وبعد وقت قصير تفاجئنا بزيارته براً ، حفظه الله واطال بعمره على طاعة ، لمقر اللجنة للوقوف ميدانياً والتوجيه والتي تبعد مسافة 500 كم عن الرياض ، تعجبنا كثيراً من هذا الرجل وبهذا العمر ماشاء الله تبارك الله ، ومازال لديه الشغف لمتابعة اعمال الخير في كل مكان ، بل وكان معه حفيده ليعطيه درساً عملياً في التطوع وبذل الوقت والجهد لاعمال الخير ،

    حفظ الله الدكتور عبدالرحمن وسدده واطال بعمره على طاعة وجزاك الله خيراً استاذ أحمد وسلمت اناملك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)