إدارة وتربية مواسم ومجتمع

أهداف متقاعد!

Print Friendly, PDF & Email

أهداف متقاعد!

يقول صاحبي العزيز: قابلت قريبًا تقاعد مؤخرًا، فرأيته في إشراقة وسرور، وألق يغبط عليه، فسألته عن السّر وراء هذه الحيويّة، فأجاب: وضعت لنفسي بعد التّقاعد ثلاثة أهداف هي: السّفر، وختم القرآن، والمشي، فأصبحت أسافر للنّزهة والاستجمام، وأذهب للمسجد قبل الآذان بعشر دقائق يومياً؛ وبالتّالي أختم القرآن عدّة مرات شهريًا، والتزم بالمشي لمدة نصف ساعة على الأقل كلّ يوم، وهذا البرنامج معي في إقامتي وسفري، علمًا أنّ هذا المتقاعد لا يبدو من مظهره زيادة في التّدين، بينما قلبه معمور بالطّاعة.

ويردف صديقي قائلًا: ثمّ رأيت هذا الرّجل بعد سنة، فوجدته على ما هو عليه وأحسن، فهمست في أذنه متسائلًا عن أهدافه، وتعامله مع الملل والفتور، فبشرني باستمراره مع التزامه بإضافة هدف كلّ ستّة شهور، وعليه أضاف هدفين خلال الفترة الماضية، أحدهما الاستيقاظ قبل الفجر بقليل لقيام اللّيل، والثّاني صيام بضعة أيّام شهريًا، ومن نافلة القول أنّ القيام يطرد السّهر، والصّيام يقاوم الشّبع، وتبكير النّوم مع تخفيف الأكل من أسرار السّعادة والصّحة والإبداع.

أسعدتني هذه الرّواية خاصّة أنّها جاءت بعد لقائي مع مجموعة من المتقاعدين الأفاضل، لأنّ ثقافة التطوير الذاتي ونفع الآخرين تفيد المجتمع وأفراده، وبإمكان أيّ متقاعد أن يحدّد لنفسه أهدافًا تناسبه، ويشرع في تحقيقها، فهي له عمر جديد، بلذائذ متنوعة، خصوصًا حين تكون آثارها ليست حسيّة فقط، وغير مقتصرة عليه وحده، فما ألذّ العلم والحكمة، وما أكمل العيش في عز العبوديّة، وما أنفع الحفاظ على التّوازن في الصّحة والغذاء، وما أحسن ممارسة الرّياضات المناسبة كالمشي الذي له فضل على العقل، وتأثير على انشراح النّفس.

وإنّ التّشاؤم المرتبط بهذه المرحلة موجود في طبيعة الإنسان، وحاضر في كثير من الثّقافات، ولو نظر المرء لمرحلة التّقاعد باعتبارها جزءًا من العمر، سيقضيها الإنسان إذا طالت به الحياة، فحينها سيعيشها مستمتعًا، ففي الشّيْبِ لَذّاتٌ وَقُرّةُ أعْيُنٍ كما يقول الفرزدق، حتى وإن بكت الشّعراء الشّباب بأحسن المراثي على ذمّة أبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وحتى لو زجر المتنبي البياض طالبًا منه الابتعاد؛ فيكفي الشّيب فخرًا أنّه نور لصاحبه المؤمن يوم القيامة، وفي الدّنيا وقار، وسكينة، وتقدير.

ومن الكمال أن يضع المتقاعد من أهدافه ما يخدم به مجتمعه ماديًا أو معنويًا، فبعضهم يصرف جهده لإصلاح ذات البين، ومنهم من يتابع مطالبات مدينته أو منطقة سكنه لدى المؤسسات الحكوميّة، وفيهم من يتفرغ للتّأليف وإيقاظ الوعي، ويمضي جزء منهم نشاطه في أعمال تطوعيّة، وأبواب الخير كثيرة، واسعة، ترحب بمن يطرقها، وتفرح بمن يلج منها إلى عالم من البّر، والإحسان، والمشاركة.

وبما أنّي بدأت بقصّة، فسأختم بقصّة أخرى، أنبأني بها صديق قضى أكثر عمره الوظيفي في وزارة المالية، حيث سلّم شيكًا لرجل مسنٍّ عن تعويض حكومي بمبلغ ثمانين مليون ريال قبل عقدين تقريبًا، فنظر الرّجل الأشيب للورقة، وبصق عليها، وشرع يعاتبها لأنّها ما جاءت إلّا في خريف العمر! ولو فقه هذا المحروم، لعلم أنّ لكلّ عقد من السّنين خريف وربيع، وكان يسعه بهذا المال الوفير أن يصنع ربيعًا طلقًا، فيقضي ما بقي من حياته مبتهجًا، ويسعد أهله وأحبابه، ويقدّم شيئًا لمجتمعه وآخرته، فالّلهم دلّنا على دروب التّوفيق، وأجرنا من الخطل قولًا وفعلًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الثّلاثاء 14 من شهرِ صفر عام 1440

23 من شهر أكتوبر عام 2018م 

Please follow and like us:

6 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)