إدارة وتربية

نصائح كهل الإنجليز لفتى العرب!

Print Friendly, PDF & Email

نصائح كهل الإنجليز لفتى العرب!

هي مغنم قلّما يلتفت لها الناشئة والشباب؛ ثمّ يندمون عليها بعد أن يحلب الدهر أشطرهم وتعركهم الحياة في دهاليزها. ومن مزاياها أن الناس يحبون منحها في الغالب، ولا يبخلون بها كما يفعلون بغيرها، وفوق ذلك هي مجانية مع أنها ثمينة للغاية، ولا تكلّف أكثر من سؤال يُلقى من إنسان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وهذا المغنم باختصار هو استجلاء خبرات الناس وتجاربهم في الحياة، واكتساب العبر التي خرجوا بها بعد طول تطواف أيًا كانت مواقعهم وشهاداتهم، فالعمر وحده كفيل بإيجاد الحكمة والدراية.

وأذكر أن رجلًا قال لي: دأبت على سؤال كبار السنّ من أصدقاء جدي ووالدي بعد أن تجاوزوا الستين عن الشيء الذي ندموا على تركه، وعقب ذلك أحصر إجاباتهم التي تركزت حول موضوع واحد، وهذا الموضوع لن أكتبه حذار مغاضبة النساء ولا ملاذ منهنّ، فالنساء ذوات كيدٍ إذا كنّ مستضعفات؛ فكيف والعالم يدعي البحث عن مرضاتهنّ، أو يجتهد في إرضائهن والاسترضاء بهنّ؟!

كما أخبرني صديق من أقارب وزير ورجل دولة راحل أنه واظب على حضور مجلس قريبه، ويستمع بإنصات لأحاديث الشيخ التويجري، والوزيرين الخويطر والقصيبي، وغيرهم من المسؤولين، ولذا تعجب مديروه-وليس مدرائه- من ذهنيته التاريخية والإدارية الحية، ومن رجاحة عقله قياسًا إلى عمره الذي يعاني فيه لداته من غرارات الشباب ونزغاته. وربما أن القارئ الكريم يستذكر قصة الممرضة الأسترالية المختصة بمرافقة كبار السنّ، وكيف اعتصرت تجاربهم وخبرتهم ثمّ نشرتها في كتاب عاد عليها بالشهرة والمال.

كذلك حدثني جليس تجاوز الخمسين أنه عمل خلال شبابه في شركة إنجليزية قديمة التعاقد مع إحدى الوزارات المهمة، وذات مرة جاءت لجنة مراجعة للشركة، وطلبت هذا الموظف السعودي للنقاش ضمن إجراء اعتيادي شمل غيره، فوفق الله صاحبنا للتعريج على مديره الإنجليزي الأشيب الكهل- والكهولة مختلف فيها لكنها في بعض الأقوال تقع بين الرابعة والثلاثين والواحد والخمسين خلافًا لما يظنّ بعض الناس-، واستنصحه قبل أن يهبط على اللجنة أو تهبط هي عليه.

فرحب الإنجليزي بسؤال الفتي وطلبه المشورة، وقدّر له هذا المسلك الرشيد النادر، وأعجبه مسعاه لاستمزاج رأي مديره، وحرصه على استلهام لباب معرفة الآخرين وحصيلة معارفهم، ولذلك محضه النصيحة المخلصة، وقال له بحزم: عليك أن تراعي ثلاثة أمور مع هذه اللجنة، ومع كل حال مساءلة تشابهها:

  • اجب عن السؤال فقط وليس عن شيء لم تُسأل عنه.
  • ليكن جوابك قصيرًا ما أمكن ولا تسترسل ولا تفصل.
  • إذا قدرت أن تكون في المنطقة الرمادية فلا تتردد، وخلاصة هذه المنطقة ألّا تحدّد رقمًا أو تاريخًا أو اسمًا، ولا تجزم بشيء البتة.

ثمّ خرج الشاب من مكتب المدير، وأجرى اللقاء مع اللجنة واضعًا ثلاثية رئيسه نصب عينيه، فانتهت المقابلة على خير وبسلام وبرد وأمن، وبعدها قرّر اعتماد هذه السياسة في كثير من حواراته ولقاءاته الرسمية وغير الرسمية، حتى غدا في مجتمعه كأنه سياسي إنجليزي، أو دبلوماسي عركته السفارات ووزارات الخارجية. ولم يفوّت على نفسه الفرصة بالترداد على مكتب الكهل الإنجليزي لاستشارته والاستنارة بما لديه من آراء مقبولة.

ولذا سأله ذات مرة: ماذا تأخذ على طريقة التعامل بيننا نحن العرب؟ فقال الإنجليزي: نحن الإنكليز لا إشكال لدينا إذا طلب الواحد خدمة أو شفاعة أن نقول له: لا نستطيع، ونعتذر منه، فيتقبلها بصدر رحب، وأما أنتم فلو قال أحدكم لطالب الخدمة لا أستطيع أو لا لحمل في نفسه عليه؛ ولذا تتعهدون لبعضكم بالخدمة حتى التي لا تقدرون عليها أو تبدو مستحيلة، وهذا العهد و”طقة الصدر” تُرضي الطرف الآخر حتى لو لم يحرك المتعهد ساكنًا لأجله! ومع أني سمعت هذه الحكاية من راويها قبل مدة إلّا أني تذكرتها عندما سقت قصة عن رجل وجيه جدًا؛ فقفز إلى جواري أحد الحاضرين طالبًا الشفاعة في موضوع يخصه، فقلت له: لا أعرفه ولا يعرفني؛ وإذ ذاك تجهّم مجاوري لي دون ذنب جنيته، وإنما هو الصدق والصراحة فقط!

ويبدو أن الإنجليزي تجلى وأردف مصارحًا الشاب اليعربي: أنتم تحفلون بالألقاب كثيرًا وتصرون على إيرادها بمناسبة وبدون مناسبة، بينما نحن نحب ذكر الأسماء مجردة من سوابقها ولواحقها ولا نجد في ذلك عيبًا أو نقصًا، وساق له أمثلة شعبية ورسمية. وقد استرجعت بناء على مقوله حكاية قالها لي صديق مختصرها أنه صار عضوًا في لجنة دولية فيها مشرفه أيام دراسته العليا، وحين أُعدّ المحضر اعترض صاحبي لأن اسم أستاذه مكتوب دون لفظ “بروفيسور”، فقال له أستاذه: شكرًا لتقديرك؛ فأنا بروفيسور في تخصصي فقط، وأما في غيره من الموضوعات فلست كذلك!

ثمّ يكمل الراوي قائلًا: بعد سنوات حانت لي فرصة وظيفية جيدة، فذهبت لمستشاري وأنبأته عن الفرصة، وأني أخطط لطلب إجازة لمدة ستة شهور كي أجرب العمل الجديد، وبعدها أرى ما هو الأنسب لي. وانصرفت ظنون صاحبنا القريبة من الجزم إلى أن الإنجليزي لن يوافقه على خططه فقط، بل وسيعجب بحنكته! بيد أن المدير الإنجليزي قال للموظف العربي: أنت موهوب وذو قدرات ونتمنى بقاءك معنا، ولكن إذا عرضت لك فرصة ودرستها من جميع جوانبها، فاحزم أمرك، واعزم رأيك، ولا تجعل للتردد والتلكؤ مدخلًا عليك؛ فوجود خطّ رجعية سيصيبك بالتراخي والفتور، خلافًا للمضي في أمر لا عودة فيه بعد أن يستبين لك رشده ومناسبته، ولكأن الإنجليزي يقول له: خذ الكتاب بقوة، ولا تبحث عن الأعذار مسبقًا.

بيد أن محدثي أراد الّا يجعل سياق مروياته كلها في الثناء؛ ولأجل ذلك قال من معايشة الإنجليز وزمالتهم لعقد من الزمان واصفًا طبائعهم: يغلب عليهم أنهم شعب حذر في كل شيء، ودقيق للغاية، ويحسبون القرش والكلمة، ولا تعنيهم كثيرًا مسألة إقامة العلاقات وإدامتها دون مصلحة ظاهرة، ولديهم بخل ظاهر بإبداء المشاعر، وضنانة بإعطاء المعلومة من تلقاء أنفسهم، وإذا اضطروا للإدلاء بمعلومة جاءوا بها ناقصة إلّا إن سأل الطرف المقابل وألح. ويحبون التوثيق ولو بالكتابة على علبة منديل أو سجائر، ويقدسون الاستقلالية، ويلحفون من أجل التأكد من المعلومات والأخبار، ويكرهون الفضول الطفيف، ونطاق المجاملة عندهم ضيق محصور، ولا يخفى أن هذه الصفات يصعب تعميمها، وفي نسبة بعضها للمثالب قولان.

أما أعظم منغصات تجارب صاحبنا مع مديره وزملائه الإنجليز، فهي أنهم قوم لا يتورعون عن إخراج ما في أجوافهم من غازات ورياح دون مراعاة لجليس أو مكان أو حال، حتى لو صاحب تلكم الريح الكريهة أصوات مفرقعات مجلجلة! وبعد أن استنكر الرجل العربي هذا القرف الإنجليزي، أجابه مديره الكهل بكل برود معللًا صنيعه وصنيع قومه بأنه فعل حيوي طبيعي، وأن الخطأ هو حبسها حتى تنفجر في الدماغ فتفسده كما يفعل العرب طبقًا لكلام الأعجمي! ويواصل فلسفته لعادتهم القبيحة بأنهم أناس يخرجون ما يكرهون أولًا بأول فتنتفي المشكلات، ولا يحجزونه حتى يزيد الاحتقان ويعقبه فجأة الانفجار.

هذا شيء من خبر الإنجليز وطريقتهم في العمل والحياة، رويتها كما فهمتها، وقد يكون لمن أطال عشرتهم والسكنى في ديارهم رأي آخر، وأيًا يكن فمن البدهي أن نقتبس من حسنات الأمم وتجاربها وخبراتها وحكمتها خاصة تلك الأمم التي سادت العالم، أو ذات الحضارة الإنسانية العميقة، والضاربة في القدم، والموسومة بالعراقة، شريطة ألّا نستأسر لهم ولا لها، وإن كانوا أكثر تطورًا بالماديات وظاهر الحياة الدنيا؛ فهم في النهاية عن الحياة الأخرى غافلون، ومن كفر بالله أو أشرك فهو أضلّ من بهيمة الأنعام، والعجب كل العجب ممن يسلّم لهم دون تمحيص أو فحص، وأعجب منه من يسعى في ركابهم المشحون بالغدر والسوء والتاريخ المظلم بالمظالم والعدوان دونما حذر أو تحوّط.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الخميس 05 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443

09 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)