مواسم ومجتمع

إشارات من أرض الملعب!

Print Friendly, PDF & Email

إشارات من أرض الملعب!

كأس العالم ومباريات المنتخبات خبر يومي يتسامع به الكافة حتى من غير المتابعين، ولا بأس من التقاط بعض الإشارات اللافتة من أرض الملعب حتى لو لم نحضر وقائع معارك البساط الأخضر، أو لم نتابعها خلف شاشة في منزل أو مقهى أو ساحة أو استراحة؛ ففي ذلكم الملعب تلميحات وتلويحات وعلامات وإشارات، ومثلها قمين ألّا يغيب عن البال، أو يُختصر في لعبة تبدأ ثمّ تنتهي، وقد يكون معها حماسة باهرة تشعل الأجواء، أو تبتلى بالبهوت بسبب خفوت الأداء، وتلك سمة لمجمل أحداث الحياة.

فأول أمر يلفت الانتباه أن اللعبة والملعب محكومان بنظام فيه أسس وأركان، وحدود وضوابط، وإنذار وعقوبة، فالأمر فيها ليس سبهللًا بلا زمام ولا خطام ولا لجام، وعليه فإن الملعب يخبرنا بصراحة عن سقوط دعاوى الحرية التامة، ولو كان للحرية الكاملة موضع قدم لما وجد أحسن من الملعب مكانًا لها! ومع صرامة الأحكام المنظمة للعبة كرة القدم؛ فإن المتأمل فيها سيعرف أن بعض الوقائع ليس لها حكم صريح؛ فلا مناص من الاجتهاد إذ الحوادث أكثر من المدون والمقنن مهما اجتهد الفقهاء والخبراء في التقصي والافتراض.

ومما نلاحظه في الملعب أن حارس المرمى صمام أمان لفريقه، ومكانه يجب ألّا يخلو ولو حلّ به لاعب آخر تاركًا موقعه الأساسي. وتقع على الحارس مسؤولية حماية شباك المرمى ويشاركه فيها الجميع، وله خصوصية في تعريفه الدقيق بقانون اللعبة، وتميز لون ملابسه، وأحقية استعمال اليد ضمن مساحة معينة، وتقف المباراة لأجله بمجرد إصابته مباشرة. وينكشف الملعب له فيعرف موارد الخطر، ومكامن الخوف والحذر، ولكلمته أهمية لدى زملائه كافة، فيا أيها الناس احرسوا أبوابكم المادية والمعنوية بأشد ما تستطيعون، وقدّروا الذين يحرسونكم ويحرسونها حقّ القدر سواء كان صنيعهم العريق بالحراسة المعنوية أو المادية، وأيًا كانت طرائقهم بالحراسة الناعمة أو الصلبة.

ثمّ يأتي بعد الحارس منظومة دفاع تتألف من أربعة فيهم قلبان وظهيران، وإن الدفاع عن الحمى لمحمدة لمن دافع ورابط حتى لو أغضب الخصوم، ومنقبة لمن أكرم أولئك المدافعين واعترف لهم بالفضل وتحريز الجبهة من أن تغدو من الكلأ المباح يمرح فيه المهاجمون وغيرهم من ذوي الأغراض التي تستهدف ما نحميه ونقاتل دونه، ولذا كان الدفاع مكرمة يرتقي بها الإنسان، وترتفع عنه المؤاخذة أحيانًا، وإن افترى عليه الأعادي، أو أقذعوا له بالهجاء، والعجب لا ينقضي من قوم لا يدافعون، وأعجب منهم فئام يلومون المدافعين، ويرجفون بهم ويخذلونهم!

ولمركزية الدفاع في الميدان؛ فليست هذه فقط هي سبل الدفاع؛ فمنها حائط الصدّ الذي يتنادى له اللاعبون للتضييق على قذائف المنافس؛ حتى أن بعض أفراد الصمود والصدّ يقوم أو يستلقي أو يتوسط بين قيام وقعود، وكل هذا لمنع الرماة الآخرين من رؤية الهدف، وحجبه عنهم، كي لا يصلوا إليه بسهولة فينفذوا إلى أحشائه؛ وثمت الخسران والعطب، وكم في حجب من يزينه الحجب، أو يجب له أو عليه الاحتجاب من فضائل وإن حاول المفسدون دمغها بالشين، ووصمها بما هي منه براء.

عقب ذلك تنفسح مربعات البساط الأخضر إلى لاعبين في الوسط على اختلاف مسمياتهم ومهامهم، فمنهم من يسند الدفاع إذ نشط هجوم الفريق المقابل؛ فيفسد على أولئك المحاربين محاولاتهم الهجومية، وفيهم من يصنع الفرص للمهاجمين من فريقه كي يغتنموا منها واحدة أو أكثر لتسجيل الأهداف وهز شباك الخصم. وفي بعض التدابير يكون أهل الوسط أكثرية من ذوي الخبرة والحنكة؛ إذ هم ضابط التماسك والتوازن، وأكثر الساعين في الملعب جيئة وذهابًا، وإن تقليلهم أو سحقهم أو إرباكهم وبلبلتهم لمؤذن بانكشاف الدفاع وما وراءه، أو سبب لضعف الهجوم وفقر الفرص السانحة له، وفي قوتهم ومتانتهم خير للنادي إن في جبهته الدافعة، أو في طليعته المهاجمة.

كما يتمركز في مقابل دفاعات الخصم كتيبة من المهاجمين الشجعان، يتحينون الفرص، ويرمقون غفلة من الرقيب، فمنهم رأس حربة خارق، وأجنحة طيارة، وأقوام يمتازون بالسرعة والمباغتة، ولديهم مهارة القنص والتقدير، وكم من مرة ومرة صار المستقبل أمانة في أقدامهم أو في رؤوسهم، وأصبحوا على ثغر وإن كانوا في المقدمة والأمام؛ ذلك أن نجاحهم في الإصابة يمنح الوسط حرية أكثر، ويجلب الطمأنينة الحذرة إلى الدفاع، والسكون المترقب للحارس الأمين.

ومما لا تخطئه عين العارف فضلًا عن المتابع، ضرورة التعاون بين اللاعبين قاطبة بلا استثناء؛ فالمباراة لا تخصّ أحدًا منهم دون الآخر، ومن التعاون التنسيق، وسدّ الخلل، وهجر التلاوم إبان النزال واللعب، وتبادل الأدوار فالظهير مثلًا امتداد للجناح والعكس، وإقالة العثرة، ورفع الحماسة، ودفع الغوائل النفسية المثبطة، والنظر لمصلحة الجموع والتعالي على المصلحة الفردية. ومنها فهم توجيهات المدير الفني وتنفيذها، والاتفاق على تقنيات في اللعب الدفاعي مثل مصيدة التسلل للإيقاع بالفريق المقابل، وكذلك وسائل في الغارات الهجومية مثل الانكباب على منطقة الخطر لدى الخصم مع أيّ هجمة على شباكه، وفيها كيفية إضاعة الوقت بطريقة نظامية، وتفتيت حماسة الخصم، وتشتيته داخل المربع.

ثمّ إنه يستبين في الملعب أهمية أن تكون التغييرات ملائمة في أطرافها وأسبابها وتوقيتها؛ فالتغيير لأجل التغيير خلاف الحكمة، وربما يؤول إلى مضرة أكثر من النفع. ومن بدائع شؤون الملعب أن بعض أعضاء الفريق يظلّ حبيس قوائم الاحتياط وكراسيه، ثمّ تُكتب له المشاركة فيصبح النجم الحاسم “المجحفل”. ومما نلحظه أن بعض اللاعبين حصان رابح يمكن أن يؤدي أحسن الأداء في غير ما خانة حتى في حراسة المرمى، ولذلك يصير مثل هؤلاء “الجواكر” أحرارًا فوق أرض الملعب يجوبونه حسب المصلحة، خلافًا لآخرين تتحقق فيهم صفات خاصة للمهمة المنوطة بهم دون زيادة؛ فلا يبرح الواحد منهم منطقته.

ولبعض اللاعبين مهارة فائقة في ركل الكرة من بعيد، أو تسديد ضربات ثابتة قريبة أو ركنية، ومنهم من يحسن اللمسة الواحدة، أو يجيد المراوغة، ولدى بعضهم قوة بدنية تخيف الخصم، أو لياقة يستفاد منها في حال امتداد المباراة التي قد يطول فيها الوقت البديل عمّا ضاع، أو يفرض فيها أشواط إضافية وركلات ترجيحية، وإن الاحتفاء بالفروق الفردية، واستثمارها، لصنيع رشيد بمثله تقوى المجتمعات والأمم، ويبنى التكامل بين أبناء البيت الواحد الصغير والكبير، تمامًا كما هو الحال مع فرق كرة القدم.

كذلك من إشارات الملعب أن التدبير في جلّ الأمور ليس صنفًا واحدًا ثابتًا، بل فيه أصناف ومناهج وأشكال، وما أجمل التنوع المقبول ضمن إطار يقود لغاية مرادة واضحة. ومنها أن حماسة الجماهير مؤثرة، وأهازيجهم تشعل الملعب، وعليه فيجب ألّا يغفل اللاعبون عن العامة فهم خير من النخب في كثير من الأحوال. وإن تركت أشياء كثيرة من إشارات الملعب فلن أغفل عن الحكم الذي يحتاج حتى مع ضبطه للقانون إلى مساعدين بجواره، وآخرين من دونهم، وشاشات وذكاء اصطناعي، ولا يجوز له الاكتفاء بنفسه والاستغناء عن المعاونين الأمناء،  وعقب ذلك كله فلن يسلم من غضبة المراقبين، ومن التهم الجاهزة؛ لأن من حكم فقد استهدف ممن هزم وغاب عنه الإنصاف.

ومن عجائب الملعب أن بعض المباريات ليس لنتيجتها شرط؛ فهي قابلة لأيّ شيء، وبعضها لا مناص من نهايتها بفوز أحد الفريقين حتى لو آل نزالهما إلى ركلات ترجيح تبلغ القلوب معها الحناجر. ومن غرائبها أن بعض المباريات تحسم شأن غيرها، وبعضها يكون لأحد الفريقين خيارا فوز أو تعادل، بينما ليس لدى الثاني سوى الفوز وربما بعدد من الأهداف أحيانًا، ولا تخلو بعضها من كونها زائدة منزوعة الأثر؛ بيد أنه لا مناص من إقامتها، وإنها لشبيهة ببعض شؤون الدنيا وأهلها، وما أحرى أولى البصائر بضبط الوضع وتخمين المآل.

هذه يا قوم إشارات وإضاءات من داخل الملعب، مع أني في حياتي لم أدخل ملعبًا قطّ لمشاهدة مباراة، ومنذ زمن بعيد لا أتابع مجرياتها، وإن كان بعض من حولي يطلعني على الأهداف، والمشاجرات، والحركات اللطيفة من اللاعبين أو الجمهور، والكلمات البديعة من المعلقين والمحللين، وما سوى ذلك فليس لي سوى سماع نقاشات وحوارات، وأغلبه سماع المضطر، وقراءة سريعة، وهذا المقال دليل على ما ذكرته، وآمل أن يكون محتواه مفيدًا ليس على أراضي الملاعب الواسعة فقط، وليس لمن يلعب فوق ساحاتها؛ بل لي ولكم ولمن نظر فيه ولو بعد سنين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 03 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

27 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)