سير وأعلام

أسماء: واحدة من تلك الأسماء!

Print Friendly, PDF & Email

أسماء: واحدة من تلك الأسماء!

سنمضي جميعًا من فوق هذه الأرض، ونستقر في بطنها أو في موضع منها، والله العالم مدة ذلك المكث إلى حين البعث بعد اللبث، وبالتالي فلا فرق بين بني آدم في هذا المصير المحتوم، والطريق المرسوم للكافة بلا استثناء، وإنما الفرق فيما سيجده المرء في وحدته الموحشة، وما سيكون عنه من أحدوثة بعد أن يُترك وحيدًا في جدثه، وما سيراه في صحيفته إذا تطايرت الصحف يوم القيامة.

أقول ذلك وقد طرق الأسماع خبر رحيل امرأة صالحة وزوج رجل صالح وأم أبناء صالحينأحسبهم ولا أزكي على الله أحدًا، والله يرحم الأستاذة المربية، الداعية القدوة أسماء بنت عبدالعزيز العييد، زوج الشيخ خالد الشريمي، وأم عبدالرحمن وإخوانه، التي رحلت عن عالمنا يوم أمس، وصلي عليها عصر اليوم في جامع تشهد جدرانه وسواريه بما كان لها فيه من دروس ومحاضرات وتوجيهات، وفيها وفي أضرابها على اختلاف الأسماء من النسمات المباركة التي تسمو نحو السماء، نردد قول الشاعر في زوجته أسماء:

كريمة الأصل والأعراق مترعة *** بالنبل حيّا الذي بالفضل رباك

وقد تسارعت طالباتها وزميلاتها لنعي الأستاذة الراحلة، ووداع الصديقة المتوفاة، مع الشهادة بما لها من أعمال صالحة، ومبادرات خيرة، ولعلّ عندها من خفي الأعمال، والخبيئة من الصالحات، وعبادات القلب والجوارح، ما هو أعظم مما قرأناه في التغريدات، حتى ازدحم المصلون في جامع الملك خالد عصر هذا اليوم الأربعاء للصلاة عليها قبل دفنها في مقبرة شمال الرياض رحم الله ساكنيها وجميع المسلمين، وسيظلّ القبول من الأسرار التي لا يدرك كنهها أحد.

فمما ذكر عنها نستطيع أن نتصور حياة هذه المرأة التي أمضت عمرها مختفية عن الجموع، بارزة في محيط بنات جنسها، بروز التواضع والقرب؛ والمحبة واللطف، حتى أثنت البنات والنساء على بشاشتها ورفقها ولين كلامها، بل قالت إحداهن: إن بسمتها تجلب الطمأنينة والراحة، وقررت أخرى بأن هذه الأستاذة لا تنسى، وأثرها من الراسخ الذي يبقى، وقالت أخريات بأن كلماتها في مصلى المدرسة مع صلاة الظهر نافعة مؤثرة؛ فلله ما أشدّ تأثير كلماتها الحانيات المباركات على طالباتها مع بُعد العهد، والعبرة يا معشر المصلحين: أنكم لن تسعوا الناس بشيء أجلّ وأخلد من الخلق الحسن، ويا له من مغنم غير مكلف، ويدني صاحبه من مجلس الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام في الجنة.

ولها عناية بطلب العلم والقراءة إذ صارحتها فتاة بخوفها من اضطرارها للانقطاع عن الدراسة فاقترحت عليها مخرجًا بديلًا، وأشادت أخريات ببراعة تدريسها مواد اللغة العربية، حتى شغفت الطالبات باللغة ودروسها وأجرها على مولاها. بينما أردفت أستاذة جامعية بأن الراحلة أثرت عليها في يفاعتها، ولم تكتف بذلك؛ بل حثتها على الدراسة الشرعية مع صدقالنية، وحفزتها لإكمال دراستها العليا، ولم تعلّل ذلك بتحصيل وجاهة، أو نيل مال، أو ظفر بوظيفة، وإنما لتعليم البنات، ورفع الجهل، وإصلاح القلوب، فيا أيها الدعاة: إن الدبن والدنيا مترافقان متصالحان، فما أحوجنا لإصلاح الدنيا والدين معًا، والتوفيق من الله.

كما كان للراحلة باع في الدعوة والتعليم الشرعي بالمساجد والمدارس، ونصيب من خدمة القرآن الكريم ودور تحفيظه ومحاضن تربية الفتيات القانتات. ولها حظٌّ من التدريس النظامي وإدارة المدارس بإخلاص وإقبال حتى لو تضررت صحتها من ذلك؛ فلم تسمع لنصيحة طبيب بالبعد أو التخفيف، وإن الروح المجاهدة لا تقعد ولا تغادر ميدانها إلّا مكرهة أو بانقطاع النَّفس؛ وهكذا كانت أسماء التي أصرت على الثواء والإقامة لتحقيق مطلوبها الأعلى إلى أن قدّر عليها الابتعاد بسبب مرض نهايته الموت، فآذنت بالبين وهي المحبوبة من أخواتها بلا ملل يشوب سالف البقاء.

إن وجود الصالحين المصلحين مما يزين الدنيا، وينير الآفاق، ويدخل السرور إلى النفوس، ويطمئن الآباء والأمهات، ويكدّر على الشياطين والمفسدين، فما أكثر بركاتهم على مجتمعاتهم وأناسهم، وما أحسن سيرهم ومسيرهم بالخلق الحسن السجيح، والسماحة والنبل وسعة الصدر الفسيح، مع قلب معمور بالإيمان واليقين، وعقل مستضيء بالعلم والفهم والوعي، وبذلك يمكن للمرء أن يسعى جهده في التعليم والتصحيح، والتغيير الرشيد المبارك، أو يستطيع الاحتواء، والتخفيف من الجنوح، وردّ الشارد، ودلالة الحائر.

وها قد رحلت أسماء بعد أن صبرت واحتسبت، وعلّمت وأصلحت، وربّت وبنت، وأشاعت في محيطها عبادتي الشكر والصبر، ولربما أن في رفيقاتها وثمارها وآثارها مَنْ سيديم عملها ويحول دون انقطاعه بالقدوة الصالحة، وبمواصلة المسير على الخطى، وتعاهد الأجيال بالتربية والتعليم، ومدافعة السوء المصوب للمرأة المسلمة، وذلك أجر لها ومثوبة، وفوق هذا كله ما سيكون للراحلة من دعوات وصدقات وأوقاف وأعمال صالحة.

ويضاف لمآثرها وآثارها أن وجود أمثالها قرة عيون الموحدين، وبهجة قلوب الأبرار، وشفاء صدور المؤمنين، فكم تدخل هذه النماذج السرور، وتشفي غيظ القلوب، وتبرد على النفوس من شدة الحر، وتكشط كدر النصب، وتساعد العامل على الاستمرار مادامت هذه هي الثمار والنتائج، هذا غير ما ستجلبه هي وأخواتها المرابطات على ثغور التربية والتزكية من تنغيص ومراغمة لجمع النفاق والكفر؛ وإنه لجمع خائب سيهزم في يوم آت ويولون الدبر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 18 من شهرِ صفر عام 1444

14 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحم الله المربية اسماء بنت عبد العزيز العييد. اللهم اغفر لها وارحمها واجعل مثواها جنة الفردوس . ولااهلها عظم الله اجركم والله يجبر مصابكم ويلهمكم الصبر والسلوان
    اخت لها في الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)